اخر الاخبار

دكتور: هل أنا مريض نفسي؟

أحمد عسيلي

ربما هذا هو السؤال الأشيع، الذي أسمعه بشكل شبه يومي تقريبًا، سواء من المرضى الذين يراجعون عيادتي، أو من أصدقائي سواء في الواقع، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، بل أحيانًا حتى من قبل أشخاص جمعتني بهم المصادفة في لقاء اجتماعي ما.

لذلك، سأصحبكم في هذه المادة، بجولة خاطفة، نناقش فيها مفهوم المرض النفسي، كي يصبح لدينا فهم عام، لكنه كافٍ نوعًا ما لتشكيل تصور حول الأمراض النفسية والعقلية.

بداية، المرض النفسي يقسم إلى مجموعتين كبيرتين: العُصاب والذُهان.

في الأمراض العُصابية، لا تكون لدينا مشكلة في فهم الواقع، أو أنها على الأقل مشكلة صغيرة جدًا، لا تشكل جوهر هذا الاضطراب، لكن لدينا اضطرابًا في طريقة التعامل مع هذا الواقع، أو تجاوبنا النفسي تجاهه.

أشهر الأمثلة على هذه المجموعة الاكتئاب والقلق، فمريض القلق يدرك أن قلقه غير واقعي، وليست لديه غالبًا مشكلة في المحاكمة العقلية، أو تفسير الحوادث، لكن لديه إحساسًا مزعجًا ومضنيًا، وتوترًا قد يكون على شكل نوبات (نوبات الهلع)، أو توترًا دائمًا، لأسباب لا تستحق كل هذه الأعراض، ويمكن أن يصل القلق لحدود لا يمكن أن نتخيلها، بل أحيانًا نشك في درجة ارتباط الإنسان مع الواقع نتيجة هذه الدرجة من القلق، كحال سيدة راجعتني في المستشفى منذ عدة سنوات، تشكو من نوبات قلق، وصلت لدرجة اضطراب في النوم، كانت قلقة من كل شيء، بل حدثتني وهي ترجف أن لديها موعدًا مع طبيبها العام بعد أسبوعين، وهي خائفة ألا تجد مكانًا لصف سيارتها في ذلك اليوم، وبالتالي يمكن ألا تتمكن من رؤية طبيبها، مع أنه لا مشكلة في صف السيارات بتلك المنطقة، التي تحوي أيضًا كراجًا مخصصًا لذلك، لكنه قلق مرعب استحوذ عليها تمامًا.

الاكتئاب أيضًا ضمن هذه المجموعة من الأمراض، فمريض الاكتئاب يعرف كيف يعبّر عن نفسه، يصوغ عباراته بشكل مقبول غالبًا، يعاني بشدة من الإحساس بالحزن، رغم عدم وجود سبب معيّن له، أو أحيانًا لأسباب قد تكون بسيطة جدًا، أو ربما معقدة، لكنها لا تسبب عادة هذه الدرجة من الإحساس بالمرارة، أي نستطيع القول إن علاقته بالواقع سليمة، لكن عيشه لهذا الواقع وطريقة تعامله وتأقلمه معه هو المشكلة.

المجموعة الأخرى من الأمراض هي الذُهانات، وهنا للمريض مشكلة في ارتباطه بالواقع، وبطريقة قراءته له، وتحليله للأحداث التي تجري حوله.

تشمل هذه المجموعة عددًا كبيرًا من الاضطرابات، يأتي على رأسها الفصام، ففي الفصام انفكاك تام، وأحيانًا شامل عن الواقع، يعيش المريض في عالمه الخاص، أفكاره غير مترابطة، لديه تصوراته الخاصة وغير المنطقية عن العالم وعن البشر، قد يعتقد أنه نبي أو بطل قومي، أو أن أجهزة مخابرات أجنبية تتجسس عليه (وهذا الوهم شائع جدًا وعند كل الشعوب)، قد يستخدم كلمات بغير معناها الأصلي، أو حتى بإحدى المراحل المتقدمة قد يستخدم لغة جديدة من تأليفه، فنفقد معه كل تواصل وإمكانية للفهم، وحتى مشاعره تصاب بالانفصال عن الواقع، فلن يعود هناك مكان للحزن أو الفرح، ولا تناغم بينهم وبين كلامه، ربما يحدثنا عن أكثر لحظاته حزنًا، كوفاة شخص عزيز أو خسارة كبرى وهو يضحك بكل فرح، أو ربما يحكي لنا نكتة ما وهو يبكي، هنا في الفصام تبعثرت كل وظائف العقل والإحساس، وهو أعلى أشكال الذهان وأكثرها حدة.

مقابل هذه الحالة المتطرفة في ضعف التواصل مع الواقع، قد نجد حالات خفيفة لمرضى يعيشون حياة طبيعية جدًا، يعملون بشكل جيد ويكسبون رزقهم، بل ربما يكونون صناعًا مهرة، لكن لديهم أوهامًا غريبة، يعيشون معنا في واقعنا المعاش بشكل سليم نوعًا ما ومن كل النواحي، سوى جانب واحد فقط، وهو ما نسميه الذهان في القطاع الواحد، بل أحيانًا يكتمون هذه التصورات، فلا أحد ينتبه لها، إلا عندما تصل لمرحلة معينة تضطر الأهل والأقارب للتدخل.

هنا تحضرني حالة مريض، كان يعمل نجارًا، يعيش حياة اجتماعية مستقرة إلى حد ما، لديه مدخول مادي ممتاز نتيجة عمله المتقن على الخشب، لكن لديه أوهامًا دائمة بأن زوجته تخونه، وأنها قاتلة، ورغم كل الأدلة التي قُدمت له على إخلاصها له وعلى براءتها من أي جريمة قتل، فإنه بقي مقتنعًا بهذه الأوهام لدرجة أنه صار عنيفًا جدًا مع تلك الزوجة المسكينة، تنتابه بين فترة وأخرى نوبات من العنف تصل لحد ضربها وسحلها من شعرها، فتم تحويل ملفه للقضاء الذي حكم بالطلاق وأجبره على العلاج الطبي النفسي. هذا المريض اتهم زوجته بأنها أنجبت أولاده من شخص آخر، ورغم تحليل “DNA” الذي أثبت أبوته لهم، لم يقتنع وبقي مصرًا على أوهامه، متهمًا زوجته التي بالكاد تعرف استخدام الكمبيوتر، أنها قرصنت أجهزة مختبر فحص “DNA”، ووضعت نتائج اختبارات زائفة، ورغم شهادة والدته وجميع من حوله في سلوك زوجته الوفي، فقد كان مقتنعًا أنها تخونه. هنا ثمة جانب واحد في ضعف العلاقة مع الواقع، سوى ذلك، هو شخص هادئ ومتوازن جدًا ومحبوب في وسطه، وحقق نجاحًا لا بأس به في مجال مهنته.

وعلى عكس ما يمكن أن يتصور البعض، فإن علاج الشكل الأول، الأكثر حدة وعنفًا، أي الفصام، أكثر سهولة، ونتائجه أفضل من علاج الحالة الثانية، بل كلما زادت الاضطرابات حدة، وكانت الخيالات والأهلاسات أكثر غرابة، كان علاجها أسهل، وكلما كانت الأوهام أكثر منطقية، وطريقة التعبير عنها أكثر ترابطًا، كان علاجها أصعب، ويستلزم وقتًا أطول، بل إن حالة مريضنا النجار هذا، لم يكن بالإمكان علاجها تمامًا، تابعته على مدى أكثر من سنتين، حتى وصلنا إلى اتفاق ألا يتكلم عن أوهامه تلك سوى معي فقط بصفتي طبيبه النفسي، وهذه أفضل نتيجة علاجية توصلت لها بعد سنتين من العمل المضنى معه وبعد كل أشكال العلاجات الدوائية وغير الدوائية.

هاتان هما المجموعتان اللتان تنتمي معظم الأمراض النفسية والعقلية لواحدة منهما، فكيف يمكن أن نعرف أن لدينا مرضًا نفسيًا، ولأي منهما ينتمي؟

من الواضح بعد هذا الاستعراض، أنه في حالات الذهان، يصعب علينا معرفة أننا مرضى، لكن ليس من النادر أن يأتي أشخاص لديهم أوهام غريبة، ويدركون بشكل جزئي أو كلي أنها مجرد أوهام، أو على الأقل يشككون بها، هنا وظيفتنا كأطباء نفسيين بالإضافة إلى العلاج الدوائي (توجد أدوية لهذه النوعية من الأمراض تدعى مضادات الذهان) مساعدة المريض على فهم مرضه جيدًا، وأيضًا على تقبله، والعيش معه. نعمل على هذه المحاور الثلاثة، وبشكل متناغم، وهو تناغم ضروري جدًا لنجاح أي مسار علاج.

وفي هذه الحالات من الأمراض نادرًا ما يراجعنا المريض بنفسه، وإنما يأتي مضطرًا، نتيجة ضغوط من الأسرة والمحيط، بل أحيانًا يتدخل القضاء والشرطة، هنا في الغرب خاصة، لإجبار هؤلاء المرضى على العلاج كحالة مريضنا السابق.

أما الأمراض العصابية، فجميعنا لديه هذه الدرجة أو تلك من الاكتئاب أو القلق، أو اضطرابات النوم أو الأكل، أو غيرها من تلك الأمراض التي لا تتعلق بالصلة مع الواقع وإنما عيشه وتقبله. لكن حتى نقول إننا وصلنا لمرحلة المرض، يجب أن تصل هذه الاضطرابات لدرجة تعوق متابعة حياتنا بشكل طبيعي، أي أنها أصبحت تؤثر على قدرتنا على العمل، أو التواصل مع البشر، وتشكيل الصداقات وعلاقات الحب، أو أداء واجباتنا الأسرية، بل ذهبت المراجع الأمريكية والأوربية، التي يعتمدها كثير من الأطباء النفسيين حاليًا كمرجع للتشخيص، لتحديد مدة هذا الاضطراب بأسبوعين في حالة الاكتئاب، فالجميع يمر بمرحلة من الحزن، أو المزاج العكر، لكننا نبقى غالبًا قادرين على متابعة حياتنا رغم كل شيء، بل ربما نتوقف أو نتعثر لبضعة أيام ثم نعود لممارسة حياتنا، هي حالة صراع مع آلامنا كي لا تصل بنا لدرجة الاكتئاب، هذه المرحلة قد تتطلب مساعدة نفسية أو لا تتطلب، حسب إحساسنا في قدرتنا على الخروج سالمين من هذا الصراع، لكن عندما يصبح هذا التعثر مستمرًا لفترة طويلة، حددت حديثًا بأسبوعيين، بعد دراسات وأبحاث متعددة، بعدها يصبح طلب العلاج والاستشارة الطبية ضرورية، لأننا نكون قد دخلنا في حالة الاكتئاب.

أتمنى أن أكون قد شكّلت تصورًا عامًا حول فكرة الطب النفسي، ما يساعدنا على فهم ذاتنا أكثر، ومعرفة إن كنا مرضى نفسيين أم لا، وسنتابع بالتأكيد في مواد مقبلة الخوض أكثر في تفاصيل هذا الموضوع المهم لنا جميعًا.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *