الاستثمار في الإنسان | جريدة الرؤية العمانية
سلطان بن محمد القاسمي
هل تخيلت يومًا أن تغيير حياة فرد واحد قد تؤدي إلى تغيير مصير مجتمع بأكمله؟ وكيف يمكن لرؤية قائد حكيم أن تُحيل الإمكانيات الكامنة إلى طاقات جبارة تعيد صياغة الحاضر وتبني المستقبل؟ بلا شك، إن الاستثمار في الإنسان ليس مجرد شعار متكرر نسمعه، بل هو نهج عملي يستند إلى رؤية واضحة وقناعة عميقة بأهمية بناء الأفراد وتطوير قدراتهم. فكل إنجاز عظيم يقف خلفه عقل واعٍ وقلوب نابضة بالإصرار على تحقيق الأفضل.
وبالنظر إلى قصص النجاح التي نراها في مختلف العصور، ندرك أن الإنسان هو المحرك الرئيسي لكل تقدم مستدام. لكن من المهم أن نعي أن هذا الإنسان لا يولد مكتمل المهارات أو جاهزًا لتحقيق الإنجازات الكبرى. بل على العكس، يحتاج إلى من يكتشف تلك البذور الكامنة في داخله ويرعاها حتى تزهر. ولهذا السبب، يبرز دور المسؤولين الذين ينظرون إلى موظفيهم على أنهم ثروة وطنية تستحق الرعاية، وليسوا مجرد أدوات تنفيذية. هؤلاء المسؤولون هم من يساهمون بشكل فعّال في تغيير الواقع وصناعة مستقبل أكثر إشراقًا.
وقبل أيام قليلة، كنت في جلسة مع أحد القادة الذين يُشهد لهم بالحكمة والبصيرة. وبينما كنا نتحدث عن أهمية الاستثمار في الكفاءات البشرية، شاركني قصة ملهمة عن تجربته الشخصية. قال لي: “لم أكن لأصل إلى مكاني الحالي لولا قائد أدرك إمكانياتي ورآني بعين مختلفة. لقد كان يؤمن بقدرتي على القيادة والإبداع، فأرسلني إلى اليابان لتعلم نهجهم المتقن في العمل والانضباط. خلال تلك الأشهر الثلاثة، اكتسبت رؤى جديدة غيّرت نظرتي للحياة والعمل. وعند عودتي، فوجئت بمسؤولي يطلب مني العودة إلى العمل فورًا دون إجازة، فقط لأجد السفير الياباني في مكتبي مع تقرير شامل عن أدائي. كانت النتيجة امتيازًا. حينها قال لي المسؤول: “لهذا السبب أرسلتك. كنت واثقًا أنك ستتفوق وأنك قادر على تقديم شيء مختلف للوطن”.
وهنا يمكننا القول إن هذه القصة ليست مجرد حكاية شخصية، بل درس عميق في أهمية الإيمان بإمكانيات الأفراد وإعطائهم الفرص التي يحتاجونها ليبدعوا. ومن الواضح أن مثل هذا الاستثمار لا يتحقق صدفة، بل يتطلب رؤية عميقة تستند إلى قناعة بأن الإنسان هو الجوهر والمحرك لكل تغيير حقيقي. وعلى هذا الأساس، فإن القائد الذي يدرك ذلك لا يكتفي ببناء أفراد قادرين على تحمل المسؤولية، بل يضع حجر الأساس لمجتمع قوي ومستدام.
وإذا ما أمعنا النظر في المؤسسات الناجحة عالميًا، سنجد أن القاسم المشترك بينها هو الاستثمار في الإنسان. على سبيل المثال، إحدى الشركات العالمية خصصت جزءًا كبيرًا من ميزانيتها لتدريب موظفيها على تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة. والنتيجة؟ لم تكن مجرد تحسين في الأداء الوظيفي، بل كانت قفزة نوعية نقلت الشركة إلى مصاف الريادة. إذ لم تقتصر الفوائد على زيادة الإنتاجية، بل شملت أيضًا تحسين معدلات الرضا الوظيفي، وارتفاع سمعة الشركة عالميًا، وتعزيز مكانتها في سوق تنافسية لا ترحم.
ورغم كل هذه النجاحات، علينا ألا نغفل أن الطريق نحو الاستثمار في الإنسان مليء بالتحديات. على سبيل المثال، قد تواجه المؤسسات صعوبات في تخصيص الموارد المالية والوقت لتدريب الموظفين، خصوصًا في ظل الضغوط اليومية. كما أن اكتشاف المواهب الحقيقية قد يكون تحديًا في بيئات عمل تقليدية تحد من الإبداع. ومع ذلك، فإن التحديات ليست مبررًا للتراجع، بل ينبغي أن تكون دافعًا لإيجاد حلول مبتكرة. ولعل من أبرز هذه الحلول دمج التدريب مع العمل اليومي من خلال تقنيات التعلم الإلكتروني أو برامج التوجيه الشخصي، التي تتيح للموظفين التعلم دون التأثير سلبًا على سير العمل.
إضافة إلى ذلك، فإن الفرق بين القيادة التقليدية والقيادة الإلهامية يكمن في القدرة على رؤية المستقبل واستشراف احتياجاته. ففي حين يكتفي القائد التقليدي بإدارة الحاضر، يسعى القائد الإلهامي إلى بناء مستقبل يتجاوز حدود الزمن والمكان. وهنا، نجد أن هذا النوع من القيادة لا يضمن فقط استمرارية النجاح، بل يخلق ثقافة مؤسسية تدعم الابتكار والإبداع. ومن الأمثلة الواقعية على ذلك، نجد بعض الدول التي أطلقت برامج وطنية لتدريب الشباب على المهارات القيادية والابتكار. ونتيجة لهذه المبادرات، تحولت هذه الدول إلى مراكز عالمية للتميز بفضل جيل جديد من القادة المؤهلين بعناية.
وكم من موظف يحمل بداخله طاقة هائلة لكنها غير مستغلة؟ وكم من موهبة ضاعت في زحمة الروتين لأنها لم تجد من يوجهها؟ إن المسؤول الذي يرى في موظفيه قادة محتملين هو من يستطيع تحويل هذه الإمكانيات إلى واقع ملموس. فهؤلاء الموظفون ليسوا مجرد أفراد في منظومة العمل، بل هم بذور تنمو وتُثمر إذا وجدت الرعاية المناسبة. وعلى هذا الأساس، فإن الاستثمار في الصفوف الثانية والثالثة ليس مجرد خطوة لضمان استمرارية القيادة، بل هو تأكيد على أن التطوير عملية مستمرة تشمل الجميع دون استثناء.
وبالنظر إلى تجربتي الشخصية، أستطيع القول إنَّ بناء الأفراد يتطلب أكثر من مجرد قرارات تنظيمية. بل يتطلب رؤية مبنية على إيمان حقيقي بقدراتهم. وعندما يشعر الموظف بأن مؤسسته تستثمر فيه، فإنه يصبح أكثر ولاءً وإنتاجية. وهذا الشعور يولّد طاقة إيجابية تعود بالنفع ليس فقط على المؤسسة، بل على المجتمع بأسره. فكل موظف يتم تطويره يصبح قصة نجاح يمكن أن تلهم الآخرين وتدفعهم نحو السعي لتحقيق الأفضل.
ومما لا شك فيه، أن الاستثمار في الإنسان هو أعظم استثمار يمكن لأي قائد أن يقوم به. فبينما ينظر البعض إلى التدريب والتطوير على أنهما تكلفة، يدرك القادة الملهمون أنهما استثمار استراتيجي يعود بعوائد مضاعفة على المدى الطويل. ولهذا السبب، فإن المؤسسات التي تسعى لبناء مستقبل قوي ومستدام تدرك أن نجاحها يعتمد بشكل أساسي على بناء الأفراد الذين يشكلون أساسها.
وفي ختام هذا الحديث، يمكن القول إن الاستثمار في الإنسان ليس رفاهية ولا خيارًا ثانويًا، بل هو ضرورة تعكس عمق رؤية القيادة وحرصها على بناء مستقبل مشرق. إن كل فرد هو ثروة بحد ذاته، وكل فرصة تُمنح له هي فرصة لبناء مجتمع أقوى وأكثر ازدهارًا. فلنكن على قدر هذه المسؤولية، ولنمنح من حولنا الفرصة ليكونوا قادة المستقبل. لأن كل تدريب، وكل تأهيل، وكل كلمة دعم تُقدم، هي جسر يعبر بنا جميعًا نحو غد أفضل. إذ أن الإنسان، ببساطة، هو الجسر الذي يقودنا إلى المستقبل.