slow horses دراما الاستخبارات بين عبقرية الفشل وعبثية النجاح

في وقت تزدحم فيه منصات البث الرقمي وشاشات التليفزيون بمسلسلات وأفلام عن عالم الاستخبارات والتجسس، حيث يتم تسليط الضوء عادة على العمل الاستخباراتي الدقيق والمطاردات المثيرة، يبرز مسلسل Slow Horses، كعمل يتحدى التوقعات، إذ يقدم رواية جديدة ومتمردة على القواعد التقليدية لعالم الجواسيس، ويعيد بناء مفهوم البطل عميل المخابرات، معتمداً على نموذجي الفشل والعبث، لكنه يقدمهما بطريقة ذكية، جذابة، ومليئة بتعقيدات النفس البشرية.
Slow Horses المعروض على منصة “أبل تي في بلس”، يستند إلى سلسلة روايات ميك هيرون بعنوان The Slough House، وأخرجه جيمس هاوز، وتدور أحداثه في عالم جهاز الاستخبارات البريطانية الشهير بـ MI5، ولكنه في الوقت نفسه بعيد كل البعد عن القصص التقليدية التي تملأ دراما الاستخبارات والتجسس، مثل مسلسلات 24 أو Homeland، بل هو أقرب إلى الأعمال التي تركز على الجانب الإنساني للجاسوسية، مثل فيلم Tinker Tailor Soldier Spy، حيث الشخصية هي الأساس وليس المهمة.
في هذا المسلسل، الذي انتهى الجزء الرابع منه قبل أيام، نجد أنفسنا في Slough House، القسم المنسي من MI5، والذي يُعد بمثابة الحضيض المهني للعملاء الذين ارتكبوا أخطاء مهنية جسيمة، هؤلاء العملاء المنبوذين، الذين يملؤهم اليأس والإحباط، يظلون متمسكين بأمل بسيط: استعادة كرامتهم ومكانتهم السابقة عبر عمليات استخباراتية جديدة.
الشخصية الرئيسية لدينا هي “جاكسون لامب”، الذي يجسد دوره ببراعة الممثل البريطاني صاحب الأوسكار، جاري أولدمان، “لامب” هو قائد هذا الفريق من العملاء الفاشلين، يجمع بين الفجاجة والفطنة في آن واحد، يظهر على الدوام بمظهر مهمل وغير مبالٍ، على خلاف الصورة التقليدية لعميل المخابرات، والتي ترسخت في أعمال كثيرة أبرزها سلسلة جيمس بوند.
مع كل حلقة، نشاهد كيف ينجح “لامب” في إدارة فريقه بأسلوبه الخاص، الذي يعتمد على إهانتهم وتحطيمهم نفسياً، ولكنه في الوقت ذاته يحافظ على بقائهم على قيد الحياة في عالم مليء بالمؤامرات والخيانة.
بين “جاكسون لامب” و”جيمس بوند”
“جاكسون لامب” و”جيمس بوند” يمثلان نقيضين كاملين لشخصيات عملاء المخابرات في الدراما البريطانية، إذ يعتبر “بوند” النموذج الكلاسيكي للعميل المثالي؛ أنيق، وسيم، ويتمتع بالكفاءة العالية في استخدام التكنولوجيا المتقدمة والمهارات القتالية، في حين يعكس “جاكسون لامب” صورة مغايرة تماماً، إذ يتسم بالإهمال الشخصي والعنف اللفظي.
“بوند” يعتمد على الكاريزما والجاذبية والتفوق البدني والعقلي، في حين يبرز “لامب” بذكائه الحاد وسخريته اللاذعة، فهو أقرب إلى عقل مدبر يختبئ خلف قناع من الوقاحة والغلظة والتراخي.
يواجه “بوند” الأعداء في مواقع فاخرة عبر العالم ويستخدم أدوات متطورة، في حين يعيش لامب في واقع أكثر قسوة وكآبة، محاطًا بالفشل والخيانة في أروقة MI5 المهترئة.
حتى لندن التي يقدمها المسلسل ليست مدينة الجواسيس الذين يتجولون في نوادٍ ليلية بملابس فخمة، بل مدينة يشرب فيها عملاء المخابرات البيرة الباردة، ويتعثرون تائهين في الطرقات الضيقة.
خطوط متوازية
يعتمد Slow Horses في بناءه على سرد الأحداث عبر خطوط درامية متوازية، إذ تتشابك مغامرات عملاء MI5 المنبوذين، مع تطور قصصهم الشخصية وحياتهم المعقدة، وهي أبرز نقاط القوة في السيناريو المميز للكاتب ويل سميث.
في كل موسم، نجد أنفسنا وسط مغامرة جديدة، سواء كانت محاولة إحباط مؤامرة إرهابية أو كشف خيانة داخلية، إلا أن هذه المغامرات لا تأتي بمعزل عن الشخصيات، بل على العكس، يتم اكتشاف المزيد من تفاصيل حياتهم ومعاناتهم بشكل تدريجي وسلس، ما يضيف عمقاً لبناء درامي لا يقدم شخصياته كأبطال مثاليين، بل كأشخاص منهكين مليئيين بالعيوب، يحاولون التعايش مع أخطائهم وظروفهم الصعبة.
وعلى الرغم من قسوة الأجواء التي يقدمها المسلسل، فإنه لا يخلو من لحظات العبث الساخرة، خاصة في التفاعلات بين شخصياته، حيث نجد أن الفشل هنا ليس مجرد أداة درامية، بل هو مصدر للضحك والتفكير في الوقت ذاته، والتوتر بين الشخصيات يعكس حالة من العبث تظهر في أكثر اللحظات خطورة.
جاري أولدمان يُعتبر نجم المسلسل من دون منازع، يجسد شخصية “جاكسون لامب” بطريقة لافتة، وينجح في تقديم شخصية معقدة تعتمد على قوتها العقلية رغم ضعفها الجسدي، أولدمان يستخدم صوته وحركات جسده لتعميق الشعور بالإحباط والعبثية التي يعيشها “لامب”، وفي الوقت ذاته يقدم أداءً ينبض بالحياة عندما يتطلب الموقف.
إلى جانب أولدمان، يقدم جاك لوودن أداءً مميزاً في دور “ريفر كارترايت”، العميل الشاب الذي يسعى جاهداً لإثبات نفسه وسط هذا الفشل الجماعي، لوودن يجسد شخصية معقدة، تتراوح بين الطموح والخوف من الفشل، ما يضيف عمقاً عاطفياً للأحداث.
بالإضافة إلى ذلك، الأداء الرائع من باقي الفريق، مثل ساسكيا ريفز، وكريستين سكوت توماس، وجوناثان برايس، يُضفي عمقاً على الصراعات الداخلية لكل شخصية، كل منهم يجلب إلى الشاشة شخصيات معقدة محطمة، ولكنها متماسكة في الوقت ذاته، مما يدعم العمق النفسي الذي يُميز العمل.
لعبة قاسية
ورغم أن المسلسل قد يواجه تحديات في مواسمه القادمة، خاصة فيما يتعلق بتطور شخصية “جاكسون لامب” تحديداً، إلا أن قوة البناء الدرامي والأداء التمثيلي تضمن له مكانة مميزة في عالم دراما التجسس، خاصة وأنه يعكس بوضوح أن اللعبة الاستخباراتية ليست موجهة لتحقيق انتصارات سريعة أو مجد دائم، بل هي لعبة قاسية مليئة بالعقبات، تتطلب الصبر وفهم الأخطاء، وتقبل الفشل كجزء من عملية التعلم.
بقي أن نشير إلى أحد العناصر البارزة التي أضافت بعداً فنياً مميزاً للمسلسل، وهي أغنية المقدمة Strange Game، التي يؤديها أسطورة موسيقى الروك، مايك جاجر، والتي تمثل تجسيداً موسيقياً مثالياً للأجواء العامة التي تتحكم في Slough House، هي ليست مجرد مقدمة موسيقية عابرة، بل يمكن اعتبارها عنصر سرد أساسي يدعم مضمون المسلسل، عبر مرآة موسيقية تصف قصة عملاء MI5 المنبوذين باختصار دقيق: لعبة غريبة، غير مثالية، مليئة بالخيبات، لكنها تستمر رغم كل شيء.
في النهاية، يمكن اعتبار Slow Horses تجربة استثنائية لمحبي دراما التجسس، حيث تتم إعادة تعريف هذا النوع من الدراما عبر شخصيات خارج دائرة التوقعات التقليدية، ومن خلال صورة واقعية وقاسية لعالم الاستخبارت، حيث النجاح ليس دائماً هو الفوز، بل البقاء على قيد الحياة هو الإنجاز الحقيقي.