فترة انتقالية بين ولايتي ترمب.. كيف سيذكر التاريخ جو بايدن؟
في سلسلة خطابات الوداع، التي ألقاها خلال أسبوعه الأخير في منصبه، قدم الرئيس الأميركي جو بايدن تقييماً متفائلاً لإرثه، قائلاً إن الولايات المتحدة أصبحت أقوى خلال سنوات حكمه الأربع.
لم يعترف الرئيس المنتهية ولايته بأي أخطاء ارتكبها خلال فترة حكمه، بل على العكس من ذلك شدد بايدن على أن إدارته عززت قوة أميركا “في كل الأبعاد”، معتبراً أن الولايات المتحدة تحقق انتصاراً في المنافسة العالمية، بينما أصبح خصومها ومنافسيها أضعف.
يغادر بايدن البيت الأبيض، وقد وصلت نسبة تأييده إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الرئاسة، فوفقاً لأحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “جالوب”، فإن 39% فقط لديهم وجهة نظر إيجابية، مقارنة بـ57% في بداية ولايته.
سياسي أم رئيس؟
وصف أستاذ التاريخ السياسي في جامعة بينجهامتون في نيويورك، والخبير في السياسة الأميركية الحديثة، دونالد نيمان، بايدن بأنه سياسي ناجح، رغم أن هذا لم ينعكس بصورة كاملة على فترته الرئاسية.
وقال نيمان لـ”الشرق” إن قوة بايدن السياسية تمثلت في خبرته الطويلة داخل الكونجرس، وخاصة في مجلس الشيوخ، إذ خدم لمدة 36 عاماً. كان لديه قدرة فريدة على بناء تحالفات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما جعله لاعباً أساسياً في تمرير التشريعات وصياغة الصفقات السياسية، وهذه المهارة جعلته اختياراً مهماً لباراك أوباما كنائب للرئيس، حيث لعب دور الوسيط بين البيت الأبيض والكونجرس، وساهم في تمرير سياسات رئيسية.
أضاف نيمان أن هذه الخبرة ساعدته عندما أصبح رئيساً في تحقيق نجاحات تشريعية بارزة، مثل قانون البنية التحتية، والتشريعات التي تستهدف الحد من العنف المسلّح.
واستطرد نيمان قائلاً: “لكن رغم إنجازاته، لم يتمكن من استخدام منصب الرئاسة بفعالية لعرض رؤية إيجابية للمستقبل، أو لإقناع الناخبين بمنح إدارته الفضل في النجاحات التي حققها وتحويل هذه الإنجازات إلى دعم سياسي واسع بين الناخبين”.
غير أن أستاذ التاريخ السياسي بجامعة ويسكونسن، جوناثان كاسباريك، يرى أن بايدن على الرغم من عدم شعبيته الآن، فإنه في الأمد البعيد سيُذكر كرئيس ناجح إلى حد ما، وقال لـ”الشرق” إن بايدن حقق بعض الإنجازات التشريعية الكبرى التي سيذكرها التاريخ.
وأضاف كاسباريك أن بايدن كان فعالاً جداً في إدارة الحكومة، وإنجاز التشريعات، وتحقيق أهداف سياسية كبرى، لكنه لم يتمتع بنفس القدر من النجاح في الجانب السياسي، الذي يتطلب كاريزما وثقة عالية في التواصل مع الجمهور.
وعلى عكس رؤساء مثل بيل كلينتون، الذي كان يتمتع بحضور قوي وقدرة على كسب الناخبين، أو باراك أوباما، الذي كان يتميز بخطابه القوي وروحه القتالية، أشار كاسباريك إلى أن بايدن كان يبدو أحياناً متردداً أو غير حاسم عند الظهور العلني، وهذا الضعف في الأداء السياسي برز بشكل خاص في حملته لإعادة انتخابه، إذ أثارت مناظرته الرئاسية مع الرئيس المنتخب دونالد ترمب تساؤلات بشأن صحته، وقدرته على تحمل ولاية جديدة.
رجح كاسباريك أن بايدن ربما كان سيُنظر إليه بشكل أكثر إيجابية لو كان أعلن منذ البداية أنه سيخدم لفترة واحدة فقط، مما كان سيجعله يُذكر كرئيس ناجح أنهى ولايته دون مشكلات سياسية كبيرة، لكن محاولته الفوز بولاية ثانية أثرت على سمعته، على الأقل في الوقت القريب.
وأشار إلى أن الإدارة الجيدة عادة ما تكون غير مرئية لعامة الناس، بينما القيادة السياسية مرئية جداً، مضيفاً: “وبايدن كان قوياً في الأولى وضعيفاً في الثانية، ومع ذلك، سينظر المؤرخون في المستقبل إلى فترة حكمه بإيجابية، لأن إنجازاته الإدارية ربما تفوق تأثير إخفاقاته السياسية”.
عودة ترمب
عندما ترشح بايدن للرئاسة عام 2019، أكد أنه ينوي الفوز لإنقاذ أميركا من ترمب. لكن الواقع أن بايدن كان السبب في عودة ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، حتى أن رئيسة موظفي ترمب الجديدة سوزي وايلز، وصفت ولاية بايدن الوحيدة بأنها “فترة انتقالية” بين ولايتي ترمب الرئاسيتين، وقالت لموقع “أكسيوس”، إن البيت الأبيض كان “مفيداً للغاية” خلال الفترة الانتقالية، على الرغم من الاختلافات السياسية.
من جانبه، حمّل أستاذ الشؤون الحكومية في “جامعة كورنيل” ريتشارد بنسل، بايدن مسؤولية عودة ترمب إلى البيت الأبيض، قائلاً: إنه لم يكن أي شخص مسؤولاً عن انتخاب ترمب مرة أخرى أكثر من جو بايدن.
كان بايدن جسراً بين ولاية ترمب الأولى وولايته الثانية، إذ خدم بايدن فترة واحدة فقط، وهو ما اعتبره بنسل “فشلاً” في البيئات الرئاسية الأميركية، قائلاً إنه لهذا السبب كان ترمب غير مرتاح بشأن خدمته لفترة واحدة، والآن جاء بتفويض أقوى لمتابعة سياسة “أكثر عدوانية” تجاه بقية العالم.
وأضاف بنسل لـ”الشرق” أن بايدن لو أعلن أنه لن يترشح مرة أخرى في خريف عام 2023، لكانت هناك منافسة تمهيدية مفتوحة، إذ كان المرشح الأقوى هو الخيار الشعبي للحزب الديمقراطي.
ورجح بنسل أن الانتخابات التمهيدية كانت ستفرز مرشحاً قوياً غير كامالا هاريس، وربما يكون قادراً على هزيمة دونالد ترمب، مستدركاً: “لن نعرف أبداً على وجه اليقين ما إذا كان ترمب قد يُهزم، لكنني أعتقد أن جو بايدن خرب عن غير قصد آفاق حزبه”.
يتفق نيمان مع بنسل في أن عودة ترمب يتحمل بايدن مسؤوليتها، قائلاً إن بايدن لم يدرك قدراته المتضائلة في وقت قريب بما فيه الكفاية، وبحلول وقت مناظرته مع ترمب في يونيو 2024، كان من الواضح للجميع أنه لم يكن على مستوى ولاية ثانية.
ولفت نيمان إلى انسحاب بايدن المتأخر من السباق، مشيراً إلى أنه لو أعلن في عام 2022 أنه لن يسعى لإعادة انتخابه، لكان الديمقراطيون قادرين على اختيار مرشح كان ليختبر في الانتخابات التمهيدية، وكان لديه الوقت لتطوير استراتيجية انتخابية عامة، وكان ليخوض حملة أقوى، “حتى لو كان هذا المرشح كامالا هاريس، لكانت أكثر فعالية مما كانت عليه”.
وأشار نيمان إلى أنه مع بقاء بايدن في السباق لفترة طويلة، ظل تأثير أدائه الضعيف في صيف 2024 يخيّم على الحملة الانتخابية بأكملها، ولم تتمكن نائبته، من النأي بنفسها عن سجله، وهو السجل الذي فشل بايدن في إقناع الناخبين بأنه كان جيداً كما ادّعى، ونتيجة لذلك، واجه الديمقراطيون صعوبة في تقديم مرشح قادر على هزيمة ترمب، مما مهد الطريق لعودة الأخير إلى البيت الأبيض.
إنجازات بايدن
من الاستجابة لوباء “كوفيد-19” حتى تشريعات البنية التحتية الأساسية، أشار الباحث السياسي زاك مكيري إلى أن بايدن تمكن من تحقيق إنجازات سياسية وإدارية كبيرة خلال رئاسته، رغم التحديات التي واجهها.
وقال مكيري لـ”الشرق”، إن بايدن أظهر مهارة في تمرير تشريعات معقدة تتعلق بالاستثمار والبنية التحتية، وذلك رغم الأغلبية الضيقة التي يتمتع بها حزبه في الكونجرس.
وأضاف مكيري أن بايدن نجح في تعزيز حلف شمال الأطلسي (الناتو)، “وهو إنجاز استراتيجي مهم، خاصة في ظل التحديات الجيوسياسية مثل الحرب في أوكرانيا”.
وأرجع مكيري عدم اهتمام الجمهور أو الإعلام بأهمية هذه الإنجازات إلى التحديات السياسية والاقتصادية الأخرى التي تشغل الناخبين، أو إلى “عدم قدرة بايدن على توظيف هذه النجاحات في حملته السياسية بشكل فعّال لكسب دعم الناخبين”.
من جانبيهما، اتفق كل من كاسباريك، ونيمان في سرد أبرز إنجازات الرئيس بايدن خلال منصبه، ومنها:
- إدارة أزمة جائحة كورونا، إذ نجح في قيادة الولايات المتحدة للخروج من الجائحة عبر حملات التطعيم الواسعة، وإجراءات التعافي الصحي والاقتصادي، ما ساهم في استقرار الوضع العام.
- التعافي الاقتصادي السريع بعد الوباء، إذ تمكنت إدارته من إعادة تنشيط الاقتصاد بوتيرة سريعة، مدعومة بسياسات تحفيزية فعالة، ما أدى إلى خفض معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من خمسين عاماً.
- تمرير تشريعات مهمة بدعم من الحزبين، لا سيما في مجال البنية التحتية التي كانت بحاجة ماسة إلى تحديث، وتشريعات تتعلق بمكافحة العنف المسلّح.
- مكافحة تغير المناخ عبر سياسات واستثمارات تهدف إلى تقليل الانبعاثات الكربونية وتعزيز الطاقة النظيفة.
- تشجيع التصنيع والاستثمار في الصناعات المتقدمة، وخاصة في مجال أشباه الموصلات، لضمان تفوق الولايات المتحدة في التكنولوجيا، والحد من الاعتماد على الصين ودول أخرى في هذا القطاع الحيوي.
إخفاقات بايدن
عدّد الخبراء سلسلة من إخفاقات بايدن خلال ولايته الوحيدة، وكان أول خطأ ارتكبه بايدن في منصبه، هو الانسحاب الفوضوي من أفغانستان 2021.
وبينما أكد نيمان أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي تفاوض عليه ترمب ودعمه بايدن، كان قراراً صحيحاً من حيث المبدأ، لكنه أشار إلى أنه نُفذ بطريقة سيئة.
وقال نيمان إن بايدن ربما تعجّل في تنفيذ الانسحاب بحلول 11 سبتمبر 2021، لأسباب رمزية تتعلق بذكرى هجمات 11 سبتمبر 2001، ما أدى إلى مشاهد الفوضى في كابول، وسقوط الحكومة الأفغانية بسرعة في أيدي طالبان، “لو تم التخطيط بشكل أفضل وبوتيرة أبطأ، ربما كان يمكن تفادي بعض الفوضى التي صاحبت الانسحاب”.
وفيما يتعلّق بالغزو الروسي لأوكرانيا، قارن نيمان بين نهجي ترمب وبايدن، إذ كان الأول حذراً جداً في تسليح أوكرانيا، خوفاً من تصعيد الصراع إلى مواجهة نووية مع روسيا، “لكنه في الوقت نفسه فرض قيوداً كبيرة على الدعم الأميركي، ما سمح لروسيا بإعادة تنظيم صفوفها وشن هجمات جديدة بعد عامها الأول الصعب في الحرب. ومع عودة ترمب ربما يؤدي هذا النهج إلى فرض تسوية سلمية على أوكرانيا تجبرها على التخلي عن بعض أراضيها لروسيا، وهو ما سيُنظر إليه على أنه انتصار لموسكو”.
من جانبه، اعتبر بنسل أن أحد الإخفاقات الخطيرة لبايدن هي أنه لم يسعَ بقوة إلى إبرام اتفاقيات تجارية متعددة الجنسيات في منطقة المحيط الهادئ، والتي كان من شأنها أن تعود بالنفع على الاقتصاد الأميركي، وتعزز موقع الولايات المتحدة عالمياً.
وهذه الاتفاقيات، مثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي انسحب منها ترمب عام 2017، وكانت تهدف إلى توسيع نطاق التجارة الحرة بين الدول المطلة على المحيط الهادئ، مما كان سيمنح الشركات الأميركية وصولاً أوسع إلى الأسواق الآسيوية.
وقال بنسل إنه من الناحية الجيوسياسية، كانت هذه الاتفاقيات ستساعد في تقليل اعتماد دول المنطقة على الصين، وتعزيز الدور الأميركي في مواجهة صعود بكين كقوة اقتصادية مهيمنة، “لكن بايدن لم يتحرك بقوة لإحياء مثل هذه الاتفاقيات، أو التفاوض على صيغ جديدة، ما أضعف قدرة الولايات المتحدة على تعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة، وترك مجالاً أكبر للصين لتوسيع نفوذها التجاري والاستراتيجي”.
لكن الخطأ الأساسي لبايدن على المستوى المحلي، كما قال مكيري، هو المساهمة في ارتفاع التضخم بسبب الإنفاق المفرط من الحكومة الفيدرالية.
وبينما أشار مكيري إلى أن بعض الإنفاق كان ضرورياً للحماية من انخفاض معدل البطالة مثل حزمة التحفيز الضخمة، التي أقرها في عام 2021 بعد الوباء، فإنه أشار إلى أن هناك الكثير من الإنفاق الفيدرالي أدى إلى ارتفاع التضخم، وأثار حفيظة العديد من الناخبين بشأن سياسات بايدن، وإدارته الاقتصادية.
الحرب الإسرائيلية على غزة
في نهاية العام قبل الأخير من رئاسته، علِق بايدن في التأييد والدعم المطلق للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الذي ساهم في تفكيك الائتلاف الوطني الداعم له.
ورغم أن الجامعات الأميركية، من كاليفورنيا إلى جورجيا، ومن بوسطن إلى فلوريدا، ومن واشنطن إلى نيويورك، انتفضت ضد “الإبادة الجماعية”، التي تحدث في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، التي راح ضحيتها ما يقرب من 50 ألف فلسطيني، واستقال العديد من مسؤولي إدارة بايدن رفضاً لدعمه “المذابح” في غزة، واصل بايدن دعمه لإسرائيل، وقدم مساعدات عسكرية لها برقم قياسي بلغ نحو 17.9 مليار دولار.
وصف بنسل دعم بايدن لإسرائيل بأنه أحد الإخفاقات الرئيسية في سياسته الخارجية، وقال إن بايدن سمح لإسرائيل بتحدي الولايات المتحدة من خلال منحها شيكاً مفتوحاً بغض النظر عما فعلته، “ونتيجة لذلك، بدت الولايات المتحدة ضعيفة وغير مبالية تماماً بكارثة حقوق الإنسان التي تجري الآن في غزة”.
وبينما اعتبر أستاذ العلوم السياسية في “جامعة وسط أوكلاهوما” حسام محمد، أن سياسة بايدن تجاه إسرائيل والفلسطينيين تتفق مع السياسة الأميركية، التي كانت ولا تزال تركز على دعم إسرائيل بأي ثمن، حتى عندما قد يؤدي هذا الدعم إلى تعريض مصالح أميركية أخرى في المنطقة العربية للخطر.
وقال محمد في حديثه مع “الشرق”، إن بايدن امتنع باستمرار عن ممارسة الضغوط على إسرائيل لإنهاء حربها، أو التوصل إلى اتفاق مع حركة “حماس” الفلسطينية للإفراج عن المحتجزين والمضي نحو تسوية سياسية، في حين أنه كان قادراً على استخدام نفوذ الولايات المتحدة لإنهاء الحرب.