الرسائل الورقية.. مضمون أعمق من الكلمات
بدأت قصة شغف راما وتعلقها بالرسائل الورقية منذ 12 عامًا، حين كتبت قصيدة صغيرة لا تتجاوز الخمسة أسطر وأهدتها لوالدتها في عيد الأم، وباتت الرسائل تحمل رمزية خاصة وإحساسًا لديها، وتواظب عليها حتى عام 2024، في وقت يكاد فيه يندثر اللجوء إلى الحبر من أجل خط الحروف على سطور الورق.
“ما أكتبه بيدي وأخطه بحروفي وأشكالها يمثلني أكثر من أن أكتب أي شيء اعتيادي خلف الشاشة”، كلمات قالتها الشابة التي تقيم في تركيا كفيلة بأن تظهر حبها للرسائل الورقية، لأنها ترى فيها انعكاس لشخصيتها وفكرها وما هو أعمق من مجرد كلمات تُكتب فقط.
وقالت راما (21 عامًا) ل، إن الرسائل الورقية تحمل طابعًا خاصًا متفرّدًا، يساعدها على صنع ذكريات حقيقية بعيدة عن وهم وزيف العالم، وتلجأ لها لأنها تشعر بقدسية أن يكتب الناس بخط يدهم ويقرأها الآخرون، فالرسالة الورقية من وجهة نظر الشابة تحمل روح الشخص وأفكاره داخلها.
بعمر الثامنة كانت رسالة راما لوالدتها بداية تعلقها بالرسائل الورقية حتى اليوم، وصارت الرسائل طريقتها في التعبير عن الحب والامتنان، وصارت عزاءها في كل شيء.
وتهدي الشابة أصدقاءها رسائل في أعياد ميلادهم ومناسباتهم المختلفة، وتكتب رسائل لنفسها أيضًا وتحتفظ بها، وتكتب رسائل إلى شريك حياتها المستقبلي (حبيبها)، مضيفة أنها على يقين وإيمان بأن رسائلها الورقية وما تتضمنه هي من سيجعلها خالدة وأبدية في قلوبهم.
ولا تنكر راما أن كثيرين لهم نظرتهم المختلفة تجاه علاقتها مع الرسائل الورقية، ويعتبرون كتاباتها إضاعة للوقت في زمن السرعة والتطور، إلا أنها تفضل أن تكتب رسالة ورقية في يوم كامل على أن تكتب رسائل لا روح فيها ولا حياة ولا تمثل شخصيتها في خمس دقائق.
تمثل الرسائل الورقية الحياة الصافية التي لا شائبة فيها، حيث يجلس الإنسان مفكرًا في انتقاء المعاني وتوظيفها لتدخل إلى قلب القارئ دفعة واحدة فيشعر بها ويغبط لأجلها راما – جامعية سورية في تركيا |
مشاعر بقلم المحبوبة
لدى الشاب الذي تحبه راما وتنتظر الزواج به عقب تخرجها من الجامعة 14 رسالة منها، أهدته إياها على فترات زمنية متقطعة حين كانا يلتقيان في تركيا قبل سفره إلى ألمانيا.
وتحمل كل رسالة لونًا خاصًا، وعطرًا ثابتًا، وذكريات اللقاء الذي جمعهما في أمكنة متعددة من بحر ورصيف ومقهى وحديقة وطريق، وتتضمن في سطورها مشاعر وتوصيفات لعاشقين جمعهما القدر.
قالت الشابة إن هذه الرسائل هي كنزهما الثمين، لافتة إلى أن رمزيتها لا تقتصر فقط في التعبير عن الحب ووصف العلاقة، فهي باقية مقارنة بالكتابة الافتراضية، ووصفتها بأنها “مشاعر مسكوبة على الورق”.
وكذلك، تلجأ غرام (26 عامًا) من سكان حي السبيل في درعا المحطة إلى الرسائل الورقية في مراسلة خطيبها عدنان المقيم في الأردن، ورغم محادثتهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنهما اتفقا على إرسال الرسائل الورقية ليكون لهذا التواصل عمرًا أطول ضمن ذكرياتهم.
وقالت غرام ل إنها ترسل لخطيبها رسالة ورقية بوتيرة غير ثابتة من خلال سائق يعمل في نقل رسائل “الهاند ميد” والمراسلات الأخرى والهدايا بين سوريا والأردن، معتبرة أن الرسائل الورقية كلمات حقيقية وحيدة في عالم ” كبسة زر”، لافتة إلى أنها كانت تحذف الرسائل الإلكترونية في لحظة غضب، لكنها تعجز تمامًا عن لمس رسالة ورقية بقسوة.
وتحافظ غرام على الرسائل كما فعلت والدتها التي تحتفظ برسائل والدها إلى اليوم ضمن صندوق خشبي، فالرسائل بحسب قولها تحمل عطر صاحبها ولمست يده، ويمكن احتضانها وكأنك تحتضن كاتبها.
من طلابها
رباب (28 عامًا) معلمة مدرسة، قالت ل إنه لا يكاد يمر يوم إلا وتحظى برسالتين على الأقل من طلابها في المدرسة التي تعمل بها بمدينة اللاذقية، تضحكها براءتهم وأخطاؤهم الإملائية، إلا أنها تشجعهم على كتابة المزيد منها.
وترى أن من يكتب تلك الرسائل يمتلك موهبة كبيرة وإحساسًا عاليًا، لذا يجب تشجيعه، كما أنها لم تمانع إرسال رسالة لطالبها في الصف الثالث الابتدائي عام 2023 بيوم عيد ميلاده، حين أخبرتها والدته عن موعد ذكرى ميلاده، وقالت لها إنه كان متأكدًا من أن معلمته ستبادله رسائله في هذا اليوم.
رباب لم تتلقَّ طيلة حياتها أي رسالة ورقية إلا من طلابها، ففي فترة مراهقتها كان الموبايل والرسائل النصية السريعة هي الوسيلة، وكان عصر الرسائل الورقية قد ذهب حسب قولها، لذا لا تعتقد أن هناك أهمية لتلك الرسائل اليوم.
لكن الشابة تتذكر في فترة طفولتها، كيف كانت الرسائل الورقية القادمة من ابن عم والدها تصل من مكان إقامته بالسويد، بشكل متواتر بمعدل رسالة كل ثلاثة أشهر، وكانت الرسالة عبارة عن بطاقة تحوي صورًا ملونة وخلفها مكتوب القليل من الكلمات، مرفقة برسالة أخرى طويلة، وكانت تصل عبر البريد.
راح زمنها
لا تتذكر ناديا (43 عامًا) متى آخر مرة كتبت فيها رسالة ورقية، إلا أنها متأكدة بأنها لن تكتبها مجددًا، وترى أنه بوجود الإنترنت ورسائل الجوال العملية والسريعة، لا حاجة أبدًا، حتى إلى الحنين لأيام الرسائل الورقية.
وقالت ناديا التي تعمل في القطاع العام وتعيش في مدينة بانياس، إنها وغالبية أبناء وبنات جيلها، كانوا يتبادلون الرسائل الورقية، تسعينيات القرن الماضي، في فترة المراهقة، وكانت هدية عيد الحب وقتها، عبارة عن رسالة ورقية وشريط كاسيت ووردة، وفي بعض الأحيان دب صغير.
وذكرت أن دفتر الذكريات كان شائعًا جدًا تلك الفترة، وهو عبارة عن دفتر مخصص، يكتب فيه الأصدقاء الرسائل لبعضهم البعض، ويعبرون عن مشاعرهم من خلال كلماتهم المدونة عليه، بينما كانت رسائل الحب بين العاشقين على ورقة منفصلة خارج الدفتر، لسهولة تخبئتها عن أعيّن الأهل، الذين كان غالبيتهم يفرض رقابة صارمة على الأبناء بفترة المراهقة.
وفي حال فكرت السيدة بكتابة رسالة اليوم، فإنها ستكتبها لأمها الراحلة، تخبرها بها عن مدى امتنانها لها وشوقها لرؤيتها، مع عدم إنكارها للقيمة المعنوية التي تحملها الرسائل في نفوس الآخرين.
فن الرسالة
تعرف الرسالة بأنها فن من الفنون الأدبية المعروفة منذ العصور القديمة، ويتم من خلالها تبادل ونقل المعلومات بين جهتين محددتين كالأصدقاء، والملوك، والجهات الرسمية، وغير ذلك، وقد تعددت أنواع نقل الرسائل فيما مضى فالبعض كان يرسل الرسالة مع وفد رسمي، بينما استخدم البعض الآخر الحمام الزاجل في نقل الرسائل.
وفي العهد الإسلامي تم إنشاء البريد من قبل معاوية بن أبي سفيان، أما في العصر الحديث فقد تطورت الرسائل، وتم إنشاء مكاتب البريد، كما تعددت الوسائل التكنولوجية في نقل الرسائل منها البريد الإلكتروني وتطبيقات الدردشة بأنواعها.
ويعتبر كتاب “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان” واحدًا من أبرز كتب أدب الرسائل في الوطن العربي، ليس لأن المراسلات جرت بين كاتب وكاتبة، عاشق وربما عاشقة، بل لأنها كُتبت بيد وقلب غسان كنفاني بالذات.
ومن خطابات ورسائل العشق التي كتبها غسان كنفاني لغادة السمان هي “تعرفين أنني أتعذب وأنني لا أعرف ماذا أريد، أنني أحترق وأتعذب، تعرفين أنني غارق في ألف شوكة برية، ولكن أنت فوق ذلك كله، يا من قبلك لم أكن، وبعدك لست إلاّ عبثًا، بعدك ليس إلا الخواء، دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل”.
وتتعدد أنواع الرسائل وفقًا للغرض منها، وأبرز أنواعها:
الرسالة الرسمية: ويطلق عليها اسم الرسالة الديوانية، نظرًا لتبادلها بين الدول المختلفة، أو بين هيئات الدولة نفسها، وقد تحتوي هذه الرسائل على معلومات سرية.
الرسائل الشخصية: هي رسائل بين الناس في المناسبات.
الرسائل الأدبية: بين الأدباء والشعراء بغرض الحديث عن حادثة معينة.
الرسائل التجارية: بين المنشآت التجارية.
رسائل الوصية: يكتبها الشخص، ويضعها تحت عهدة محامٍ أو شخص موثوق به، ولا تفتح إلا بعد وفاة الشخص.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي