اخر الاخبار

Civil War.. الانقسام يضرب أميركا.. والفيلم أيضاً!

من الصعب تصنيف فيلم  Civil War، أحدث أعمال المخرج والكاتب البريطاني ألكس جارلاند، المعروف برواياته وأفلامه التي تنتمي لنوع “ديستوبيا الخيال العلمي”، مثل 28 Days Later وEx Machina.

من اللحظة الأولى في Civil War يدرك المشاهد أنه أمام ديستوبيا: أي مدينة فاسدة، مضاد يوتوبيا التي تعني مدينة فاضلة، خيالية، كابوسية، تسودها الديكتاتورية والتمزق والعنف المجنون، ورئيس قاد البلاد إلى الهاوية.

مع المشهد الأول في الفيلم ندرك أننا في الولايات المتحدة الأميركية في زمن ما مستقبلي، وإن كان غير بعيد، وهناك رئيس ملامحه شبيهة برئيسي أميركا الحالي والسابق، تبدو عليه الحماقة، والشر، يتدرب على إلقاء خطاب، تتفتت الكلمات الجوفاء، من نوعية استعادة العظمة الأميركية، والقضاء على الخونة، قبل أن يلقي بالخطاب عبر الإذاعة، والذي تتردد أصداءه في شوارع تموج بالقتل والوحشية، تحيط بها مبان مدمرة، وطائرات هليكوبتر تحلق بلا انقطاع تلقي بقنابلها على الجميع.

لا يملك المشاهد سوى أن يقارن ما يراه بالمخاوف التي يشعر بها، أو يسمع عنها، من عواقب التطرف والاستقطاب والانقسام الذي تشهده الولايات المتحدة الأميركية، والتي تفاقمت عقب عودة دونالد ترمب إلى السلطة.

خيال واقعي؟!

ينتمي الفيلم، إذن، لنوع الهجاء السياسي Satire، وبشكل عام لا يوجد تناقض بين الديستوبيا والهجاء السياسي، من زمن رواية 1984 لجورج أورويل، ورواية Fahrenheit  لراي برادبوري، ونحن نعلم أن الديستوبيا تحمل في داخلها هجاءً سياسياً مضمراً.

لكن المقلق فيما يتعلق بـCivil War  أن المسافة بين الديستوبيا والنقد السياسي قريبة للغاية، المسافة صفر إذا أحببنا استخدام التعبير الذي شاع مؤخراً، والذي يعنون مجموعة أفلام فلسطينية وثائقية عما يحدث في غزة حالياً، المدهش أن Civil War صوراً لدمار المدن تحيلنا بصرياً إلى غزة، في مفارقة أخرى من مفارقات الفيلم.

يعبر Civil War هذا الخط الفاصل بين الواقع والخيال، يحطم “الحائط الرابع” بطريقة ما، معرياً جسد الخوف من انقسام الولايات الأميركية على نفسها واندلاع حرب أهلية طاحنة، ليس من المستغرب، إذن، أن يثير الفيلم انزعاجاً وانقساماً بين المعجبين به، الذين يرون فيه تحذيراً وجرس إنذار من احتمال تدهور الأمور، والرافضين لمضمونه وشكله، الذين يرون فيه مبالغات ليبرالية يسارية تحزبية لتشويه اليمين المحافظ، وإثناءه عن خوض حربه المقدسة!

فنياً، لا سياسياً، يتسبب عبور الخط الفاصل بين الخيال العلمي والواقعية النقدية إما في تلقي الفيلم برضا زائد، أو بانزعاج زائد، وفقا لموقف المتلقي من الواقع السياسي الراهن.

هذا الانقسام نفسه الذي أثاره فيلم The Apprentice ( إخراج علي عباسي وبطولة سباستيان ستان) الذي واجه صعوبة كبيرة في عرضه العام (بعد عرضه الأول في مهرجان كان الماضي)، بسبب عرضه لجوانب من حياة دونالد ترمب في شبابه بشكل مباشر، وسلبي، مما أثار حفيظة ترمب ومؤيديه ومحاولاتهم لمنع عرض الفيلم.

عن الحرب ومصوري الحرب

يعاني Civil War  انقساماً من نوع آخر، هو أن حبكته الجوهرية تدور عن الصحافة، وخاصة في زمن الحرب والعنف. 

يدور الفيلم حول مصورة حرب مخضرمة (كريستين دانست) يمنحها الفيلم اسم لي سميث، غالباً تكريما لمصورة الحرب العالمية الثانية الشهيرة لي ميلر، والتي خرج عنها فيلم بريطاني حديث بعنوان Lee من بطولة كيت وينسلت وإخراج إلين كوراس.

هناك إشارة في  Civil Warبالفعل إلى لي ميلر، على لسان مصورة شابة، اسمها جيسي (كايلي سبيني)، تنضم إلى لي سميث في رحلة كابوسية للوصول إلى البيت الأبيض لاجراء حوار مع الرئيس الأمريكي، تضم أيضاً صحفياً شاباً (واجنر مورا) وصحفياً متقاعداً ومريضاً مصمماً على العمل حتى النهاية (ستيفن ماكينلي هندرسون).

 يسافر الأربعة مئات الكيلومترات، وسط مدن خربة تموج بالعنف والدماء، وعندما يصلون أخيراً إلى البيت الأبيض، مرورا بالكابيتول ومدينة “تشارلوتسفيل” (التي شهدت بدايات الاحتقان والعنف السياسي بين اليمين المتطرف ومعارضيه في 2017) يكون كل شئ قد انتهى: الرئيس ولي سميث والحرب، ولم يبق سوى الأطلال وأشباح جنود منتصرون تبتسم حول الجثث.

الحبكة الجوهرية في الفيلم تدور، كما ذكرت، حول مهنة صحافة الحرب، وبالتحديد حول العلاقة بين الجيل القديم، ممثلاً في لي سميث والصحفي المتقاعد، والشابة الصاعدة التي تتعلم عبر الرحلة فن القسوة والبرود في مواجهة الموت، والقدرة على تصوير أي عنف وأي موت، حتى لو كان موت أصدقاءها.

يخصص الفيلم قسطا وافرا من حوارته حول ما تفعله الحرب فيمن يمارسها أو يكتفي برصدها وتصويرها، وحول أهمية المهنة نفسها، رغم غرابتها (إذ يحمل المرء كاميرا ويتجول بها بين القنابل والأشلاء والمسلحين)، كما يطرح السؤال الذي يتعين على أي مراسل حربي أن يسأله: هل أترك الكاميرا لمساعدة مصاب أم أكتفي بالتصوير، وهل يمكن أن أتدخل بالرأي أو الفعل في موقف ما، أم أكتفي بالمراقبة والرصد؟.

أين يذهب التعاطف؟

بين الخيال العلمي والواقع، وبين الحرب الأهلية وصحافة الحرب، يحمل Civil War انقسامات أخرى فنية: على مستوى السيناريو يتذبذب اهتمام وتعاطف المشاهد بين خلفية الحرب ومصير البطلتين الرئيستين.

في الحقيقة تظل الحرب مجرد تجريد (رغم التفصيل الجرافيكي الهائل لدمويتها ووحشيتها) يمكن أن يصدم المشاهد ويثير رفضه للحرب، ولكن تعاطفه وتماهيه سيقتصر على الشخصيات التي تعرف إليها وفهمها، وهي الصحفيين.

في أحد المشاهد تتعرض المجموعة لخطر القتل، وتسقط “جيسي” في حفرة مقبرة جماعية فوق عشرات الجثث، يشعر المشاهد بالرعب والخوف عليها، ولكن يصعب أن يفكر في أسماء وحياة هؤلاء المقتولين بالعشرات في الحفرة.

هذه المعضلة مرتبطة بالفن السينمائي عموماص، ولكن الفارق بين فيلم وآخر هو قدرته على معالجة هذه المعضلة، بحيث يمتد التعاطف والفهم إلى أبعد من حدود الشخصيات المعروضة.

ألكس جارلاند، كما عهدنا، مهتم أكثر بالإبهار البصري والتأثير الحسي على المشاهد، كما أن له باعاً طويلاً في تصميم ألعاب الفيديو، ولا يختلف الأمر كثيراً في Civil War رغم حساسية وأهمية الموضوع الذي يناقشه.

ومن المدهش أنه في الوقت الذي يخصص فيه الفيلم مساحات كبيرة للحديث عن أزمة مراسلي الحروب، فهو لا يكاد يتوقف للحديث عن مجريات الحرب وأسبابها.

كل ما نعرفه هو أن الاقتصاد الأميركي انهار، وأن تكساس وفلوريدا تحالفتا ضد بقية الولايات، بالرغم من أنهما ولايتان متعارضتان تاريخياً، وأن الحرب قضت على الأخضر واليابس، وأن السبب غالباً هو سياسات الرئيس، ولكن يظل هناك شعور بأن شيئاً ما ناقصاً.

جرئ واستثنائي

لا يمنع هذا من أن Civil War عمل جرئ وقوي واستثنائي (ربما نتذكره بعد سنوات إذا تحققت النبوءة، النذير، ونشبت الحرب الأهلية فعلاً)، ولا يمنع أنه عمل درامي مسلي ومشوق، يحتوي على مؤثرات بصرية مبهرة ومشاهد عنف مرعبة ومواقف إنسانية مؤثرة.

أطرف شئ، وهي آخر انقسام في الفيلم أشير إليه، هو التناقض الهائل بين عنف وفظاظة الصورة والموسيقى التصويرية التي تتألف غالباً من أغان شعبية مبهجة وراقصة.

ألكس جارلاند، قبل أي شئ، يحرص على أن ينعم المشاهد بوقت جيد، حتى لو كان الفيلم يدور حول نهاية العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *