اخبار عمان

الحياة بين الاختيار والقرار | جريدة الرؤية العمانية

سلطان بن ناصر القاسمي

حين تتأمل حياتك، ستجد أنها مليئة بالخيارات، ولكن السؤال الأهم: هل كان الاختيار وحده كافيًا لتحقيق السعادة؟ هنا تكمن الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون، وهي أن السعادة ليست مجرد نتيجة للاختيارات، بل هي قرار يُتخذ بإرادة قوية ووعي عميق. نعم، قد تبدأ حياتك وأنت تبحث عن الاختيار الصحيح، سواء في مسارك الأكاديمي، أو قراراتك العملية، أو حتى في بناء علاقاتك، لكنك لن تصل إلى السعادة ما لم تتخذ القرار الواعي الذي يضمن لك تحقيق ما تطمح إليه. فالاختيارات وحدها ليست كافية، بل يجب أن يرافقها قرار حاسم يمكّن الإنسان من المضي قدمًا نحو تحقيق أهدافه بسعادة وثقة.

وهنا، يتجلى مفهوم الاختيار والقرار منذ مرحلة الطفولة، فالطالب في المدرسة قد يختار النجاح، لكنه لن يحققه إلا إذا قرر التفوق والاجتهاد. وهنا نلحظ أن الدعم الأسري عامل مساعد، لكنه ليس الحاسم، إذ نجد في بعض العائلات المفككة أبناءً استطاعوا اتخاذ قرار النجاح والتفوق رغم الظروف، بينما في عائلات أخرى، رغم توافر الدعم، يتخذ الأبناء قرارات غير موفقة تودي بهم إلى الفشل. لذا، لا يمكننا اختزال النجاح في مجرد اختيار، بل هو نتاج قرارات حاسمة يتخذها الإنسان في حياته. وفي كثير من الأحيان، نجد أن البيئة ليست العامل الأساسي، بل ما يقرره الإنسان بنفسه ليحقق النجاح. فمنهم من يتحدى ظروفه، ومنهم من يستسلم لها، والفرق بين الاثنين يكمن في القرار الذي يتخذه كل منهما حيال حياته ومستقبله.

وعند التأمل في أقدارنا، نجد أن بعض الاختيارات لا يد لنا فيها، مثل العائلة التي ننتمي إليها، المدينة التي ولدنا فيها، أو لون بشرتنا وصفاتنا الشخصية، فكلها أمور خاضعة للقدر، ولكن حتى في هذه الجوانب، يظل القرار هو الفارق الحقيقي. فمن يرضى بقدره ويسعى لاستثماره بشكل إيجابي، يكون قد اتخذ القرار الصحيح، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين قال: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى” (متفق عليه). بل حتى النجاح أو الفشل، النشاط أو الكسل، كلها أمور تجري بقدر، لكننا مسؤولون عن قراراتنا في التعامل معها. فالتعامل مع الواقع بقبول وحكمة يجعل الإنسان أكثر قدرة على الاستفادة من الفرص، بدلًا من تضييعها في الحسرة والتذمر.

ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يعيش حياته راضيًا سعيدًا ما لم يتخذ القرار بأن يكون كذلك. فالنجاح في العمل اختيار، لكن السعي لتحقيقه قرار. والتفوق في الدراسة اختيار، لكن الاجتهاد لتحقيقه قرار. بل حتى الالتزام بالصلاة والطاعات هو اختيار متاح للجميع، لكن القرار بممارستها والتقرب بها إلى الله هو ما يحدد طبيعة حياة الإنسان. وفي المقابل، فإن اختيار التهاون والتكاسل ناتج عن قرار سيء، يحمل الإنسان تبعاته لاحقًا. فالفرق بين شخص وآخر ليس في توفر الفرص، بل في القرار الذي يتخذه كل منهما إزاء الفرص المتاحة. فمنهم من يستثمرها ويستفيد منها، ومنهم من يهدرها ويتذمر من حياته.

وعندما يتعلق الأمر بالسعادة، نجد أنها لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى قرار واعٍ يجعل الإنسان يعمل لتحقيقها في جميع جوانب حياته. فقرار التفوق والسعي للمراكز الأولى، وقرار تحديد الأهداف والسير نحوها بخطوات ثابتة، وقرار عدم الاستسلام للعقبات، كلها عوامل تؤدي إلى تحقيق السعادة الحقيقية. فالإنسان الذي يتخذ القرار بالعمل الجاد والتطور المستمر، هو الذي يجني ثمار السعادة ويحقق أهدافه. والسعادة ليست في تحقيق الأهداف فحسب، بل في الشعور بالرضا خلال الرحلة نحو تحقيقها. فالإنسان الذي يعيش وفق قرارات صحيحة لا ينتظر السعادة تأتي إليه، بل يصنعها بنفسه من خلال خطواته اليومية وإصراره على تحقيق الأفضل.

وحين يصل الإنسان إلى مرحلة اختيار شريك الحياة، فإنه يكون قد انتقل إلى مستوى آخر من القرارات التي تؤثر بشكل مباشر على حياته المستقبلية. وهنا، يتجلى الفارق بين الاختيار والقرار بوضوح، فاختيار شريك الحياة قد يكون سهلاً، لكن استمرار العلاقة الزوجية بسعادة يحتاج إلى قرارات صائبة. ولضمان حياة زوجية سعيدة ومستقرة، هناك ثلاثة مبادئ رئيسية يجب الالتزام بها:

أولًا: تعلم كيف تصمت عند الغضب، فالردود السريعة والعفوية أثناء الانفعال قد تكون خاطئة وتؤدي إلى خسائر لا تُعوض، بينما يمنحك الصمت لحظة للتفكير قبل اتخاذ أي موقف. فكم من خلاف صغير تحول إلى مشكلة كبيرة بسبب كلمة قيلت في لحظة غضب، وكم من مشكلة عولجت بالحكمة والتروي.

ثانيًا: عند وقوع الخلاف، ابحث أولًا عن دورك في المشكلة بدلًا من إلقاء اللوم على الطرف الآخر. فالنظر إلى الذات وتحليل الأخطاء الشخصية يجعل الحلول أكثر منطقية وواقعية. فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، والبحث عن الحل بدلاً من تبادل الاتهامات هو مفتاح العلاقات الناجحة.

ثالثًا: ابحث عن دورك في الحل، وليس عن أخطاء الطرف الآخر. فالكثير من الخلافات تظل قائمة بسبب إصرار كل طرف على تحميل المسؤولية للطرف الآخر، في حين أن الحل يبدأ عندما يسأل الإنسان نفسه: “ما الذي يمكنني فعله لحل المشكلة؟” بدلاً من البحث عن أخطاء الشريك.

رابعًا: احتفظ دائمًا بذكريات المواقف الإيجابية لشريكك، ولا تجعل الذكريات السلبية تسيطر على تفكيرك. فتراكم المواقف الجيدة هو ما يحافظ على استقرار العلاقة ويمنحها القدرة على الاستمرار. فالتركيز على العيوب فقط يجعل العلاقة مهددة بالتوتر المستمر، بينما التقدير والتسامح يعززان من استمراريتها.

وإذا التزم الإنسان بهذه الأسس، فإنه سيتخذ قراره الصحيح بالسعادة في حياته الزوجية، بدلاً من تركها للظروف والمتغيرات. فالزواج لا يُبنى على الحب فقط، بل على القرارات الحكيمة التي يتخذها الطرفان لإنجاحه، وجعل كل يوم فيه فرصة جديدة للسعادة والتفاهم.

وعلى نطاق أوسع، يتحمل كل فرد مسؤولية قراراته، فلا ينبغي لأحد أن يُلقي بؤسه على الآخرين أو يحمّل القدر تبعات أخطائه. فالإنسان، بعقله وإرادته، هو الذي يحدد مسار حياته، وقد يكون اختياره صحيحًا لكنه يواجه ظروفًا صعبة، وهنا يكون القرار هو العنصر الحاسم: إما الاستمرار في المعاناة، أو إعادة النظر في الاختيار السابق واتخاذ قرار جديد أكثر صوابًا. فالاستمرار في الألم والمعاناة ليس مفروضًا على أحد، بل هو خيار شخصي ناتج عن قرار يُمكن تغييره في أي لحظة.

وفي نهاية الأمر، لا بد أن يدرك الإنسان أن السعادة ليست حدثًا عابرًا، بل هي موقف ذهني وقرار داخلي. فكل فرد يستطيع أن يخلق السعادة لنفسه، ليس بانتظار الظروف المثالية، بل بصنعها من خلال قرارات واعية وإيجابية. وحين يدرك الإنسان هذه الحقيقة، فإنه لن يكون مجرد متلقٍّ للأحداث، بل صانعًا لحياته كما يريد، وساعيًا خلف أهدافه دون تردد أو خوف. فالحياة مليئة بالاختيارات، ولكن ما يصنع الفارق هو قراراتنا تجاهها، وقرارك اليوم هو الذي يحدد سعادتك غدًا. فاجعل قراراتك واعية ومدروسة، واستثمر كل لحظة في بناء حياة سعيدة ومليئة بالإنجازات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *