اخر الاخبار

دفاعات الناتو “في مهب رياح” غياب أميركي محتمل

على مدار عقود، قلصت الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي “الناتو” إنفاقها الدفاعي لتمويل أولويات أخرى. ويرى خبراء عسكريون أميركيون أن ما تبقى هو “جيش صوري” لا يستطيع مواجهة أي مواجهة عسكرية دون دعم أميركي، وفق “بلومبرغ”. 

وبعد عقود من الانشغال بعمليات مكافحة التمرد في مناطق بعيدة، بدأت دول الناتو الأوروبية، التفكير في سيناريو لم يُنظر إليه بجدية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو احتمال نشوب حرب برية شاملة على أراضيها.

وقالت “بلومبرغ” إن هذه الحرب ربما يتعين خوضها دون قوة الولايات المتحدة النارية الكاملة، الحليف الضروري الذي ضمن أمن المنطقة خلال الحرب الباردة وما بعدها.

مخاطر “عودة ترمب”

وأضافت أن الكثير من الأوروبيين يرون أن دونالد ترمب يمثل على ما يبدو “أكبر خطر” يهدد الوضع الراهن. وأشارت إلى تصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي السابق في مقابلة مع جون ميكلثويت، رئيس تحرير “بلومبرغ”، في النادي الاقتصادي في شيكاجو في 15 أكتوبر الجاري، إذ قال: “لقد استغلّنا حلفاؤنا أكثر مما فعل أعداؤنا. هذا لن يستمر”. 

وقد ذهب ترمب إلى حد القول، إنه إذا أعيد انتخابه، فإن أميركا ستقدم المساعدة فقط للحلفاء الذين يحققون هدف الإنفاق العسكري للناتو، ما يثير تساؤلات بشأن الالتزامات الدفاعية المشتركة التي تنص عليها المادة 5 من ميثاق الحلف.

وقالت “بلومبرغ” إن تصريحات ترمب “الاستفزازية” تعكس تياراً فكرياً يتجاوز الانقسام السياسي في واشنطن، وقد يسود بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في نوفمبر المقبل.

وأوضحت الوكالة، أن هذا الرأي يتمثل في أن الحكومات الأوروبية، يجب أن تبني جيوشاً قوية خاصة بها بدلاً من الإبقاء على ميزانيات الدفاع محدودة لثقتها في أن معاهدة الدفاع المشترك التي أبرمتها مع الولايات المتحدة في الحقبة السوفيتية سوف تحميها من الغزاة. 

وأضافت أن دوافع أولئك الذين يدعون إلى تعزيز الدفاع الأوروبي تحركها “الواقعية والعدالة”، موضحة أن صعود الصين كقوة عسكرية، مع طموحاتها بشأن جزيرة تايوان المُتنازع عليها، دفع المسؤولين الأميركيين إلى التخطيط لسيناريو قد يجبرهم على تحويل أسلحة بعيدة المدى من شمال الأطلسي للقتال في شرق آسيا.

ومن شأن ذلك أن يجعل أوروبا دون حماية على نحو خطير، إذ أظهرت الحرب في أوكرانيا، وهي أعنف صراع في القارة منذ عام 1945، عزم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على توسيع نطاق النفوذ الروسي في الفضاء السوفيتي السابق. وإذا أصبح أحد أعضاء الناتو في الشرق هدفاً له، فسيتعين على حلفائه الإسراع لمساعدته. 

جيوش صورية

واعتبرت “بلومبرغ”، أن معظم المؤسسات العسكرية الأوروبية تفتقر إلى الخبرة في التخطيط أو قيادة العمليات المشتركة واسعة النطاق التي تشمل عدة دول، وتتكون من جيوش وطنية منفصلة تعتمد على الولايات المتحدة في القيادة والتنسيق لتلبية احتياجات الناتو. 

وقلصت دول الناتو عدد القوات والمعدات العسكرية منذ الحرب الباردة، لكن أوروبا خفضت بشكل أكبر بكثير من الولايات المتحدة. وأصبحت ميزانيات الدفاع مجرد “وعاء” يمكن استخدامه لتمويل أولويات أكثر إلحاحاً، مثل رعاية السكان المسنين. 

ونتيجة لذلك، أصبح معظم الجيوش الأوروبية “جيوشاً صورية” غير مستعدة لخوض حرب طويلة والانتصار فيها، وفقاً لوجهة نظر بعض خبراء الدفاع الأميركيين. 

وقالت “بلومبرغ”، إن هذه التخفيضات لا تعكس القصة كاملة، مُضيفة أن القدرة الحقيقية تتطلب أن تكون القوات مجهزة ومدربة جيداً. 

وأشارت إلى عوامل تؤثر على فعالية الجيش بطرق غالباً ما تكون بعيدة عن الأنظار العامة، بما في ذلك عدم صيانة المركبات القتالية المدرعة، وتدهور حالة الأسلحة، والافتقار إلى الذخيرة وخطوط الإمداد اللازمة للقتال في حرب مستمرة، وعدم قدرة الصواريخ على إصابة أهدافها بسبب عدم اختبارها في ساحات القتال. 

وبدورها، قلصت روسيا عدد قواتها العسكرية في تسعينيات القرن الماضي. وكان ذلك لأسباب منها انهيار اقتصادها، وقِدم معظم معداتها. 

وفي عام 2008، أظهرت الحرب مع جورجيا حالة الجيش الروسي المتدهورة. وبدأ بوتين عملية تحديث شاملة لمعدات الجيش، من السفن والغواصات إلى الطائرات والأسلحة النووية. كما زاد عدد القوات، وحاول الابتعاد عن نموذج التجنيد الإجباري لزيادة عدد الجنود المحترفين. 

وبعد أن أظهرت الجهود الروسية لضم أوكرانيا حدود الجيش الروسي مرة أخرى، وكبدته خسائر فادحة، قال بوتين إنه سيزيد حجم القوات المسلحة للبلاد إلى 1.5 مليون جندي، لتصبح ثاني أكبر جيش في العالم بعد الصين.

وبحسب “بلومبرغ”، فإن دول الناتو الأوروبية قد تواجه صعوبة في مواجهة دولة غازية بهذه القوة أو ردعها بدون القوة الكاملة للجيش الأميركي إلى جانبهم. 

وبدأت الحكومات الأوروبية في زيادة الإنفاق على الدفاع، حيث سيُخصص جزء كبير من تلك الأموال لإعادة بناء وتعزيز القدرات العسكرية الحالية. ورغم ذلك، ستظل أوروبا تعتمد على الولايات المتحدة في مجالات حيوية، مثل الدفاع الجوي والصاروخي، والأنظمة الحاسوبية المتطورة اللازمة لشن الحروب الحديثة.

وقال رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، في أبريل الماضي: “أوروبا يجب أن تصبح قوة سياسية وعسكرية إذا أردنا أن نشعر بالأمان في قارتنا”. 

وألقت “بلومبرغ” نظرة تفصيلية على حالة القوات المسلحة الأوروبية والفجوات التي يجب سدها لاستعادة موثوقيتها، وذلك استناداً إلى بيانات جمعتها من وزارات الدفاع وآراء خبراء عسكريين. 

الإنفاق العسكري 

واتفقت دول الناتو في عام 2014 على أن تخصص كل منها ما لا يقل عن 2% من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق على الدفاع بحلول عام 2024. وارتفع عدد الدول التي يُتوقع أن تحقق هذا الهدف إلى 23 من أصل 32 حليفاً، مقارنة بـ10 بلدان فقط في العام الماضي. 

ولكن، حتى لو وصلت الدول الأوروبية مجتمعة إلى مستوى الإنفاق الأميركي، والذي يبلغ نحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، سيظل إنفاقها متخلفاً عن حليفها القوي. ويعود ذلك إلى تراجع أداء الاقتصاد الأوروبي نسبياً منذ الأزمة المالية العالمية في أواخر العقد الأول من القرن الحالي.

وقالت “بلومبرغ” إن كيفية الإنفاق على الدفاع لا تقل أهمية عن حجمه، ووصفت تاريخ أوروبا في شراء المعدات العسكرية بـ”غير الجيد”. وركزت الدول الأوروبية في كثير من الأحيان على شراء أنظمة باهظة الثمن وعالية التقنية لتعزيز مكانتها، بدلاً من الحفاظ على المعدات التي تملكها أو استبدالها بشكل صحيح. 

وأظهرت الحرب في أوكرانيا أن القدرة على توفير كميات كبيرة من الأسلحة التقليدية والذخيرة والمواد الأساسية الأخرى لا تزال مهمة كما كانت منذ قرن، حتى في ظل الحروب الحديثة. 

وأظهرت تقديرات استخباراتية لحلف الناتو، نقلتها شبكة “سي إن إن” في مارس الماضي، أن روسيا كانت تمضي قدماً نحو إنتاج ما يقرب من 3 ملايين قذيفة مدفعية هذا العام، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف الإنتاج المشترك للولايات المتحدة وأوروبا. 

ومع إرسال المعدات العسكرية لدعم دفاع أوكرانيا، واجهت الحكومات الأوروبية تحديات في تحديد الكمية التي يجب إرسالها، وذلك خوفاً من استنزاف ترساناتها المحدودة. 

وعند اتخاذ قرار الشراء وتحديد الموردين، كانت مؤسسات الدفاع الوطنية في أوروبا تقليدياً تركز على تعزيز اقتصاداتها المحلية وخلق فرص العمل. لكن هذا يجعل من الصعب تنسيق عمليات الشراء بشكل يضمن حصول المنطقة على المعدات التي تحتاجها بأقل تكلفة ممكنة. كما يؤدي ذلك إلى خلل على أرض المعركة. 

ولا تتوافق قذائف المدفعية من عيار 155 ملم التي تنتجها بعض دول الناتو مع أنظمة حلفاء آخرين، بسبب الفروقات الدقيقة في التصميم.

وأظهر تقرير نُشر في مارس الماضي لمفوض البرلمان الألماني لشؤون الدفاع، أن بعض القوات الألمانية كانت تستخدم أجهزة راديو غير مشفرة تعود لثمانينيات القرن الماضي ولا يمكنها التواصل مع الحلفاء. 

القوات العسكرية 

تعتبر بريطانيا وفرنسا أبرز قوتين عسكريتين في أوروبا، لكنهما خفضتا عدد قواتهما بشكل كبير منذ انتهاء الحرب الباردة. وتقلص حجم القوات المسلحة الفرنسية بنسبة 56% بين عامي 1990 و2024، ليصل إلى 203 آلاف و850 جندياً، بحسب ماكس بيرجمان، مدير برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن. 

وتواصل بريطانيا تقليص حجم جيشها، إذ أشار “تقرير القيادة الدفاعية” لعام 2023 إلى أن قوام الجيش البريطاني سيخفض إلى 73 ألف جندي بحلول عام 2025، وهو أدنى مستوى له منذ الحروب النابليونية التي جرت بين 1803 و1815. أما ألمانيا، فتستطيع نشر لواء واحد فقط يتكون من بضعة آلاف من الجنود في منطقة البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وسيعتبر ذلك “إنجازاً”، وفقًا لما ذكره بيرجمان. 

وتستطيع فرنسا تعبئة نحو 20 ألف جندي في غضون 30 يوماً، حسبما أفاد الجنرال بيير شيل، رئيس أركان القوات البرية الفرنسية. بينما يمكن لبريطانيا، في أفضل الظروف، أن تحشد فرقة عسكرية تضم بين 20 ألفاً و30 ألف جندي، إلا أن ذلك قد يستغرق أكثر من شهر، وفقاً لماثيو سافيل، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة (روسي) في لندن. 

وقال سافيل إن “خسائر أوكرانيا أمام روسيا، التي تقدر بـ31 ألف جندي، تعادل القوة القتالية للجيش البريطاني”. وأضاف: “يمكنك محاولة تشكيل فرقة ثانية لتعزيز القوات، لكن لن تتضمن الكثير من المركبات”. 

ويبلغ عدد القوات الخاصة الأميركية وحدها نحو 70 ألف جندي، فيما يبلغ عدد القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا فقط 80 ألف جندي. 

ويسعى الناتو إلى تحقيق أقصى استفادة مما تبقى من القوات القتالية الأوروبية، في الوقت الذي تتحول فيه المنطقة من حالة “ما بعد الحرب” إلى حالة “ما قبل الحرب”، حسب قول جرانت شابس، وزير الدفاع البريطاني السابق. 

وشارك نحو 90 ألف جندي من قوات الناتو في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2024 في مناورات “المدافع الصامد”، والتي تُعتبر أكبر تدريب عسكري منذ الحرب الباردة. 

ويعمل الناتو على إنشاء نموذج جديد للقوة لمواجهة التهديدات الروسية على الجبهة الشرقية، التي تمتد من بحر البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً. ويشمل ذلك وضع أكثر من 300 ألف جندي بمستويات أعلى من الجاهزية للنشر السريع. 

ويدعو بعض الجنرالات الأوروبيين، إلى إعادة فرض التجنيد الإجباري، رغم أن هذا لن يعوض الحاجة إلى الجنود المحترفين المدربين بشكل جيد في الحروب الحديثة.

انضمام فنلندا والسويد للناتو

ويعزز انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو من قدرات الحلف، إذ يضيفان جنوداً مدربين بشكل جيد ومنضبطين. ومع ذلك، تواجه أوروبا أزمة في التجنيد العسكري، بسبب الصورة السلبية عن الحياة العسكرية، وفق “بلومبرغ”. 

وقالت الوكالة، إن التقليص المستمر في حجم القوات المسلحة الأوروبية، ساهم في تفاقم هذه الأزمة، مُضيفة أن تراجع مكانة الجيش في المجتمع المدني يدفع العديد من الشباب إلى عدم التفكير في خيار العمل العسكري. 

وأشارت “بلومبرغ”، إلى افتقار الموارد اللوجستية الأوروبية إلى “المرونة والاختبار الكافي”. وأوضحت أن دول الناتو كان لديها نظام خطوط أنابيب مخصص لتزويد القوات الحليفة بالوقود في وسط أوروبا خلال الحرب الباردة. 

وقالت إن الناتو لم يطور بنية تحتية مماثلة وموحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتوسع الحلف شرقاً، وذلك جزئياً بسبب تحول تركيز الأعضاء نحو التخطيط لعمليات عسكرية في قارات أخرى مثل العراق، وليبيا، والسودان، وباكستان. 

القوة البحرية 

تشكل السفن عنصراً حاسماً في الحروب البرية الحديثة، إذ تحتاج القوات الجوية إلى مدارج للطيران، بينما تتحرك الجيوش ببطء. وتمتلك القوات البحرية القدرة على نشر الأسلحة بعيدة المدى بسرعة، ما يمكنها من تدمير كميات كبيرة من المعدات العسكرية المعادية على الأرض وفي البحر.

وظهر ذلك بوضوح في ليبيا في عام 2011، عندما أرادت الدول الأوروبية قيادة الجهود البحرية لتدمير آلة الحرب التابعة لمعمر القذافي. 

ولكن في النهاية، كان لدى الولايات المتحدة فقط عدد كافٍ من صواريخ “توماهوك كروز” لتمهيد الطريق للطائرات القتالية الأوروبية لتتمكن من التحليق بأمان فوق ليبيا. وقالت “بلومبرغ” إن صاروخاً بريطانياً من نفس الطراز علق في أنبوب الإطلاق. 

وتشير حسابات المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إلى أن بعض المدمرات الأميركية تحمل عدداً من صواريخ “توماهوك” يفوق ما تمتلكه البحرية الملكية البريطانية بأكملها من هذا النوع. 

وتمتلك فرنسا حاملة طائرات واحدة كاملة، وهي “شارل ديجول”، التي عادةً ما تحمل حوالي 30 طائرة رافال مقاتلة. بينما تمتلك بريطانيا حاملتي طائرات، بإمكانهما حمل 48 طائرة مقاتلة من طراز F-35، بالإضافة إلى مروحيات. ويُتوقع أن يتراجع عدد الطائرات المقاتلة إلى 37 فقط بحلول نهاية عام 2024. وقالت “بلومبرغ” إن حاملة الطائرات الأميركية من فئة “نيميتز” تستطيع حمل 69 طائرة. 

القوات الجوية 

توفر الولايات المتحدة الجزء الأكبر من صواريخ “كروز” والصواريخ الباليستية بعيدة المدى التابعة لحلف الناتو، والتي يتم إطلاقها في القتال عبر مئات الأميال من بطاريات متحركة وسفن حربية.  

وعلى الجانب الآخر، تفتقر أوروبا إلى الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ من طراز “باتريوت” بأعداد تكفي لتوفير دفاع فعال ضد الصواريخ المعادية. 

وأثبت الصراع في أوكرانيا، أنه من الصعب تحقيق التفوق في حرب برية حديثة دون السيطرة الجوية. ونجحت القوات الأوكرانية في استخدام الطائرات المُسيرة لتدمير الدبابات، وقتل الجنود الأعداء، وتفجير مستودعات الذخيرة، وتدمير المطارات ومصافي النفط. 

ومع ذلك، تجعل أنظمة الدفاع الجوي الراسخة في روسيا من الصعب على سلاح الجو الأوكراني التحليق وإلحاق ضرر حقيقي بقدرات الأسلحة الروسية التي دمرت مدناً أوكرانية وبنيتها التحتية الحيوية. ويُرجح  أن يواجه الناتو نفس التحدي إذا قررت روسيا غزو أحد أعضائه. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *