الخارطة السياسة الكاملة في ألمانيا قبل انتخابات فبراير
تتربع ألمانيا على عرش أقوى الاقتصادات في الاتحاد الأوروبي، وهي “دولة الاقتصاد المزدهر”، حيث يقود الجميع سيارات المرسيدس أو الـ “بي أم دبليو” أو الـ”أودي” و”فولكس فاجن”، والدولة صاحبة النظام الدقيق الذي يوفّر حيّزاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً ممتعاً.
ولكن بالنسبة للذين يعيشون داخلها، فإن الأمر مختلف، لأن “ألمانيا لم تعد ألمانيا” التي يعرفونها، على حد تعبير الكاتبة الألمانية آنا سوابراي، في مقال كتبته في صحيفة “نيويورك تايمز”.
وفي منتصف ديسمبر 2024، قرر مجلس النواب الألماني (البوندستاج) في عملية تصويت شكليّة سحب الثقة من المستشار أولاف شولتز، ما أدى إلى انتهاء الحكومة الائتلافية رسمياً.
وعملياً، كانت الحكومة المكونة من ثلاثة أحزاب قد سقطت في أوائل نوفمبر الماضي، عندما أقال شولتز وزير المالية كريستيان ليندنر، ومن ثمّ انسحاب حزبه، “الحزب الديمقراطي الحر” (FDP)، من الحكومة الائتلافية التي أصبحت بذلك حكومة أقلية بين “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” (SPD) و”حزب الخضر” (Grüne).
وبدلاً من محاولة إنعاش الحكومة المترنحة، قرر شولتز المضي قدماً في التصويت على حجب الثقة، والدعوة إلى انتخابات مبكرة في 23 فبراير 2025.
وكان يبدو أن الخلاف حول كيفية صرف الميزانية بين شولتز ووزير المالية، هو الذي أفضى إلى انهيار الحكومة، باعتبار أن ذلك إجراء اعتيادي يحدث في البلدان الديمقراطية، لكن الذين يعيشون في ألمانيا، يدركون أنّ الأمر هذه المرّة مختلف، وأنّ خلف الجدالات السياسية، والمناظرات الإعلامية، ثمة أزمة كبيرة يستشعرها المواطن الألماني في حياته اليومية.
فصورة ألمانيا المزدهرة اقتصادياً، والمتماسكة اجتماعياً، والمستقرة سياسياً، قد تكون ذهبت من غير رجعة، ليس لأنها تشهد رواجاً لليمين الشعبوي المتطرف، بل لأن هذا الفاعل اليميني، حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، “ينزاح أكثر نحو التطرف”، لدرجة عزلته حتى ضمن أوساط “الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في البرلمان الأوربي”، وفق ما ذكر أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماينتس بألمانيا كاي آرتسهايمر في تصريحات لـ”الشرق”.
وأضاف كاي آرتسهايمر، أحد الباحثين في دراسة اليمين الشعبوي، أنه “مع ذلك، لم يؤدِّ هذا الانزياح حتى الآن إلى تراجعه في استطلاعات الرأي” بين الألمان.
لكن كيف وصلت الأمور إلى هذه النقطة؟ في خريف 2021، عندما قررت أنجيلا ميركل عدم الترشح لمنصب المستشارة، بعد أن شغلته لمدة 16 عاماً، هزم أولاف شولتز (الحزب الاشتراكي الديمقراطي – يساري وسط) خليفةَ ميركل من الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU)، وشكّل أول حكومة ائتلافية ثلاثية في التاريخ الألماني الحديث، ضمّت سياسيين أصغر سناً، مثل أنالينا بيربوك (حزب الخضر ذي التوجه البيئي اليساري) وزيرة للخارجية، وكريستيان ليندنر (الحزب الديمقراطي الحر ذي التوجه الليبرالي اليميني اقتصادياً) وزيراً للمالية.
كانت الآمال كبيرة في هذه الحكومة الجامعة لأطراف متباينة، بأنها ستكون قادرة أخيراً على تحديث ألمانيا بعد الفترة الطويلة لحكم ميركل بسياساتها المحافظة على الوضع القائم دون تطويره، والدفع بالبلاد نحو التحديث التكنولوجي، وبث الحياة في الصناعات الداعمة للبيئة. إلّا أن حرب روسيا في أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير 2022، وضعت الحكومة الألمانية الجديدة أمام تحديات لم تكن متوقعة.
مع بداية الحرب، انقطع الغاز الروسي الرخيص، واندفعت ألمانيا إلى شراء الغاز من الأسواق الدولية بأسعار مرتفعة، وسعت إلى حماية المستهلكين والشركات على حدّ سواء من ارتفاع الأسعار، وأرسلت الأسلحة إلى أوكرانيا، وأعلنت تخصيص مئة مليار يورو لإعادة بناء الجيش الألماني خوفاً من المطامع الروسية.
وما زاد الوضع سوءاً، سياسات الحكومة في التخلص التدريجي من استخدام الفحم في توليد الطاقة، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. كل ذلك دفع باقتصاد البلاد إلى التعثر، والركود في عامين متتاليين.
في غضون ذلك، حصل نقاش ساخن حول الهجرة، عندما فتحت ألمانيا أبوابها أمام نحو مليون لاجئ سوري، ثم احتدم هذا النقاش أخيراً مع قدوم حوالي مليون آخر من الأوكرانيين إلى البلاد.
ورغم أن الألمان يتقبلون على نحو واسع حقيقة كون المجتمع في ألمانيا متعدد الأعراق والأديان، لم تستطع الحكومة التعامل مع الاستياء المتصاعد، ولم يرضَ أحد عن النهج غير الواضح والمتردد، الذي اتبعته تجاه الهجرة.
كل ذلك، خلق جوّاً سياسياً مشحوناً، أفضى إلى ازدهار حزب جديد مؤيد لروسيا، وهو “تحالف سارة فاجنكيشت” التي انشقت عن حزب “اليسار” (Die Linke)، بالإضافة إلى ترسّخ شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) اليميني الذي ظهر بداية عام 2013، ثم أصبح ثاني أقوى حزب في ألمانيا.
وتجري ألمانيا الانتخابات ربما في أسوأ وقت ممكن، مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وحالة عدم الاستقرار في الدول الأوروبية الأخرى.
أجواء عدم الثقة تسيطر على المشهد السياسي قبل الانتخابات: الولاءات الحزبية التقليدية لم تنهر تماماً، ولكنها كما يقول آرتسهايمر لـ”الشرق”، تتضاءل “تدريجيّاً”، ويحل محلها جزئياً “ارتباطات حزبية جديدة”.
وأضاف آرتسهايمر أن ذلك أدى إلى “نظامٍ حزبي أكثر تفككاً وسيولة مقارنة بفترة السبعينيات، بل وحتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي”. فأربعة من كل عشرة ناخبين في ألمانيا قلقون بشأن المستقبل السياسي للبلاد.
وأظهر استطلاع نشرته “دويتشه فيله”، أن أربعة من كل عشرة ناخبين في ألمانيا قلقون، بشأن المستقبل السياسي للبلاد.
وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المستشار شولتز لتصوير حزبه “الاشتراكي الديمقراطي” على أنه “حارس العدالة الاجتماعية وضامن الاستقرار”، فإن قرابة 50% من الناخبين لا يريدون رؤية حزبه في أي ائتلاف حكومي قادم، ويحمّلونه مسؤولية الركود والتضخم الاقتصاديين.
وتراجعت شعبية الحزب، بحسب الاستطلاعات، إلى أدنى مستوى له بـ16% بينما حاز شريكه “حزب الخضر” على 14% فقط، بعد أن تعرض إلى انتقادات حادة بسبب دعمه للتشريعات المتعلقة بالطاقة المتجددة والحد من انبعاثات الكربون، ما ساهم أيضاً في رفع أسعار الطاقة وزيادة الأعباء على الشركات الألمانية.
ورغم أن القضايا البيئية تشكل جزءاً رئيسياً من النقاش العام في ألمانيا، إلا أن ثمة قاعدة ناخبين تعارض أي مساس بالصناعات الثقيلة، أو صناعة السيارات التي تشكل عماد الاقتصاد.
وفي المقابل، تتصدر استطلاعات الرأي الكتلة المحافظة المكوّنة من “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” (CDU) وشريكه البافاري التاريخي “الاتحاد الاجتماعي المسيحي” (CSU).
كما يشهد “تحالف سارة فاجنكيشت” صعوداً، بسبب خطابه الشعبوي الذي يجذب شرائح ناخبين غاضبين من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بينما يُظهر حزب “البديل من أجل ألمانيا” تزايداً في شعبيته.
ومع أن أغلب الساسة الألمان يستبعدون التحالف مع حزب “البديل” في أي حكومة ائتلافية، بسبب تاريخه المثير للجدل، وميل بعض أجنحته نحو التعاطف مع “النازية”، أو على الأقل الدعوة إلى سياسات قومية متطرفة، يخشى الكثيرون من تجذّر هذا الحزب داخل المجتمع الألماني، خاصة بعد الدعم المباشر الذي قدمه إيلون ماسك بقوله إن “حزب البديل هو الفرصة الأخيرة لإنقاذ ألمانيا”.
وماسك ليس غريباً عن إثارة الضجة، فقد سبق أن وصف المستشار الألماني شولتز بأنه “أحمق”، وشبّه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بـ”طاغية غير ديمقراطي”، لكنه الآن يتخذ خطوة أبعد، إذ يجتهد في تبييض صورة حزب يتهمه خصومه بتبنّي خطاب كراهية تجاه المهاجرين وتقويض دعائم الاتحاد الأوروبي، وبالتعاطف ولو ضمنياً مع موروثات النازية.
وقال ثورستن بينر، رئيس المعهد العالمي للسياسة العامة في برلين: “إذا كان أغنى رجل في العالم وعضو في إدارة دونالد ترمب يدعو إلى وصول حزب يميني متطرف في ألمانيا إلى السلطة، فهذا أمر كبير”، مضيفاً: “لكن لا أعتقد أن أي ناخب ألماني سيصوت لصالح حزب البديل لمجرد أن إيلون ماسك قال ذلك”، ومع ذلك، فإن هذا الدعم، وإن لم يُكسب حزب البديل مزيداً من الأصوات مباشرة، إلا أنه قد يمنحه ثقلاً إعلامياً وجماهيرياً.
التحالفات الممكنة وفق المشهد السياسي الألماني
يتجلى في الأفق عدد من السيناريوهات الائتلافية، وعلى غرار ما يحدث في كثير من الديمقراطيات البرلمانية، يلعب التوافق بين الأحزاب دوراً محورياً في تشكيل الحكومات في ألمانيا. وفيما يلي أبرز الائتلافات المطروحة:
– الائتلاف المحافظ-الليبرالي (أسود-أصفر):
إذا جاءت نتائج الانتخابات كما تُظهر معظم الاستطلاعات الحالية، فقد تكون الكتلة المحافظة المكوّنة من “الاتحاد المسيحي” (CDU/CSU) في صدارة الترتيب، وإن كان بفارق ليس شاسعاً عن منافسيها. حينها، قد تسعى إلى التعاون مجدداً مع “الحزب الديمقراطي الحر (FDP) لتشكيل تحالف “أسود-أصفر” (الإشارة اللونية للاتحاد المسيحي هو الأسود، والديمقراطي الحر هو الأصفر).
لكن هذا السيناريو يصطدم بعقبة أساسية: هل يتجاوز الحزب الديمقراطي الحر عتبة الـ5% الضرورية لدخول مجلس النواب؟ تشير بعض الاستطلاعات إلى احتمال أن يتأرجح الحزب حول هذه النسبة، ما يفتح باب الشكوك حول قدرته على إنقاذ الاتحاد المسيحي من الاضطرار إلى خيارات أخرى.
رغم ذلك، صرّح كريستيان ليندنر زعيم “الديمقراطي الحر”، أن توحيد الصفوف مع “الاتحاد المسيحي” وطلب ثقة الناخبين سيساعد على تشكيل حكومة من الوسط، بعيداً عن “الاشتراكي الديمقراطي” و”حزب الخضر”.
– الائتلاف المحافظ-البيئي اليساري (أسود-أخضر):
تتباين الآراء حول جدوى الائتلاف بين “الاتحاد المسيحي” و”حزب الخضر”. ففي حين يدافع بعض قادة “الاتحاد المسيحي” (فرع CDU) عن “نجاح تجربة التعاون” مع “حزب الخضر” في ولاية شليسفيج-هولشتاين أقصى شمال ألمانيا على بحر البلطيق، يرى قادة آخرون (فرع CSU في ولاية بافاريا) أن هذا التحالف غير ممكن.
ويخشى هؤلاء من أن يفرط حزب الخضر في فرض أجندته البيئية والليبرالية الاجتماعية على حكومة محافظة، بيد أن هذا الخيار لا يزال قائماً لو حصل “الاتحاد المسيحي” و”حزب الخضر” على أغلبية مشتركة، خاصةً أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى إمكانية تحقيق ذلك.
الائتلاف الكبير المحافظ-اليساري الوسط (أسود-أحمر):
هذا الائتلاف التقليدي بين “الاتحاد المسيحي” (CDU-CSU) والحزب “الاشتراكي الديمقراطي” (SPD)، الذي حكم ألمانيا في عدة دورات زمنية خلال عقود سابقة، يبدو خياراً من المحتمل التفكير فيه مجدداً، خصوصاً إذا فشل التحالف “الأسود-الأصفر” في بلوغ الأغلبية.
لكن بعض أجنحة “الاتحاد المسيحي” تعارض إعادة هذه التجربة، إذ تعتبر أنها قد تؤدي إلى “جمود باهظ الكلفة يعطل عمليات الإصلاح الهيكلية”.
من جهته، يعاني الحزب “الاشتراكي الديمقراطي” (SPD)، من مشكلات في استعادة ثقة الناخبين، ما يجعل الائتلاف الكبير خياراً ثقيلاً يلوح في الأفق كمخرج أخير، وليس كخيار مفضّل.
ويرى عبد الرحمن عمار، الصحافي المختص بالشأن الألماني، في حديثه مع “الشرق”، أن التحدي الرئيسي لهذا الائتلاف، في أنه “سيتيح الفرصة لحزب البديل من أجل ألمانيا للعب دور المعارضة الرئيسية، ما سيُسهّل عليه استغلال أخطاء الحكومة وعرقلة عملها، بما يعزز فرص فوزه في الانتخابات القادمة عام 2029”.
لذلك، يرى أن “الحزب الاشتراكي الديمقراطي أو حزب الخضر قد يفضلان البقاء في صفوف المعارضة، بهدف خلق توازن بين الحكومة والمعارضة، وعدم ترك الساحة فارغة أمام حزب البديل”.
تحالفات بديلة تشمل أحزاباً أخرى:
“البديل من أجل ألمانيا”: على الرغم من صعود حزب البديل من أجل ألمانيا في استطلاعات الرأي (وصلت نسبة مؤيديه إلى ما يزيد على 20% في بعض الاستطلاعات)، يظل الحزب منبوذاً من جانب الأحزاب التقليدية، بسبب مواقفه اليمينية المتشددة والمعادية للهجرة والمشككة في الاتحاد الأوروبي، لذا يُستبعد سيناريو تحالف رسمي معه في الوقت الراهن.
“تحالف سارة فاجنكيشت”: يمثل هذا التحالف حالة فريدة، إذ يتبنى خطاباً شعبوياً يمزج بين نقد النخب الاقتصادية والسياسية من جهة، وبين خطاب محافظ حيال الهجرة من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن حداثته السياسية وعدم وضوح برنامجه في بعض القضايا تضعفان فرص دخوله في ائتلاف موسع، خاصةً مع رفض معظم الأطراف التقليدية هذا الخيار.
التوازنات السياسية في ألمانيا لا تتحدد فقط من خلال البرامج أو المواقف الآنية حول قضايا الهجرة أو الاقتصاد مثلاً، بل تستند كذلك إلى مدى قدرة كل حزب على جذب شرائح محددة من الناخبين والمحافظة على مصداقيته الداخلية.
نقاط قوة وضعف الأحزاب الكبرى في ألمانيا
نستعرض فيما يلي أبرز نقاط القوة والضعف لدى الأحزاب الكبرى الفاعلة على الساحة السياسية في ألمانيا:
الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD):
نقاط القوة: يمتلك خبرة في الحكم، وقاعدة تاريخية بين الطبقة العاملة والنقابات. فضلاً عن أنه يرفع شعار العدالة الاجتماعية، ما يكسبه شعبية لدى فئات عمالية وشبابية.
نقاط الضعف: تراجُع الثقة بقدرته على إدارة الاقتصاد، تحمّل الحزب مسؤولية التباطؤ الاقتصادي الحالي، عجز في الحفاظ على صورة مستقرة بعد الانهيار الأخير للائتلاف الحاكم.
الاتحاد المسيحي (CDU/CSU):
نقاط القوة: يتصدر الاستطلاعات حالياً، ولديه تراث قيادي طويل في ألمانيا، ويحظى بتأييد ملحوظ من الشرائح المحافظة وأصحاب الأعمال.
نقاط الضعف: عدم الانسجام بين قيادات CDU وCSU بشأن موقفهم من التحالفات، خاصةً مع الخضر. الخشية من مواجهة توجهات اقتصادية قد لا تتوافق مع الوعود الانتخابية حول تقوية الصناعة وإصلاحات سوق العمل.
الخضر (Grüne):
نقاط القوة: يمتلكون دعماً لا بأس به في الطبقات المتعلمة والشبابية، برزوا كصوت مهم في قضايا البيئة والمناخ، لديهم خبرة في حكومات ائتلافية على مستوى الولايات.
نقاط الضعف: يعتبرهم كثيرون سبباً لارتفاع أسعار الطاقة، ويواجهون انتقادات حادة من أوساط الأعمال والصناعات الثقيلة. يفتقرون في بعض الأحيان إلى رؤية اقتصادية متكاملة.
الحزب الديمقراطي الحر (FDP):
نقاط القوة: يُمثل الصوت الليبرالي الذي ينادي بتقليل الضرائب على الشركات وتحرير السوق، ويحظى تاريخياً بدعم قطاعات اقتصادية مهمة.
نقاط الضعف: الانسحاب المفاجئ من الائتلاف الحاكم الأخير أضعف صورته كشريك موثوق، وهناك احتمال فشله في تجاوز نسبة 5%، وصعوبة إقناع الناخبين بأولوياته في ظل الأوضاع الاقتصادية المتوترة.
“تحالف سارة فاجنكيشت”:
نقاط القوة: جديد على المشهد ما يجعل لديه القدرة على مفاجأة المراقبين، ويستخدم خطاباً يستميل بعض اليسار الساخط وبعض اليمين المحافظ في آن واحد.
نقاط الضعف: يُنظر إليه بعين الريبة من قِبل أحزاب الوسط. غموض برنامجه في ملفات حساسة، وأيضاً صعوبة ترجمة الشعبية المحدودة إلى نفوذ برلماني فعلي.
حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD):
نقاط القوة: صعود في استطلاعات الرأي، إذ يعكس تذمّر شرائح واسعة من السياسات التقليدية، ويحمل خطاباً شعبوياً قوياً بشأن الهجرة والسيادة الألمانية.
نقاط الضعف: رفض الأحزاب الأخرى التحالف معه. له سجّل من التصريحات المتطرفة، وهناك مخاوف لدى شريحة واسعة من الناخبين من مواقفه العنصرية أو المعادية للاتحاد الأوروبي.
تذهب بعض التحليلات المعمّقة، ومن بينها تحليل بيبا نوريس، الأستاذة في كلية كينيدي للإدارة الحكومية، وأحد الباحثين في مجال الشعبوية واليمين المتطرف، إلى أن صعود اليمين الشعبوي ليس مجرد نتيجة للعوامل الاقتصادية أو السياسية، بل هو استجابة لقلق ثقافي عميق بين قطاعات من المجتمع تشعر بفقدان هويتها التقليدية في مواجهة قيم ليبرالية وتقدمية متزايدة.
لذلك نجد أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” انتقل منذ تأسيسه عام 2013، بسرعة من الانتقاد اللاذع لليورو وسياسات الاتحاد الأوروبي إلى خطاب يعادي الهجرة والإسلام. بيد أن المسألة لا تقتصر على بيانات الحزب المعلنة، إذ تكشف تحقيقات إعلامية وأمنية أن بعض رموزه تحمل “نزعات نازية جديدة”، أو تتهاون مع “ماضي ألمانيا النازي”، كما تبيّن من حضور بعضهم مؤتمراً شبه سري يُروّج لترحيل الأجانب بالجملة، بجانب تصريحات أخرى تتعاطف مع قوات “SS” النازية.
مع ذلك، لم يجد إيلون ماسك حرجاً في الدفاع عن الحزب، وعن زعيمته أليس فايدل، وهي “مثلية الجنس ذات شريكة سريلانكية الأصل”، في محاولة لدحض ما يقال عن عداء الحزب للأقليات أو المهاجرين، وأن برنامجه يتماشى مع الليبرالية الغربية التقليدية.
وتدير شركة “تسلا” التابعة لماسك في ألمانيا مصنعاً ضخماً للسيارات الكهربائية، وتستثمر بكثافة في قطاع البحث والتطوير والتوظيف، ما يجعلها أحد المنافسين الرئيسيين لشركات السيارات الألمانية التقليدية.
وفي حال تخفيض الضرائب على الشركات، ستتمكن “تسلا” من خفض تكاليف الإنتاج وتعزيز أرباحها، فيما يُتيح وقف الدعم الحكومي الألماني لمحطات الشحن الكهربائية العامة، تعزيز دور شبكة “تسلا” الخاصة وتحقيق ميزة تنافسية على شركات أخرى تعتمد على البنية التحتية المشتركة، الأمر الذي يرسّخ موقع “تسلا” في السوق ويمنحها نفوذاً أكبر في تحديد توجهات صناعة السيارات الكهربائية داخل البلاد.
في المقابل، يخشى مراقبون من أن تركيز الأضواء على ماسك قد يصرف النظر عن المشكلات الحقيقية التي يجب على الساسة الألمان التصدي لها، وهي: تباطؤ الاقتصاد، الشيخوخة السكانية، نقص العمالة الماهرة، قضايا البيئة والمناخ، وملف الهجرة والاندماج.
ويرى ثورستن بينر، رئيس المعهد العالمي للسياسة العامة في برلين، أن “انشغال النخبة الألمانية بمناكفة ماسك قد يكون مسكّناً مريحاً لهم، لكنه لا يعالج جذور الغضب الشعبي الذي يستثمره حزب البديل”.
الدور المحوري للاقتصاد في تشكيل قناعات الناخب الألماني: بعد أن كانت ألمانيا توصف بـ”قاطرة أوروبا” نظراً لقوتها الصناعية والتجارية، بدأت تظهر خلال السنوات الأخيرة بوادر تباطؤ، ازدادت حدتها بفعل الانكماش العالمي ونهاية الغاز الرخيص من روسيا، بجانب عوامل داخلية مثل الشيخوخة السكانية وضعف التحوّل الرقمي. وتحتدم الخلافات بين الأحزاب حول كيفية الخروج من هذا الوضع:
ويرى “الاتحاد المسيحي” أن الحل يكمن في تحفيز الشركات عبر تخفيف الأعباء الضريبية وتقليل اللوائح البيروقراطية.
ويؤكد “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” ضرورة استثمار الدولة في البنية التحتية والابتكار، وتمويل ذلك من خلال زيادة معدلات الضريبة على المداخيل العالية.
وقال المتحدث باسم “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” بوريس بيلتونين، لـ”الشرق”، إنه “من خلال تبنّي سياساتٍ جيّدة لصالح العمال وعائلاتهم ولصالح الغالبية العظمى، نستطيع القيام بالكثير لضمان تراجع الدعم الذي يحظى به اليمين المتطرّف”. وأضاف أن حزبه “يناضل من أجل النمو الاقتصادي وضمان الأمن الوظيفي. وأن يحصل المجتهدون على دخلٍ أكبر في جيوبهم”.
أما “حزب الخضر” فيطرح التحوّل الطاقي وتعزيز الاقتصاد الأخضر، ولو استلزم ذلك وضع حدود لبعض الصناعات التي تُعتبر عالية الكربون.
ويدعو “الحزب الديمقراطي الحر” إلى تحرير أوسع للسوق وخصخصة بعض القطاعات، مع الحفاظ على سقف للديون يقيد الإنفاق العام.
وينتقد “حزب البديل من أجل ألمانيا” ما يعتبره “هوساً بيئياً” لدى “الخضر” و”الاشتراكي الديمقراطي”، ويرى أن إخفاق الاقتصاد مرتبط بالعولمة والانفتاح على الهجرة.
قضية الهجرة أكثر الملفات استقطاباً في ألمانيا: منذ موجة اللاجئين عام 2015، تتضاعف النقاشات حول قدرة البلاد على استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين، وتأثير ذلك على الهوية والثقافة وسوق العمل.
ويحظى “حزب البديل من أجل ألمانيا” بزخم كبير خصوصاً في الولايات الشرقية، بسبب مواقفه الرافضة للمهاجرين.
أما “الاشتراكي الديمقراطي” و”الخضر”، فيدافعان عن سياسة “هجرة متوازنة”، تضم دمجاً فعّالاً للمهاجرين وتأمين فرص عمل لهم. بينما يصر “الديمقراطي الحر” على أهمية استقطاب الكفاءات من الخارج مع تشديد القيود على الهجرة غير النظامية.
في الأحوال كلها، يبدو أن مسألة الهجرة ستظل من العوامل التي تلهب الحملات الانتخابية، وتؤثر بعمق في تصويت كثير من الناخبين.
ورغم أنه ليس من المتوقع أن يشكل اليمين المتطرف حكومةً، إلا أن المزيد من الأحزاب وحتى تيارات اليسار الشعبوي، تتبنى مواقف متشددة تجاه الهجرة واللجوء. وقد نشهد، بحسب ما يقول عبد الرحمن عمار لـ”الشرق”، تسريعاً في “إجراءات الترحيل، وتشديداً على طلبات اللجوء والجنسية”.
الانتخابات قد تغيّر وجه الحياة السياسية في ألمانيا: تبدو التوقعات غارقة في الضبابية، فبينما تُجمع الاستطلاعات على أن “الاتحاد المسيحي” يملك فرصاً جيدة لقيادة الحكومة المقبلة، لا شيء مضمون في مشهد مُتقلّب ومليء بالمفاجآت.
ويقاتل “الاشتراكي الديمقراطي” من أجل إعادة بناء جسور الثقة مع قواعده التقليدية وشرائح العمال بفعل الضغوط الاقتصادية.
أما “الخضر”، فيحاولون التمسك بنهج أكثر توازناً بين التزامهم البيئي والمطالب الاقتصادية. فيما ينتظر “الديمقراطي الحر” لعلّه يستعيد مكانته شريكاً يضمن استمرار الليبرالية الاقتصادية في قلب سياسة الحكومة، شرط أن ينجو من عتبة الـ5%.
أما الرابح الأكبر والأخطر، فربما يكون حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي استفاد من حالة الإحباط السائدة حيال النخب السياسية والتحديات الاقتصادية المتراكمة.
وتمتزج بذلك نبرة جديدة من الشعبوية والتطرّف، قد تُحاول اقتحام خطوط الحكم، وهو ما سيُجبر الأحزاب الأخرى على تشكيل “جبهة صدّ”.
ووسط هذه الأوضاع السياسية، يترقّب العالم ما ستؤول إليه الأمور في برلين، فاستقرار ألمانيا مهم لبقية دول أوروبا، وأي اهتزاز في الداخل الألماني سينعكس على مستويات أوسع، من سوق المال الأوروبي إلى سياسة اللجوء، وصولاً إلى قضايا الدفاع المشترك في وجه التحديات العالمية.
وبعيداً عن الأرقام والاحتمالات، هناك بعدٌ آخر يلوح، الشعور الشعبي بأن “ألمانيا لم تعد ألمانيا” التي نعرفها. فهل تستطيع الطبقة السياسية الجديدة إقناع الناس بأنها قادرة على إصلاح الاقتصاد وتعزيز الديمقراطية وصون مستقبل البلاد دون التفريط بقيم الانفتاح والاندماج والتضامن الأوروبي؟ أم سنشهد تحولات جذرية تُعيد رسم ملامح المشهد على نحو لم تعتده برلين منذ نهاية الحرب الباردة.