حول الجدران
![](https://sharqakhbar.com/wp-content/uploads/2025/02/d_22-780x470.jpg)
سليمان سيفي أوغون يني شفق
في أواخر الثمانينيات، كانت إحدى الأزمات الدورية التي تعصف بالرأسمالية سببًا في انهيار الجدار. وقد ولّد هذا الحدث موجة من التفاؤل المفرط في العوالم الفكرية والنفسية، حيث ساد الاعتقاد بأننا سنتحرر أخيرًا من الهيمنة البيروقراطية والسياسية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لم تكن هذه الهيمنة تقتصر على فرض سيطرة سياسية، بل كانت تعيق أيضًا النشاط الاقتصادي، مما حال دون استغلال الإمكانات الإنتاجية الكاملة للبشرية. بدا أن الزمن قد تجاوز الاقتصادات السياسية والبيروقراطيات التي أسستها وأدارتها، وباختصار، انتهى عهد جميع أشكال الدولتية. وكان من المتوقع أن تعمل الاقتصادات وفق آلياتها الذاتية، بعيدًا عن التدخلات الحكومية، مما سيتيح لها تحقيق الكفاءة المثلى. كانت الفكرة السائدة أن استبدال الاقتصادات السياسية بنهج اقتصادي محض سيخلق بيئة أكثر انفتاحًا تتيح للبشرية التقدم بلا قيود. وهكذا، كان انهيار الجدران يرمز إلى هذه الحرية المنتظرة.
للوهلة الأولى، بدا هذا الطرح منطقيًا إلى حد كبير. فالواقع أن الهياكل البيروقراطية والمركزية كانت قد بلغت درجة من التآكل والفساد في مختلف أنحاء العالم، حتى أصبحت غير قادرة على تلبية احتياجات العصر. وكان الاتحاد السوفييتي المثال الأبرز على هذا التدهور، لكن حتى الولايات المتحدة اليوم تعاني من أزمة بيروقراطية متفاقمة، تنعكس في تردي بنيتها التحتية التي أصبحت تعاني من التآكل والانهيار. غير أن المشكلة لم تكن تقتصر على الفساد المؤسسي فقط؛ فقد باتت البيروقراطيات التي كانت يومًا ما تجسد العقلانية تفقد كفاءتها، وتنحرف عن مسارها، بل وتمارس سياسات غير منطقية.
في ظل هذا المشهد، حمل الخطاب النيوليبرالي البيروقراطيات مسؤولية تراجع الإنتاجية الاقتصادية. لكن الحقيقة أن السبب الجوهري لهذا التراجع كان كامنًا في التناقض الأساسي داخل الرأسمالية ذاتها، بين العرض والطلب، وهما عنصران يعملان بشكل متناقض يصعب التوفيق بينهما. فزيادة العرض كانت تتطلب خفض الطلب، بينما كانت السياسات الرامية إلى تعزيز الطلب تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وبالتالي تراجع العرض.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان صعود الدور الحكومي في الاقتصاد وتبني السياسات التدخلية العامة يهدفان إلى تحفيز الطلب عبر تدخلات بيروقراطية. لكن عندما يتم تحرير الأسواق بالكامل من هذه التدخلات وتركها لتعمل وفق ديناميكياتها الخاصة، يصبح تحقيق الاستقرار أمرًا بالغ الصعوبة، كما يصبح تفادي الصراعات الطبقية والقومية شبه مستحيل. وهذا يعني أن ترك مستقبل البشرية ليحكمه الاقتصاد وحده دون أي تدخل سياسي كان بمثابة مغامرة خطيرة. ولذلك، كان لا بد من سياسات اقتصادية قائمة على المصالح العامة، تساهم في إعادة توزيع الثروة وتعزيز الطلب لضمان الاستقرار والتقدم.
لم تكن الأمور سيئة بين عامي 1945 و1970، إذ بدأت إجراءات الروتين والبيروقراطية في عالم العمل والإدارة تؤتي ثمارها. لكن مع دخول السبعينيات، انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب. فمع إعادة توزيع الثروة التي أسهمت في تحسين أوضاع الطبقة العاملة وتحويلها إلى طبقة وسطى، تراجعت الإنتاجية، وارتفعت تكاليف العمالة، مما أدى إلى انخفاض كفاءة رأس المال. وهكذا، أصبح تدخل الدولة والبيروقراطية والسياسات العامة موضع اتهام، وتحولت إلى كبش فداء لهذه الأزمة.
لم تكن الادعاءات التي استُخدمت لتبرير شنّ حرب شاملة وجذرية على الاقتصادات السياسية والتراكم الحضاري العام للبشرية مقنعة في الواقع. فمنذ نشأتها، تطورت الرأسمالية جنبًا إلى جنب مع صعود البيروقراطية.
ففي مراحلها الأولى، اعتمدت على تعزيز العرض، بينما استخدمت الدول احتكارها للعنف لقمع الطلب. أما في المرحلة الثانية، عندما أصبح من الضروري إنعاش الطلب، فقد أخفت تلك الدول أدواتها القمعية، وظهرت في صورة راعيةٍ أبوية، وتحولت إلى دول ذات طابع اجتماعي.
كان الفارق بين الدولة السلطوية التي تعاقب مواطنيها والدولة الاجتماعية التي ترعاهم مجرد اختلاف في الوظيفة، لا في الجوهر. لكن ما فشل النيوليبراليون في إدراكه، أو ربما تعمدوا تجاهله، هو أن الرأسمالية لا يمكن أن توجد دون الدولة.
ومع ذلك، تم تصوير الدولة الرأسمالية سواء في صورتها الاجتماعية أو الاشتراكية، أو حتى في إطارها الشيوعي على أنها مصدر كل المشكلات. كانت محاولة فصل المجال السياسي عن المجال الاقتصادي بمثابة إطلاق العنان لاقتصاد بلا ضوابط أو مسؤوليات، مما أدى إلى خروجه عن السيطرة وانزلاقه نحو الفوضى. وما ظهر بعد انهيار الجدار لم يكن سوى رأسمالية فوضوية (أناركورأسمالية) تتخفى وراء قناع الحرية. وبينما كانت الأناركية في جذورها معادية للرأسمالية، فقد اندمجت معها لأول مرة بهذا الشكل المكثف.
وفي حين كان المثقفون والفنانون يرفعون شعارات الحرية، كانت الرأسمالية الفوضوية تستدعي الدولة القمعية من جديد. كانت “السيدة الحديدية” (مارغريت تاتشر)، ورونالد ريغان المسلح، وأوزال الخارج من رحم الانقلابات، مجرد وجوه سياسية لمسار واحد. وسرعان ما أدرك الجميع أن الدولة البيروقراطية ذات السياسات العامة التي تم التخلص منها، قد حلت محلها نسخة من الدولة القمعية في القرن التاسع عشر، بكل أدواتها من شرطة وجيش وقوات أمنية.
البيروقراطية كانت دائمًا مملةً ومزعجة، فهذه طبيعة وضع القوانين واللوائح. ولتقبّلها، لا بد أن تكون المجتمعات قد مرت بأزمة أمنية عميقة وشعرت بخوفٍ شديد. فكما أن الأطفال، عند شعورهم بالخوف، يلجؤون إلى الأب بحثًا عن الحماية، فإن المجتمعات تلجأ إلى الدولة، التي تمثل بالنسبة لها القوة والسلطة من جهة، والرعاية والاحتضان من جهة أخرى.
إذا استخدم الأب العنف كوسيلة رئيسية، فإن جزءًا كبيرًا من أبنائه، أو على الأقل نسبة معتبرة منهم، سيتجاوزون مخاوفهم الأمنية ويتمردون عليه. وعلى العكس، إذا تعاملت الدولة مع مواطنيها بحنان وتفهُّم ورعاية، فقد يُعتقد أنها ستكسب ولاءهم إلى الأبد. لكن الواقع غالبًا ما يكون عكس ذلك. فحينما يحصل الأفراد على اعترافٍ بذواتهم ويُمنحون حقوقًا لا حصر لها، وتزداد مكاسبهم، فإنهم يصبحون أكثر أنانية وتمحورًا حول ذواتهم، حتى يتحولوا إلى أشخاص لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة. والأسوأ من ذلك، أنهم أثناء تحقيق رغباتهم، يبدأون في النظر إلى الدولة على أنها كيان زائد عن الحاجة، شيئًا فشيئًا.
هذا تحديدًا ما حدث في الغرب على المستوى الاجتماعي والثقافي. فقد نشأت النخب الجديدة، مثل ما بعد الحداثيين وتيار الـ”ووك”، من أوساط الطبقة الوسطى التي بالغت الدولة في تدليلها، مما جعل كراهية الدولة تصل إلى ذروتها لديهم. لكن في الواقع، كان هؤلاء يعانون من تسفل ثقافي عميق.
إن انهيار الجدران لم يكن سوى انعكاسٍ لهذه الكراهية المتجذرة تجاه الدولة. وقد لعب هؤلاء دورًا رئيسيًا في تفكيك الاقتصادات السياسية. وأعتقد أن سعي الإنسان الحديث وراء الحرية يخفي في أعماقه صراعًا طويل الأمد مع السلطة، بل ربما تكمن خلفه رغبة دفينة في التخلص من الدولة تمامًا.
في عالم بلا جدران، انطلقت الرأسمالية الفوضوية (الأناركورأسمالية) بلا أي التزامٍ بالقوانين أو المعايير، ودون مراعاة للمصلحة العامة أو الاعتبارات الأخلاقية. وبدلًا من بناء اقتصاد مستقر، خلقت هذه الفوضى تضخمًا زائفًا وفقاعات اقتصادية لا تستند إلى أسس حقيقية، مما دفع العالم إلى أزمة كارثية. وكانت النتيجة الوحيدة لهذه الفوضى تفاقم عدم المساواة والفقر. إن الانتقال من رأسمالية محكومة بجدران إلى رأسمالية بلا جدران، ومن ثم الفشل حتى في هذا النموذج الجديد، كان كفيلًا بالقضاء على الرأسمالية تمامًا. لكن هذا لم يحدث.
بل استمرت العملية التي وصفها ماركس بأنها “تطور القوى المنتجة” في العمل، وبدلًا من الانهيار، دخلت الرأسمالية في مرحلة تحول هيكلي جديد من خلال دمجها مع التطورات التكنولوجية. وحمل هذا التحول جيلٌ جديد من الطبقة الوسطى، وهو جيل لا يعترف بأي سلطة ولا يشعر بأي انتماء للمصلحة العامة. وفي الفضاءات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي التي أنشأها هذا الجيل، بدأت عملية بناء جدران جديدة. سأناقش طبيعة هذه الجدران في الجزء الأخير الرابع من هذه السلسلة.