المدن الآمنة في مرمى عقوبات ترمب لمنعها من حماية المهاجرين

في إطار سعيه لتشديد سياسات الهجرة وتوسيع عمليات الترحيل، يستهدف الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما يُعرف بـ”المدن الآمنة”، معتبراً إياها عقبة أمام جهود إدارته لتنفيذ خطة مكافحة الهجرة بشكل صارم.
وتسعى هذه المدن، التي يقودها ديمقراطيون، إلى حماية المهاجرين من الترحيل الجماعي، ولا تسمح بتسليمهم إلى حجز دائرة الهجرة والجمارك، لكن ترمب يحاول الضغط مالياً وقانونياً على حكوماتها المحلية.
وهدد ترمب بحجب التمويل الفيدرالي عن الولايات والمقاطعات والمدن التي يقودها الديمقراطيون إذا اتخذت أي إجراءات من شأنها عرقلة تنفيذ قوانين الهجرة الفيدرالية. بالإضافة إلى ذلك، حذّرت الإدارة الجديدة من ملاحقة أي مسؤول محلي يساهم في عرقلة جهود الترحيل الجماعي التي تسعى الإدارة لتنفيذها.
ولا تعتبر هذه الإجراءات سوى بند في الملف الذي يمثل أولوية للرئيس الأميركي، ففور تنصيبه في 20 يناير الماضي، وقع ترمب أوامر تنفيذية تهدف في معظمها إلى تشديد سياسات الهجرة، إذ تمنح سلطات إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، مزيداً من الصلاحيات لتنفيذ عملياتها وتوسيع فئة المهاجرين غير المسجلين المعرضين للترحيل السريع.
وتضمنت الأوامر التنفيذية محاولة لإنهاء حق التجنس بالولادة، وهي الخطوة التي أثارت تحديات قانونية، وصلت إلى حجبها بقرار قاضي محكمة جزئية أميركية باعتبارها “غير دستورية”.
وفي الساعة الأولى من تنصيبه، أعلنت هيئة الجمارك وحماية الحدود، إزالة ميزة جدولة المواعيد في تطبيق CBP One، الذي كان يستخدمه المهاجرون لمشاركة معلوماتهم وتحديد مواعيد مقابلاتهم مع سلطات الهجرة قبل وصولهم إلى الحدود، مع إلغاء جميع مواعيد اللجوء المستقبلية.
“المدن الآمنة”
لا يوجد تعريف قانوني لمصطلح “الملاذ الآمن”، لكن هناك نحو 12 ولاية ومئات المدن في جميع أنحاء الولايات المتحدة تعتبر نفسها “ملاذات آمنة” للمهاجرين غير المسجلين.
ظهرت المدن الآمنة لأول مرة في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، عندما سعت بعض المدن لحماية المهاجرين القادمين من أميركا الوسطى، خاصة من السلفادور، الذين فروا من الديكتاتورية اليمينية القمعية المدعومة من الولايات المتحدة، بحسب أستاذ التاريخ السياسي في جامعة بينجهامتون في نيويورك، والخبير في السياسة الأميركية الحديثة، دونالد نيمان، خلال تصريحات لـ”الشرق”.
ومع تصاعد السياسات المعادية للهجرة، زادت أعداد هذه المدن بشكل ملحوظ، لا سيما بعد الحملة الانتخابية لترمب في عام 2016 التي اتسمت بخطاب معادٍ للمهاجرين، إلى جانب السياسات الصارمة التي طبقها بعد وصوله إلى السلطة.
وعلى الرغم من أنها تُعرف باسم “مدن آمنة”، وتعتمد سياسات تحد، أو تمنع من تعاون السلطات المحلية مع سلطات الهجرة الفيدرالية بهدف حماية المهاجرين غير المسجلين، إلا أن نيمان يعتبر هذا المصطلح غير دقيق، موضحاً أن هذه المدن لا توفر حماية جسدية مباشرة للمهاجرين غير النظاميين من الاعتقال من قبل سلطات الهجرة والجمارك الأميركية ICE.
وأضاف نيمان، أن تلك المدن ترفض التعاون مع هذه السلطات في مهام مثل تحديد هوية المهاجرين المستهدفين أو احتجازهم أو تسهيل عملية اعتقالهم، ولا تمنع عمل وكلاء الهجرة بشكل مباشر، لكنها تضع عراقيل تجعل من الصعب عليهم تنفيذ عمليات الاحتجاز والترحيل، ما يوفر للمهاجرين مستوى من الحماية غير المباشرة عبر تقليل فرص تعرضهم لهذه الإجراءات.
وتعتمد بعض الولايات مثل كاليفورنيا وكولورادو، وكونيتيكت، وإلينوي، وماساتشوستس، ونيوجيرسي، وأوريجون، وواشنطن ونيويورك، سياسات اللجوء التي تمنع التعاون بين ضباط إنفاذ القانون المحليين وسلطات الهجرة الفيدرالية، بينما تتبنى بعض المدن الكبرى مثل شيكاجو ونيويورك وسان فرانسيسكو، قوانين تمنع استخدام موارد المدينة في تنفيذ قوانين الهجرة. كما أن هناك ولايات أخرى مثل ألاباما وتكساس وفلوريدا تتبنى قوانين ضد اللجوء، وتُلزم السلطات المحلية بالتعاون مع وكلاء هيئة الهجرة والجمارك الفيدرالية لتحديد المهاجرين غير المسجلين وترحيلهم.
السلطة الفيدرالية vs السلطة المحلية
في مذكرة صادرة بتاريخ 21 يناير الماضي، أصدر نائب المدعي العام بالإنابة، إميل بوف، الذي كان سابقاً أحد المحامين الخاصين لترمب، توجيهات جديدة للمدعين الفيدراليين، بضرورة التحقيق “من أجل الملاحقة القضائية المحتملة” مع مسؤولي الولايات والحكومات المحلية الذين يعارضون أو يعرقلون أو لا يلتزمون بتنفيذ أوامر الهجرة الصادرة عن إدارة ترمب الجديدة.
تضع تلك التوجيهات العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات في اختبار حاد يتعلق بتوازن السلطة بينهما، لأنه يتجاوز مجرد فرض السياسات الفيدرالية إلى محاولة معاقبة المسؤولين المحليين الذين يختارون عدم التعاون مع الحكومة الفيدرالية.
وعلى الرغم من أن الحكومة الفيدرالية تمتلك سلطة عليا بشكل عام على الولايات، إلا أن الدستور، من خلال التعديل العاشر، ينص على تخصيص مجال لسلطة الولايات، ويسمح لها بوضع قوانينها وسياساتها الخاصة، ولا يمكن للحكومة الفيدرالية تجاوز تلك القرارات، بحسب أستاذة القانون في كلية تشارلستون، كلير ووفورد.
وقالت ووفورد لـ “الشرق”، إن الدستور منح الحكومة الفيدرالية، سلطة على الولايات في بعض الأمور، منها إذا سنت الحكومة الفيدرالية سياسة اقتصادية وطنية، أو حظرت بعض الأفعال الإجرامية، تكون الولايات ملزمة بالامتثال لها.
وأضافت ووفورد، أن هناك استثناءً لهذا المبدأ من خلال الدستور، الذي يمنح الولايات صلاحيات خاصة لوضع قوانينها وسياساتها في بعض المجالات دون تدخل من الحكومة الفيدرالية، “لكن الحدود بين سلطة الحكومة الفيدرالية وسلطة الولايات ليست واضحة دائماً، ما يخلق خلافات قانونية”.
ولفتت ووفورد، المراقب القضائي والباحث في السياسة القضائية، إلى أنه إذا حاولت الحكومة الفيدرالية مقاضاة مسؤولين محليين؛ بسبب عدم تنفيذ سياسات الهجرة الفيدرالية، فإنها تواجه تحدياً قانونياً يستند إلى مبدأ قانوني يسمى “مناهضة الإجبار” anti commandeering.
وأوضحت أن هذا المبدأ، هو تفسير للتعديل العاشر من قبل المحكمة العليا الأميركية، ويقضي بأن الحكومة الفيدرالية لا يمكنها إجبار المسؤولين في الولايات والحكومات المحلية على تنفيذ سياساتها الفيدرالية.
وأكدت المحكمة، هذا المبدأ بوضوح قبل عقود، عندما حاولت الحكومة الفيدرالية إجبار المسؤولين المحليين على الامتثال للقيود الفيدرالية المفروضة على شراء الأسلحة.
اللجوء إلى المحكمة العليا
لا يتردد توم هومان، “قيصر الحدود” المعين من قبل ترمب، في اتخاذ نهج أكثر صرامة في التعامل مع سياسات الهجرة، وأعلن أن المهاجرين غير المسجلين لن يتمكنوا، بعد الآن، من الاختباء في أماكن مثل المدارس والكنائس لتجنب الاعتقال، وهي أماكن كانت تُعتبر سابقاً “مناطق حساسة” لا يُنفذ فيها الاعتقال إلا في ظروف استثنائية.
الشعور بالقلق المتزايد بشأن جهود إنفاذ قوانين الهجرة دفع بعض إدارات المدارس في الولايات، إلى إرسال بيانات دعم بمصادر استشارية قانونية مع التأكيد على منع مسؤولي الهجرة من دخول المدارس أو إخراج الطلاب، دون اتباع البروتوكولات القانونية المناسبة.
في الوقت نفسه، توقع خبراء وصول القضية إلى المحكمة العليا، في حال نفذت الإدارة الجديدة تهديداتها.
وأعلنت ووفورد، عن عزم المسؤولين على مستوى الولايات والحكومات المحلية إقامة دعاوى قضائية في المحكمة الفيدرالية الجزئية، إذا لاحقتهم الإدارة الجديدة، أو حققت معهم، متوقعة أن تهتم المحكمة العليا بهذه القضية، على الرغم من صعوبة التنبؤ بشكل قاطع بالقضايا التي تقبلها.
وأرجعت ووفورد، اهتمام المحكمة بهذه القضية إلى سببين، الأول هو أن القضية تثير سؤالاً أساسياً بشأن مبدأ السيادة المزدوجة في الولايات المتحدة وكيفية تحقيق التوازن في توزيع السلطة بين الولايات والحكومة الفيدرالية، والثاني عدم وضوح ما إذا كان مبدأ “مناهضة الإجبار” الذي وضعته المحكمة في السابق ينطبق في حالة قوانين الهجرة.
واعتبرت، أن هذه القضية تشكل “معضلة أيديولوجية” فريدة للمحكمة، لأن مبدأ “مناهضة الإجبار” تمت صياغته في الأصل من قبل أحد أكثر قضاة المحكمة العليا تحفظاً في ذلك الوقت، وهو أنطونين سكاليا- حين قضى مع 4 قضاة آخرين في المحكمة العليا عينهم الجمهوريون في القضية المعروفة بـ “برينتز ضد الولايات المتحدة”، برفض محاولة الحكومة الفيدرالية إلزام مسؤولي إنفاذ القانون المحليين بإجراء فحوصات قبل أن يتمكن المواطنون من شراء الأسلحة النارية.
وأشارت ووفورد، خلال تصريحاتها لـ”الشرق”، إلى أنه إذا التزم القضاة المحافظون في المحكمة الحالية بنهج سلفهم الأيديولوجي، فإنهم سيحكمون ضد إدارة ترمب، متوقعة صدور هذا الحكم حرصاً من المحكمة على الحفاظ على المبدأ الدستوري المهم الذي سبق وأن أرسته.
ولم يستبعد نيمان، أن تصدر المحكمة العليا الأميركية، التي تضم أغلبية من القضاة الجمهوريين، حكماً يدعم الحكومة الفيدرالية إذا حاولت معاقبة المسؤولين من خلال الملاحقة الجنائية، ورفضت المحاكم المعنية مثل هذه المحاكمات.
وأضاف: “لكن وفقاً للقوانين الحالية والتفسيرات القانونية المعمول بها، فإن اتخاذ إجراءات جنائية ضد مدن الملاذ الآمن تعتبر غير قانونية”، لافتاً إلى أن الكونجرس يمكنه ممارسة الضغط بطرق قانونية أخرى، مثل قطع التمويل الفيدرالي عن الولايات أو المدن التي ترفض التعاون.
استهداف مالي ومقاومة “آمنة”
خلال ولايته الأولى، سعى ترمب للحد من سياسات المدن التي توفر ملاذاً آمناً للمهاجرين غير المسجلين من خلال محاولة منعها من الحصول على منح فيدرالية مخصصة لدعم جهود إنفاذ القانون، كان الهدف من الخطوة هو استخدام التمويل الفيدرالي كأداة ضغط لإجبار هذه المدن على التعاون مع سلطات الهجرة الفيدرالية.
ورداً على ذلك، أقامت عدة ولايات ومدن بقيادة ديمقراطيين، مثل نيويورك وكونيتيكت ونيوجيرسي وواشنطن، دعاوى قضائية ضد الإدارة الفيدرالية، معتبرة أن هذه السياسات تتجاوز صلاحيات الحكومة الفيدرالية، وتتعارض مع مبادئ الدستور الأميركي.
أسفرت هذه المعارك القانونية عن صدور قرارات متباينة من 3 محاكم استئناف، ما أدى إلى تصاعد القضية إلى المحكمة العليا الأميركية في عام 2020، لكن مع خسارة ترمب ووصول إدارة بايدن إلى السلطة، قررت وزارة العدل سحب القضية من المحكمة العليا، إذ لم تكن الإدارة الجديدة مهتمة بالدفاع عن هذه السياسات.
وفي ولايته الثانية، هدد ترمب بقطع التمويل عن المدن التي توفر ملاذاً للاجئين، لكن نيمان يرى أن الرئيس الأميركي لا يستطيع حجب التمويل الفيدرالي عن مدن أو برامج معينة لمجرد أنه يعارض سياساتها، مبرراً ذلك بأن هذه الأموال مخصصة من قبل الكونجرس بموجب قوانين واضحة، ولا يملك الرئيس السلطة لتغيير هذا دون موافقة الكونجرس.
وأشار نيمان إلى أنه إذا أراد الرئيس وقف التمويل، فعليه إقناع الكونجرس، مذكراً بما حدث في خمسينيات القرن الماضي، عندما أوقف الكونجرس التمويل عن المدارس التي استمرت في تطبيق الفصل العنصري بعد صدور قرار المحكمة العليا الذي جعله غير قانوني.
وتقاوم العديد من “المدن الآمنة” سياسات ترمب المتشددة، وأعلن قادة محليون يعارضون التعاون مع الحكومة الفيدرالية أن تطبيق قوانين الهجرة بشكل صارم على مستوى المجتمع له تأثيرات سلبية على السلامة العامة والصحة، ويقوض الثقة بين المواطنين والحكومة، ويجعل أفراد الأقليات يتجنبون التفاعل مع السلطات وعدم الإبلاغ عن الجرائم.
وتعد شيكاجو واحدة من أكبر المدن المعارضة لسياسات ترمب المتعلقة بالهجرة. ففي الأسابيع التي أعقبت فوزه في انتخابات نوفمبر 2024، قال عمدة شيكاجو براندون جونسون، وهو ديمقراطي، إن المدينة “لن تنحني أو تنكسر” فيما يتصل بقوانينها الخاصة بالملاذ الآمن، وأعلن أنه “لن يكون هناك أي تعاون” مع عمليات الترحيل التي تقوم بها إدارة الهجرة والجمارك”.
وبعد تنصيبه، أقام عدد من جماعات حقوق المهاجرين في شيكاجو، دعوى قضائية فيدرالية ضد إدارة ترمب، قالت فيها إن خططه لمداهمات الهجرة تستهدف المدينة، فقط، بسبب وضعها كملاذ آمن.
في هذا السياق، أشارت ووفورد إلى أن المدن التي تُعتبر “ملاذ آمن” ربما تكون قادرة على مقاومة السياسات الفيدرالية التي يهدد بها الرئيس، لكنهم في نفس الوقت يخاطرون بتعريض أنفسهم للملاحقة من قبل ترمب وإدارته.
وقالت ووفورد إنه في حالة إقامة دعوى قضائية جديدة تتعلق بسحب التمويل إلى المحكمة العليا، فسيتعين عليها، مرة أخرى، مواجهة السؤال المهم بشأن كيفية تحقيق التوازن في السلطة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات.
وأوضحت أنه في هذه الحالة، تقف الإدارة الجديدة على أرضية قانونية أقوى، وربما تفوز في المحكمة العليا، أو تكون قادرة على فرض إجراءات سحب الأموال أو الضغط على المدن في هذا السياق.
وتابعت ووفورد: “بالنظر إلى كل ذلك، ربما تلجأ المدن الآمنة إلى نهج أكثر دقة لمقاومة الإدارة الجديدة، أي أنها ربما تستثمر المزيد من الوقت والموارد لضمان معرفة المهاجرين بحقوقهم القانونية وقدرتهم على حماية أنفسهم عند الحاجة من أي وكلاء فيدراليين. وبهذه الطريقة، سيكون المسؤولون المحليون والولائيون يعارضون السياسة الفيدرالية، لكن بطرق لا تثير العقوبات التي هددت بها الإدارة”.