ترمب وعمالقة التكنولوجيا دفء مفاجئ العلاقات يطوي عداء قديما
شهدت علاقة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بوادي السيلكون تحولاً جذرياً مع بداية ولايته الثانية، إذ بدا أنه يفتح صفحة جديدة مع عمالقة التكنولوجيا Big Tech، بعد أن بلغت عداوتهم في نهاية ولايته الأولى حد حذف حساباته الرسمية.
وبينما قامت بعض الشركات بإعلان تغييرات كبيرة في سياساتها الخاصة بتعديل المحتوى على منصاتها، بهدف تعزيز “حرية التعبير”، كنوع من التماهي مع رؤية ترمب التي تنتقد الرقابة المفرطة على منصات التواصل الاجتماعي، اختارت شركات أخرى الاستجابة لانتقادات ترمب لحركات “الوعي” الاجتماعي، من خلال تقليص برامج التنوع والمساواة والإدماج DEI.
وفي ظل سعي الإدارة الجديدة لترسيخ هيمنة الولايات المتحدة في مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، يبدو أن شركات مثل “ميتا” و “أمازون” و”تسلا”، بدأت تتخذ خطوات للتقارب مع البيت الأبيض، سواء من خلال دعم سياسي أو استثمارات ضخمة في مشروعات استراتيجية استجابة للتوقعات بأن إدارة ترمب ستفضل سياسات أقل تقييداً للصناعة.
وجاء الحضور البارز لقيادات شركات التكنولوجيا، مثل الرؤساء التنفيذيين لـ”أمازون”، جيف بيزوس، وجوجل، سوندار بيتشاي، و”ميتا”، مارك زوكربيرج، بالإضافة إلى مالك شركتيْ “سبيس إكس” و”تسلا” إيلون ماسك، في الصفوف الأمامية في حفل تنصيب ترمب، مُعبراً عن حالة التقارب مع الإدارة الجديدة.
علاقة أكثر دفئاً
وبعد يوم واحد فقط من اتخاذه قراراً بقطع خدمات “تيك توك” عدة ساعات في الولايات المتحدة، جلس الرئيس التنفيذي للشركة، شو زي تشيو، في حفل تنصيب ترمب، وعلى مقربة منه رؤساء شركات التكنولوجيا الكبرى، الذين ضخوا ملايين الدولارات في صندوق تنصيبه، أكثر مما أنفقوا لدعم حفلات تنصيب رؤساء سابقين.
وقبل أشهر من حفل التنصيب، حاول قادة التكنولوجيا كسب ود ترمب وتقديم الولاءات من خلال سلسلة من الزيارات والمكالمات والتعهدات المالية، للبحث عن دور فعال في “العصر الذهبي لأميركا” تحت إدارته.
وقال ترمب، حينها، في تصريحات له في منتجع مار إيه لاجو: “في الفترة الأولى، كان الجميع يحاربونني. وفي هذه الفترة، يريد الجميع أن يكونوا أصدقائي”.
تصريحات ترمب جاءت معبرة عن شكل العلاقة بينه وبين قطاع التكنولوجيا التي شهدت انتقادات من إدارته الأولى لممارسات شركات مثل “إكس” (تويتر سابقاً) و”أمازون” وجوجل، وهددت بفرض قيود وتنظيمات أكثر صرامة على أعمالها، خاصة فيما يتعلق بالتحكم في المعلومات والأمن القومي.
لكن التحول إلى علاقة أكثر دفئاً مع قادة الصناعة، خلال ولايته الثانية، أرجعها كبير مستشاري السياسات لشؤون الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي في مؤسسة “ثيرد واي” مايك سيكستون، إلى المنافس الصيني.
وقال سيكستون في تصريحات لـ “الشرق”، إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين تعد قضية رئيسية في واشنطن منذ ولاية ترمب الأولى في عام 2017، وقد أصبحت هذه القضية أكثر تأكيداً وأكثر أهمية في وادي السيليكون منذ إطلاق ChatGPT في عام 2022.
وأضاف سيكستون، أنه “في الوقت الحالي، يرى كل من الجمهوريين والديمقراطيين وشركات التكنولوجيا الكبرى أن القيادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي، أمر حاسم سواء من حيث الأهمية الذاتية أو في سياق المنافسة مع الصين، وهناك شعور بالوحدة والوطنية في كلا الحزبين والقطاع الخاص في أميركا، والجميع متفائلون بشأن المستقبل ووعد الذكاء الاصطناعي في أميركا”.
واشتعلت تلك المنافسة بعد أيام قليلة من ولاية ترمب الثانية باكتساح تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني DeepSeek، الأوساط التكنولوجية، وذلك بعد نجاحه في تصدر قائمة التطبيقات الأكثر تحميلاً على متجر أبل بالولايات المتحدة، ليصبح منافساً حقيقياً للتطبيقات الأميركية مثل ChatGPT من شركة OpenAI وجوجل.
لكن رئيس قسم أبحاث وسائل الإعلام في جامعة رايرسون، جريج إلمر، أشار إلى دور التكنولوجيا في فوز ترمب في الانتخابات الأخيرة، خاصة “تيك توك”، لافتاً إلى أنها ساهمت في صنع تلك العلاقة الدافئة.
وقال إلمر، الذي تركز أبحاثه على العلاقة بين وسائل الإعلام الرقمية والمراقبة والسياسة، لـ “الشرق”، إن “ترمب يعتبر نفسه خبيراً في الإعلام، وقد استخدم وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل ذكي لتجاوز تحدياته المالية في قطاع العقارات”.
وأوضح إلمر أنه في البداية، كان يحصل ترمب على اهتمام واسع بسبب مشروعاته الكبرى مثل ناطحات السحاب والكازينوهات، ولكن مع مرور الوقت، تحول تركيزه إلى السيطرة على وسائل الإعلام ودورات الأخبار.
وأضاف: “أدرك ترمب جيداً كيف تتفاعل رسالته على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما ساعده في النجاح في هذا المجال”، متوقعاً أن سبب تقارب ترمب مع شركات التكنولوجيا الكبرى في ولايته الثانية لـ”يقوم بتسخير المنصات بشكل أكثر فعالية لتحقيق أهدافه السياسية والشخصية”.
الأوليجارش والمشهد السياسي
في خطابه الأخير قبل تركه منصبه، حذر الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، من هيمنة أشخاص وشركات عملاقة على صناعة القرار في السياسة والاقتصاد.
وقال بايدن: “اليوم، تتشكل في أميركا أوليجارشية من الثروة الهائلة والقوة والنفوذ التي تهدد ديمقراطيتنا بأكملها وحقوقنا وحرياتنا الأساسية وفرصة عادلة للجميع للتقدم”.
بدوره، أرجع إيريك جولدمان، العميد المشارك للأبحاث وأستاذ القانون بجامعة سانتا كلارا، التحول في العلاقة بين ترمب وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى “تغيرات المشهد السياسي في أميركا”.
وقال في تصريحات لـ”الشرق”، إن “الولايات المتحدة تتطور بسرعة بعيداً عن الديمقراطية التمثيلية نحو الأوليجارشية، إن كبار التنفيذيين في الإنترنت يقومون بوضع أنفسهم ليكونوا قادة في الأوليجارشية الناشئة، وللحفاظ على مكانتهم يجب على شركات الإنترنت أن تلتزم بالولاء لترمب”.
وأضاف جولدمان إن هذه الشركات تعتبر أن دعم ترمب “سيحمي مصالحها الخاصة مستقبلاً، إذ يتوقعون أن يحصلوا على امتيازات سياسية من خلال دعمه، مثل تخفيف القيود التنظيمية المتعلقة بالتحيز والسلامة في مجال الذكاء الاصطناعي، ما يسمح لها بالعمل بحرية أكبر أو تحسين سياسات الضرائب، ويعود بالفائدة والثراء على التنفيذيين والمساهمين”.
وتابع: “هذه العلاقة قد تضمن لشركات التكنولوجيا دوراً أكبر في تشكيل السياسات المستقبلية، بينما يحصل ترمب على الدعم السياسي والمالي من هذه الشركات في المقابل”.
من جانبه، لفت إلمر إلى أن حالة التقارب من جانب شركات التكنولوجيا نحو ترمب، تسير في إطار المنافسة فيما بينها للحصول على عقود حكومية كبيرة وامتيازات سوقية أخرى، بما في ذلك الشراء المحتمل لمنافس أجنبي مثل منصة “تيك توك”.
وكان ترمب قد وقع على أمراً تنفيذياً يوقف الحظر المفروض على “تيك توك” في الولايات المتحدة، وبموجبه يتم إيقاف الحظر لمدة 75 يوماً، سعياً إلى حل يحمي الأمن القومي مع إنقاذ المنصة التي يستخدمها 170 مليون أميركي، إذ يبحث ترمب موافقة الصين في الحصول على نصف قيمة التطبيق.
فانس واللحظة التاريخية
في اليوم الأول بعد تنصيبه، أعلن البيت الأبيض، مشروعاً مشتركاً يستثمر ما يصل إلى 500 مليار دولار في البنية التحتية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي من خلال شراكة جديدة بين OpenAI وOracle وSoftBank. الكيان الجديد، الذي يُسمى Stargate، سيبدأ في بناء مراكز بيانات ومرافق توليد الكهرباء اللازمة للتطوير المستمر للذكاء الاصطناعي المتطور بسرعة في ولاية تكساس.
وبينما تعود الخطط الأولية لمشروع Stargate إلى إدارة بايدن، فإن سيكستون أشار إلى أن ترمب سيحظى بفرصة أن ينسب إليه الفضل في نجاح القطاع الخاص في الذكاء الاصطناعي كما في ذلك المشروع، خاصة إذا تبنى سياسات تدعم تطوير الذكاء الاصطناعي.
وتطور آراء ترمب في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الذي كان يعتبره في وقت ما “خطراً”، قد يعود إلى نائبه جي دي فانس، أحد أقوى المستثمرين في الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، الذي شارك في تأسيس “ناريا كابيتال” لرأس المال الاستثماري في عام 2019، وتخلى عن دوره كشريك فيها بعد فوزه في انتخابات مجلس الشيوخ 2022.
وأرجع سيكستون نقطة التحول التي دفعت ترمب إلى تغيير علاقته بشركات التكنولوجيا الكبرى إلى مزيج من خبرة جي دي فانس في رأس المال الاستثماري والتكنولوجيا، بالإضافة إلى اللحظة التاريخية الحالية التي أصبح فيها الذكاء الاصطناعي القضية الأهم في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
وقال سيكستون إنه “بغض النظر عن السياسة، فإن خلفية جي دي فانس التكنولوجية ستكون مفيدة بشكل كبير لترمب في السنوات الأربع القادمة، ومن المحتمل أن يكون لها تأثير عميق ودائم على السياسة الجمهورية بعد انتهاء ولايته. أنا ممتن لأن دعم الذكاء الاصطناعي هو قضية توافقت عليها الأحزاب”.
استراتيجيات المواءمة
واتخذت كل شركة عملاقة في مجال التكنولوجيا نهجاً للتعامل مع ترمب في ولايته الثانية، فبالنسبة لـ”جوجل”، يبحث رئيسها التنفيذي، سوندار بيتشاي، الذي زار ترمب في مار إيه لاجو وقدم تبرعاً بمليون دولار لصندوق تنصيبه، عن فرصة لتجنب تكثيف التحقيقات في مكافحة الاحتكار في مجالي البحث والإعلانات، حيث طلبت إدارة بايدن من قاضٍ فيدرالي إجبار الشركة على بيع متصفح “كروم” الأكثر شعبية في العالم، لاحتكار “جوجل” لعمليات البحث على الإنترنت.
وكان ترمب، خلال فترة ولايته الأولى، اتهم جوجل بتزوير نتائج البحث لصالح تقارير سلبية عنه، لكن لشركة نفت هذه الاتهامات.
وأشار إلمر إلى أن شركات التكنولوجيا الكبرى قد تحاول مواءمة مصالحها مع مصالح الإدارة الجديدة، لتحقيق التعاون وتحد من الضغوط القانونية التي تواجهها، من خلال التفاعل معها وإظهار دعمها، قد تتمكن هذه الشركات من التأثير في السياسات المستقبلية أو إيجاد حلول قانونية تخفف من تأثير القضايا القانونية المرفوعة ضدها.
أما مايكروسوفت، التي اتخذت سابقاً مواقف انتقادية تجاه ترمب خلال ولايته الأولى، أصبحت الآن أكثر عملية وتعاوناً في ولايته الثانية، خاصة مع تركيز الإدارة الجديدة على تحرير قطاع التكنولوجيا، إذ تسعى الشركة لحماية مصالحها الاستراتيجية في مجالات مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي.
وأوضح إلمر أن ترمب في أوج قوته الآن وخلال الأشهر الـ12 المقبلة، إذ يستغل هذه الفترة للضغط من أجل تغييرات في سياسات المنصات الرقمية، أو على الأقل لإظهار نفوذه على هذه الشركات العملاقة ذات التأثير الاقتصادي الكبير.
وأضاف: “يلوح ترمب بتسهيلات وتقليص القواعد التنظيمية وعقود حكومية، في الوقت نفسه يستفيد من الدعم المادي وإظهار نفوذه على تلك الشركات. وكعادته، سيركز على المظاهر الرمزية للسلطة بينما يترك التفاصيل لأعضاء إدارته للتعامل معها”.
من جانبها اتخذت Meta خطوات قد تتوافق بشكل أفضل مع سياسات الإدارة الجديدة، إذ تشمل هذه الخطوات تقليص برامج التنوع والإدماج وتخفيف القيود المفروضة على وسائل التواصل الاجتماعي وإلغاء سياسة “تدقيق الحقائق”.
وكان مارك زوكربيرج، قد أقدم على حظر ترمب من فيسبوك وإنستجرام، في أعقاب أعمال الشغب في مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021.
وأشار جولدمان إلى أن Meta اتخذت مؤخراً عدة خطوات سياسية رئيسية، جميعها تصب في مصلحة الرئيس ترمب “كان من بين هذه الخطوات إلغاء التحقق من الحقائق”.
وأكد جولدمان أنه من خلال عدم القيام بأي “تحقق من الحقائق، ستساعد فيسبوك على نشر المزيد من الأكاذيب على الإنترنت، سواء من الحكومة أو من مؤيديها”.
وأوضح أن هذا يخدم أجندة ترمب بطريقتين، “أولاً، يسمح لترمب والحكومة بنشر أكاذيبهم دون أن يواجهوا أي مسؤولية، وهو ما بدأ بالفعل بشكل جاد في الأسبوع الأول من ولايته، أما ثانياً، تزيد الأكاذيب من الانقسام العام بين مستخدمي فيسبوك”، لافتاً إلى أن ترمب يزدهر عندما يتشاجر أنصاره مع بعضهم البعض، لأن ذلك يعني أنهم لا يتشاجرون معه.
أجندة ترمب
والتقارب بين صناع التكنولوجيا وترمب، والذي تتجلى صورته في أيلون ماسك أبرز حلفائه، الذي مول حملته الانتخابية ببمبلغ 277 مليون دولار أميركي وحصل على قيادة وزارة “الكفاءة الحكومية” في إدارته الثانية، أثار مخاوفاً لدى المحللين، بشأن كيفية تأثير هذا التقارب على قضايا مثل الخصوصية الرقمية وحرية التعبير.
ورأى محللون أن سيطرة ترمب المحتملة على سياسات المنصات قد تؤدي إلى تغييرات في معايير المحتوى، ما يفتح المجال لإسكات أصوات المعارضة أو تسييس الخطاب العام.
وأشار جولدمان في هذا الصد، إلى أنه يمكن أن يُنظر إلى هذا التعاون على أنه وسيلة لتعزيز سلطة ترمب من خلال استغلال منصات التكنولوجيا العملاقة لتحقيق أهداف سياسية أو دعائية، ما يثير مخاوف من تآكل الحدود بين القطاعين العام والخاص لصالح أجندة سياسية محددة.
وقال إن “العديد من الشركات الكبرى تخلت عن أي تظاهر بالحياد السياسي أو النزاهة التحريرية، وبدلاً من ذلك، ستفعل أي شيء يطلبه منها الرئيس ترمب، والنتيجة هي أن شركات الإنترنت أصبحت بوقاً لأجندة ترمب، لا تختلف عن وسائل الإعلام التي تديرها الدولة”.
وبينما اعتبر إلمر أن تجاوزات منصة “إكس” المثيرة للجدل والمرتبطة باليمين المتطرف، تتيح لـ”ميتا” فرصة الظهور بشكل أكثر استجابة للمناخ السياسي دون جذب انتقادات حادة، أكد سيكستون، أن شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة، مضطرة إلى تحقيق توازن دقيق بين وطنيتها وحساسيات الانقسام الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين.
وأوضح سيكستون أن وادي السيليكون يميل تاريخياً نحو الديمقراطيين، وأبرز مثال على ذلك كان في انتخابات باراك أوباما، لكن سياساتهم في تعديل المحتوى بشأن المعلومات المضللة وقضايا العرق والجنس أثارت انعدام الثقة بين الجمهوريين والمحافظين.
وقال: “لا توجد طريقة للتعامل مع هذه القضايا تُرضي جميع الأطراف، ولكن إذا تمكنت شركات مثل ميتا وجوجل من بناء والحفاظ على مستوى كافٍ من الثقة بين اليسار واليمين، فسيكون ذلك سياسة جيدة، وأعمالاً ناجحة، وأمراً مفيداً للغاية للبلاد”.
وأضاف أن السياسة على وسائل التواصل الاجتماعي تشبه لعبة شد الحبل بين اليسار واليمين، يجب أن يتمكن الجانبان من التحدث مع بعضهما البعض والشعور بأنهما يُعاملان بإنصاف.