ضياء العزاوي لـ”الشرق”: تراث الرافدين له حضور خاص في تجربتي
الفنان العراقي ضياء العزاوي الواحد المتعدّد، تشكيلياً وأدبياً، رافق مسيرة التشكيل العراقي منذ الستينيات مستلهماً التراث الرافديني، والعربي الإسلامي.
يعدّ من أبرز الأسماء في الفن التشكيلي العراقي والعربي، وحظيت أعماله باهتمام دولي من خلال معارضه في متاحف شهيرة، كما ارتبط عمله الفني بالشعر والأدب “بوك آرت”، حيث طوّر أسلوباً يجمع ما بين الحروفية والتجريد والطباعة، مثل كتاب “رسومات لأرض البرتقال الحزين” عن مأساة فلسطين.
أقام معارض عالمية في “المتروبوليتان” نيويورك، ومتحف الفن الحديث في باريس، والمتحف البريطاني، ومتحف الشارقة للفنون، ومعهد العالم العربي، كما أقام معارض شخصية كثيرة في بيروت ودبي والعراق وغيرها.
وبمناسبة فوزه بجائزة “نوابغ العرب للأدب والفنون” 2024، التي تمنحها دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الأكبر من نوعها عربياً، حاورت “الشرق” الفنان حول إدارة اللوحة، والتقنيات الحديثة، وواقع التشكيل العربي وطنياً وعالمياً.
بداية من الحدث الأبرز، ما الذي يعنيه لفنان مُكرّس عربياً ودولياً الفوز بجائزة “نوابغ العرب للأدب والفنون” 2024؟
بالنسبة لي، هو تأكيد على جدّية المسعى الذي حاولته ولسنوات طويلة، في تعزيز الحضور الفني، القادر على إنتاج حوار مع الثقافات الأخرى، ووضع التجربة العراقية أمام التحدي الدائم لإغنائها بالجديد.
يقول أحد المخرجين السينمائيين إن السينما هي إدارة مُمثّل، هل التشكيل هو إدارة اللون، أو التكوين أو ماذا؟
التكوين واللون هما عناصر اللوحة اللذان يحقّقان الموضوع، مهما تنوّع الأسلوب يبقى هناك مُحّرك لما تراه في اللوحة، هذا المُحرّك الخفي له علاقة بظروف الإنتاج والجانب الروحي للفنان.
لديك خبرة تراكمية غنية في الطباعة والجرافيك والحروفية، كيف ترى دور هذه الوسائط في تعزيز الفن التشكيلي؟
جمعت في سؤالك بين الأسلوب “الحروفية” والتقنية وهي الطباعة بتنوّعها. أي تجربة فنية تغتني بتعدّد الوسائط. لكن الأهمّ، مدى قدرة الفنان على أن يكون مُنتجاً إبداعياً في جميع الوسائط هذه؛ فطباعة الشبكة الحريرية، هي ليست الحفر على النحاس، وكلاهما مختلف عن الطباعة الحجرية.
كيف انعكس التراث الرافديني على تجربتك، وهل هناك فنانون عراقيون وظّفوه في أعمالهم؟
للموروث الرافديني حضور خاص منذ بداية تجربتي، انعكاساً لدراستي الأكاديمية للآثار، وقربي من اللُقى المتحفية وخصوصاً السومرية منها.
وبمرور السنوات، تنوّع هذا الحضور بين عناصر اللوحة من الدمى السومرية، وبين الموضوعات المرتبطة بالأسطورة، وبشكل خاص أسطورة جلجامش. ومِن الفنانين العراقيين اللذين وظّفوا هذا التراث في أعمالهم بشكل نسبي هما، الفنان ماهود أحمد، وحميد العطار.
تقول دائما بأن الحروفية هي جزء من الهوية، هل تقصد الهوية التراثية التي يجب التقيّد بها كلياً، أو هوية جمالية قابلة للاشتغال والتحوّل؟
قبل الدخول بالتفاصيل، أنا رسّام يُحسن رسم الحروف، لا علاقة لي بقواعد رسم الحرف من قِبل الخطاط التقليدي. أجد في الحرف بطبيعة شكله وسيطاً تجريدياً، يتنوّع في امتداداته والتواءاته، ولأنني اعتبره جزءاً من تكوين اللوحة، إلى جانب عناصر جانبية تغني تواجده، هكذا، سيصبح حضوره عملاً مساعداً في تحديد الهوية الجمالية والأسلوبية للوحة. تحضر الهوية في الاختلاف عند الحضور أمام الثقافات الأخرى.
اختلف التلقّي الجمالي منذ أن أطاح الفنان الإسباني تابيس مثلاً وسواه بكلاسيكيات اللوحة، عندما استعمل الإسمنت والمتلاشيات، هل نحن أمام تصوّر جمالي مغاير للوحة التشكيلية؟
ذهب تابيس لاستعمال مواد مختلفة منها الإسمنت، لكي يختلف عن الفنانين الآخرين، وبالتالي ليجد تصوّراً جمالياً جديداً خاصة عندما تشاهد أعماله الأولى.
اختلف في طريقة تحقيق اللوحة، لكنه ظلّ في الكثير من أعماله، يستخدم عناصر تقليدية كالكرسي، الكّف وبعض العلامات، وهو حقّق في ذلك نجاحاً باهراً في الاختلاف عن جيله من الفنانين الإسبان.
لكن هذه الجمالية، اختلفت مع الفنان الألماني غيرهارد رشتر، أو جوزف بويز أو كيفر. لا بدّ للفن أن يعكس واقع الزمن الذي يعيشه، مما يُحتّم عليه تغيير عناصره أو مواده.
هل التلقي الجمالي محصور بالفن التشكيلي فحسب كما يشي ظاهرياً، أم هو مفهوم شامل يساعد المرء على استيعاب وجوده؟
الفن التشكيلي، هو جزء من بانوراما واسعة للتلقّي الجمالي، جميع عناصر الإبداع المُتحّقق مادياً، هو محرّك يغني الروح الإنسانية، ما يجعله يختلف بحسب مصدر التحقّق؛ فالعمارة تختلف عن التصميم الصناعي، وهذا يختلف بدوره عن المسرح، وهناك اختلافات عدّة هي جميعها، باعتبارها خزّان المتعة للروح الإنسانية.
أسهمت التقنية في جعل الفن “سهلاً” ظاهرياً، هل هذا يعني انتفاء الحاجة إلى الفنان، أم بالعكس تشتد الحاجة إلى وجوده كلما كانت التقنية مُتاحة؟
ليست اللوحة بنت التقنية فقط، مهما تمكّن الفنان من حسن استخدامها، إنما هي طريقة إنتاج وليس عنصر إبداع فحسب. الفن السهل يمكن تحققّه عندما يُحسن الفنان استخدام التقنية، وينسى المُحرّك الفعلي للموضوع الفني.
نشهد راهناً ترسيخ “الفن المفاهيمي” هل سيتمّ ذلك على حساب اللوحة التشكيلية المسندية، بمعنى تراجع اللوحة تلك إزاء الفن الرقمي والمفاهيمي؟
الفن المفاهيمي، هو وسيلة تعبير لتحقيق موضوعات، لا تتمكّن اللوحة المسندية من توفيرها، وشيوعه بسبب التبدلات الاجتماعية في طبيعة الحياة، وبهذا فهو إغناء لإمكانية التعبير والتطابق مع حاجات الإنسان التي تبدلّت طريقة حياته رأساً على عقب.
ما رأيك بالفن الرقمي، وكيف ترى تأثير أساليبه وطرقه على الفن؟
الفن الرقمي وسيلة إنتاج، يشكّل الكومبيوتر وبرامجه المتنوّعة أداةً لتحقيق العمل أكان تقليدياً أم تجريدياً. وبحكم تنوّع البرامج، تتداخل هكذا، وسائل التعبير المختلفة لتشكّل وحدة بصرية غنية.
يبقى الفن الرقمي بمقدار مهنية الفنان، وغنى مخيلته ومهارته في استخدام ما هو خفي في البرامج المتنوّعة والمخصّصة للتصميم، للصورة، للرسم وللطباعة.
ارتبطت مسيرتك الفنية بالشعر وبالأدب دائماً، وتشرف حالياً على تحرير مجلة “ماكو”، هل يأتي ذلك تيمّناً بتجربة التراث في منمنمات الحريري، النصّ والصورة، أو كما قال الفنان بول كلي “الفن والأدب هما واحد”.
مجلة “ماكو” هي مشروع تعاوني، وتوثيقي لتجارب مميّزة في تاريخ الفن العراقي، وبالتالي هي بعيدة عن منمنمة الحريري.
تطوّرت واغتنت علاقتي بالشعر والأدب بفعل التعرّف بعد استقراري في لندن إلى مجموعة الجاز لماتيس، التي يجمع فيها الفنان بين النصّ وبين وحدات تجريدية متنوّعة، ثم التعرّف إلى مخزونات المنمنمات العربية ذات المواضع المختلفة في مكتبات لندن، ودبلن، وميلانو وباريس، وغيرها من المكتبات الوطنية في العالم.
أنتجتُ أعمالاً مشابهة في الجمع بين النصّ والصورة، تمثّلت في مخطوطة “مقتل الحسين” عام (1968 )، وقصيدة يوسف الصائغ “انتظريني عند تخوم البحر” عام (1972)، وكتاب “شاهد من هذا العصر” عام (1974).
ما حجم تأثير الفن العراقي على المشهد التشكيلي العربي، وما موقع التشكيل العربي دولياً؟
الفن العربي بكليته، هو فنّ أفراد، حاله حال فنون كل دولة ومنها العراق. هناك حضور وتأثير عراقي فردي، عبر تقنيات الإبداع المختلفة والمتنوّعة، تمكّن منها فنانون مختلفون مقيمون في بلدان أوروبية عدّة.
ما يزال عدد المبدعين من الفنانين العرب اللذين لهم حضور فعلي، محدود جداً لعوامل متنوّعة، أهمها غياب الدعم من قبل المؤسسات العربية، إذ تتطلّب إقامة معرض في متحف معروف، مبالغ كبير يصعب على الفنان العربي توفيرها.