“الإدارة الذاتية”.. مركزية شديدة تطالب بلا مركزية في سوريا
من أبرز الشعارات التي لطالما كررتها “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا منذ تأسيسها حتى اليوم، أنها ترى في “لامركزية سوريا” حلًا يناسبها، بعيدًا عن المركزية الشديدة التي تنتهجها النظام السوري منذ وصوله للحكم قبل نحو نصف قرن.
لكن اللامركزية التي تطالب فيها “الإدارة الذاتية” والمركزية التي تنتقد تمسك النظام بها، تظهر جلية في مفاصل حكمها لمناطق شرق نهر الفرات، أبرزها تلك المتعلقة بمحافظة دير الزور، التي شكلت احتقانًا تحول لصدام مسلح ولا تزال تبعاته تخيم على المنطقة.
ولطالما ورد مصطلح “اللامركزية” في عناوين ندوات ومؤتمرات وتصريحات مسؤولين في “الإدارة الذاتية” مع التنويه إلى أنها لا تهدف للانفصال عن سوريا الأم، لكنها تبحث عن حل.
وفي نهاية العام الماضي، عقد “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، مؤتمره الرابع، وحمل شعار “وحدة السوريين أساس الحل السياسي وضمان لتحقيق سوريا ديمقراطية تعددية لا مركزية” في مدينة الرقة، وتضمن ممثلين عن “الإدارة” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وفي عام 2019، نشرت “الإدارة الذاتية” عشرة بنود، قالت إنها ستقدمها خلال مفاوضاتها مع النظام برعاية روسيا، وتضمنت الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وأن يكون النظام في سوريا نظام جمهوري ديمقراطي، والإدارات الذاتية جزء من هذا النظام.
وطالبت أيضًا أن يكون لـ”الإدارات الذاتية” ممثلين في البرلمان في المركز (دمشق)، وإلى جانب العلم السوري، يجب أن تكون هناك أعلام تمثل “الإدارات”.
مركزية شديدة.. دير الزور مثالًا
في أيلول 2018، أصدر مركز “عمران للدراسات” كتابًا حمل عنوان “حول المركزية واللامركزية في سورية: بين النظرية والتطبيق” احتوى بحثًا رصد نشاط “الإدارة الذاتية” في الواقع الحوكمي شمال شرقي سوريا، وشكّلت جميع النقاط الواردة فيه مؤشرًا على مركزية “الإدارة”.
وعلى الصعيد الاقتصادي يرى مؤلفو الكتاب أن نهج “الإدارة” الاقتصادي تغيب عنه الشفافية، إذ لم تعلن موازنتها العامة إلا لمرة واحدة، ولم تكن إمكانية تتبع الأرقام الواردة في هذه الموازنة ممكنة، واحتوت على سرد طويل لم يتضمن أي تفاصيل عن الإيرادات والنفقات، وشملا فقط أرقامًا عامة.
ويمكن تعميم تجربة غموض المأخذ الاقتصادي لدى “الإدارة الذاتية” على جميع المفاصل الأخرى، وأبرزها الأمنية.
وكمثال، تشكل محافظة دير الزور صندوق الموارد بالنسبة لـ”الإدارة”، إذ تحوي على آبار نفط، وأراضي زراعية، إلى جانب خطوط للتهريب تربط المحافظة مع مناطق سيطرة النظام السوري خطوط للتهريب تغذي اقتصاد “الإدارة” وجناحها العسكري “قسد”.
اقرأ أيضًا: الاقتصاد الغامض لـ”الإدارة الذاتية“
وتمتنع “قسد” عن إعادة نفوذ “مجلس دير الزور العسكري” كما كان عليه قبل 2023، بعد أن نشبت مواجهات مسلحة بين الجانبين، وتحولت لمواجهات بين عشائر من دير الزور، و”قسد”، ويرى باحثون تحدثت إليهم أن امتناع “قوات سوريا الديمقراطية” عن هيكلة “المجلس” مجددًا يعود لشعور الأولى بتهديد “مركزية” الحكم فيها.
وفق معلومات حصلت عليها من قادة سابقين في “مجلس دير الزور” ممن يحضرون اجتماعات مع قادة “قسد” بهدف إعادة الهيكلة، فإن مسار المفاوضات لا يزال غير واضح، إذ تهدف “قسد” للحفاظ على “المجلس” فقط، دون نفوذ حقيقي على الأرض.
لا مركزية نظرية
في الإطار النظري تملك “الإدارة الذاتية” لا مركزية حكم، إذ كانت تقسّم مناطق سيطرتها إلى أقاليم، لكن “العقد الاجتماعي” جاء ليعدل هذه التقسيمات لتصبح مقاطعات، تمهيدًا لإجراء انتخابات البلديات فيها، وفق ما يراه الباحث المساعد في مركز “عمران للدراسات”، أسامة شيخ علي.
شيخ علي، المتخصص في الشأن الكردي وفواعل ما دون الدولة، قال ل إن “الإدارة” تملك مجالس تشريعية، وهيئات تنفيذية، ما يوفر هامشًا من اللامركزية في كل مقاطعة لديها على الصعيد النظري.
وعلى المنظور العملي، يرى الباحث أن “الإدارة الذاتية” تحكم بمركزية مطلقة، مرجعًا ذلك إلى سيطرة “العمال الكردستاني” على مفاصل القرار فيها.
ورغم الهيكلية التي وفرتها “الإدارة” من خلال قرارات متتالية، والتقسيمات الإدارية التي صدر أحدثها قبل أيام، فإن لدى “العمال الكردستاني” مكتبًا أو مجموعة في المقاطعات، ولا يمكن أن يمرّ أي قرار فيها دون موافقة هذا المكتب عليه.
ووفق الشيخ علي، لا يمكن التماس اللامركزية لدى “الإدارة” طالما يسيطر “العمال” على المفاصل الاقتصادية والأمنية والإدارية والسياسية شمال شرقي سوريا.
الباحث أضاف أن حزب “الاتحاد الديمقراطي” يشكل عماد “الإدارة الذاتية” وهو واجهة محلية لـ”العمال الكردستاني” الأجنبي، يسيطر على جميع مفاصل القرار فيها، ويرفض إشراك الأطراف الأخرى في إدارة المنطقة، ولطالما بقيت “الإدارة” بشكلها الحالي، لا يمكن اعتبار أنها تعتمد نظام حكم لا مركزي.
التناقض الأساسي في الطرح والتطبيق بين أدبيات “الإدارة الذاتية” المطالبة باللامركزية على صعيد وطني، والحكم بشكل مركزي متشدد للحفاظ على سلطتها بيدها ولا تتنازل عنها، يرجع وفق شيخ علي إلى “ولاء حزبي للعمال الكردستاني”.
إقصاء لأطراف أخرى
في عام 2019، انطلقت أولى جلسات الحوار بين أطراف كردية محلية شمال شرقي سوريا، وعرفت باسم ” الحوار الكردي- الكردي”، متمثلة بقطبين رئيسين هما حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD) و”المجلس الوطني الكردي” ومستقلين، في تشرين الثاني 2019، لإبعاد الخلافات بين الأطراف المذكورة.
وبينما تدعم أمريكا ودول أوروبية “قسد” المتحالفة مع حزب “العمال الكردستاني”، يلقى الطرف الرئيس المقابل “المجلس الوطني الكردي” دعمًا من أربيل وتركيا، وهو عضو في “الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية”.
وتتركز محاور الحوار حول إشراك “المجلس الوطني” بإدارة مناطق نفوذ “قسد” شمال شرقي سوريا، والسماح بانخراط جناحه العسكري “بيشمركة روج” في إدارة مناطق شرق الفرات أمنيًا وعسكريًا.
ويتركز الخلاف بين الأطراف على نقطة إدارة المنطقة، إذ ترفض “قسد” السماح لـ”المجلس الوطني” بالانخراط في الإدارة العسكرية والسياسية والأمنية، وتفضّل استثمارها منفردة.
ويتعامل “المجلس الوطني الكردي” خلال ملف الحوار على أنه الممثل الوحيد للكرد في سوريا، كونه يعرف عن نفسه ككيان سياسي كردي، بينما ترتدي “قسد” عباءة أوسع، إذ تقدم نفسها على أنها ممثلة لمكونات أخرى كالعرب والكرد والسريان وغيرها.
اقرأ أيضًا: الحوار الكردي- الكردي تفشله معركة “تقاسم السلطة”
مرتبط
المصدر: عنب بلدي