حفظ السلام في أوكرانيا.. مقامرة أوروبية محفوفة بمخاطر أمنية

حتى وقت قريب كان مقترح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا يدخل ضمن “الخطوط الحمراء” و”المحرمات المطلقة”، مع حرص الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي على تجنب التصعيد مع روسيا المسلحة نووياً، لكن سلسلة الصدمات التي أحدثتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن الأمن الأوروبي على مدى الأسابيع الماضية، وتفرّده بإجراء محادثات مع موسكو دون إشراك أوروبا، دفعت زعماء القارة إلى محاولة ملء الفراغ الأمني بمقترحات يعتبرها البعض “متهورة وغير مدروسة”.
وباتت فكرة نشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، تكتسب زخماً متزايداً خلال الفترة الأخيرة، ومع دخول كييف عامها الرابع من الحرب واسعة النطاق، فإن العديد من الدول الأوروبية عبّرت عن استعدادها لإرسال جنودها إلى هناك في حال تم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، حسبما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الشهر الماضي.
وعلى الرغم من كل هذه التعهدات، تظل أوروبا منقسمة بشأن إنشاء قوة لحفظ السلام وإرسال قوات إلى الحدود الروسية الأوكرانية. حتى الآن، أبدت 11 دولة استعدادها للمساهمة بقوات في أوكرانيا، هي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والسويد وجمهورية التشيك وهولندا والدنمارك وإستونيا وليتوانيا ولوكسمبورج وبلجيكا، فيما ترفض ألمانيا وإسبانيا وبعض دول البلطيق المقترح.
ويرى مراقبون أن مقترح إرسال جنود أوروبيين إلى أوكرانيا سيتيح لروسيا فتح جبهات جديدة ضد الأوروبيين مع تراجع التزام ترمب، وستجرّ القارة إلى القتال بعيداً عن قواعدها اللوجستية الأساسية، في وقت تعاني فيه القوات الأوروبية من نقص حاد في الموارد، كما تفتقر أيضاً إلى الدعم الأميركي، إذ صرّح وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث، أن مثل هذه القوات لن تكون مشمولة بضمانة أمنية من حلف الناتو، مما يعني أن البلدان المشاركة ستضطر إلى الدفاع عن نفسها إذا اندلع صراع جديد مع روسيا دون تدخل أميركي مباشر.
ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن الإنفاق العسكري الروسي حالياً أعلى من إجمالي الإنفاق الدفاعي في أوروبا، من حيث القوة الشرائية. فقد زادت بنسبة 41% وأصبحت الآن تعادل 6.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
قيود قانونية وحدود تدخل الناتو
تفرض عدد من الدول الأوروبية، قيوداً دستورية على استخدام قواتها العسكرية في مهمات خارجية. وفي بعض البلدان بما في ذلك هولندا وفرنسا، يتطلب نشر القوات موافقة البرلمان.
وقال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، إن بلاده، التي تشكل قاعدة لوجستية رئيسية لدعم أوكرانيا، لن ترسل قوات إلى جارتها.
وبعد اجتماع تم ترتيبه على عجل للقادة الأوروبيين في باريس، الشهر الماضي، لمناقشة الحرب، قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن الحديث عن قوة أمنية بقيادة أوروبا “سابق لأوانه”. وأشار شولتز إلى أنه “منزعج قليلاً” من مناقشة قوات حفظ السلام “في الوقت الخطأ”. وأصر على أن حلف شمال الأطلسي، وليس القوة الأوروبية المستقلة، يجب أن يظل الأساس للأمن.
ويعتمد نجاح الخطة على طبيعة أي اتفاق لوقف القتال. وتحتفظ روسيا بنحو 600 ألف جندي في أوكرانيا، ويقول المحللون إن أي اتفاق لوقف إطلاق النار يترك الجزء الأكبر منهم هناك، هو سبب مباشر لتجدد الصراع.
ويضم الجيش الفرنسي أكثر من 200 ألف جندي، في حين تضم بريطانيا أقل من 150 ألف جندي.
خيار “غير مرجح” في ظل غياب واشنطن
وقال هاينز جارتنر، رئيس المجلس الاستشاري لجيش النمسا، في حديث مع “الشرق”، إن إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا “غير مرجح” لعدة أسباب.
وأشار الخبير النمساوي إلى أنه “يتعين على الصراع أن ينتهي أولاً. إذ لا تستطيع هذه القوات فرض السلام”، مضيفاً أن “الأوروبيين غير قادرين على فرض السلام في أوكرانيا، وأن هذه الخطوة لا بد أن تأتي من دول الناتو، وهو ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب بين الناتو وروسيا، ذات بعد نووي. ويدرك الرئيس ترمب هذا الأمر، واستبعد مشاركة الولايات المتحدة. فهو لا يريد أن تتورط الولايات المتحدة. ولكن بدون الولايات المتحدة، لن تتمتع القوات الأوروبية بالقدرة الكافية”.
وقال جارتنر لـ”الشرق”: “إذا كانت القوات التي سيتم نشرها بعد انتهاء الصراع ستأتي من دول الناتو الأوروبية. وهذا يحمل خطراً يتمثل في أنها ستؤدي إلى تفعيل التزامات الناتو بموجب المادة الخامسة”.
وتنص المادة الخامسة على أن “أي هجوم، أو عدوان مسلح ضد طرف منهم (أطراف الناتو)، يعتبر عدواناً عليهم جميعاً، وبناء عليه، فإنهم متفقون على حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم، المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بشكل فردي أو جماعي، وتقديم المساندة والعون للطرف أو الأطراف التي تتعرض للهجوم”.
وشدد جارتنر، على أن الولايات المتحدة استبعدت مشاركتها بالفعل. وتستند عمليات حفظ السلام إلى مبدأ موافقة الأطراف المتصارعة. ولن تقبل روسيا أبداً وجود قوات الناتو داخل أوكرانيا.
وإذا كانت “الضمانات الأمنية” لأوكرانيا مبنية على قوات أو دول حلف شمال الأطلسي، “فلن تكون هناك ضمانات أمنية. فالدول الأوروبية لا تستطيع أن تقدم مثل هذه الضمانات، والولايات المتحدة هي الأخرى، لا تريد أن تقدم مثل هذه الضمانات. وفي نهاية المطاف، لا بد من تسوية الصراع على أساس اتفاق سياسي وأمني”، يضيف الخبير النمساوي.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم أوروبي يطرح إمكانية إرسال قوات برية إلى أوكرانيا، وذلك في فبراير من العام الماضي. وانضم إليه منذ ذلك الحين رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي أعرب عن اهتمامه بالخطة. وكتب في مقال نشرته the sun البريطانية: “نحن مستعدون وراغبون في المساهمة في الضمانات الأمنية لأوكرانيا من خلال إرسال قواتنا على الأرض إذا لزم الأمر”. وحتى الآن، تعارض إسبانيا وإيطاليا وألمانيا الفكرة.
وعلى عكس الأوروبيين الذين يتّهمون بوتين بإشعال فتيل الحرب، حمّل الرئيس الأميركي ترمب، أوكرانيا مسؤولية استمرار النزاع، وصرّح بأنه ينوي استغلال الموارد الطبيعية الأوكرانية كتعويض عن المساعدات الأميركية المقدمة منذ عام 2022. وفي المقابل، لا تخطط الولايات المتحدة لضمان اتفاق سلام محتمل، حيث يعتقد ترمب أن “أمن القارة هو مسؤولية الأوروبيين في المقام الأول”.
ويسعى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الحصول على ضمانات أمنية، أبرزها نيل عضوية حلف شمال الأطلسي، وفيما يدعم الأعضاء الأوروبيون في التحالف العسكري هذا الهدف، يبدو أن الولايات المتحدة غير مستعدة حالياً لقبوله، جنباً إلى جنب مع الآمال الأوكرانية في استعادة 20% من أراضيها التي استولت عليها روسيا.
وفي غياب عضوية حلف شمال الأطلسي، قال زيلينسكي، إن أكثر من 100 ألف جندي أوروبي قد يكونون مطلوبين في أوكرانيا لضمان عدم اشتعال الصراع مرة أخرى بعد وقف إطلاق النار.
سفير ألمانيا السابق لدى الناتو، يواكيم بترليخ، اعتبر في تصريحات لـ”الشرق”، أن مخطط فرنسا وبريطانيا في إرسال قوة سلام أوروبية كمساهمة منها لضمان التنفيذ الإيجابي لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، هو “مخطط جدي، ولكن لن يكون مؤثراً “بدون ضمانات أميركية”، وأضاف: “حتى الآن يبدو موقف دونالد ترمب سلبياً (إنهم لا يحتاجون إلى هذا)، فيما ترفض روسيا بشكل قاطع الوجود العسكري الأوروبي”.
شروط بوتين في ميزان الحل السياسي
وشدد بترليخ في تصريحاته لـ”الشرق”، على أنه “سيكون من الطبيعي أن يساهم الأوروبيون في ضمان أمن أوكرانيا، بما في ذلك إرسال القوات العسكرية، ولكن في هذه اللحظة بالذات، فإن مثل هذه الخطة، وخاصة إذا تم تقديمها علناً، ستكون سابقة لأوانها على الأقل في هذه المرحلة”.
لكن أوروبا، بمفردها، لن تكون قادرة على توفير قوة من 100 إلى 200 ألف جندي دولي، وهو ما يقترح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أنه سيكون ضرورياً لردع روسيا عن الهجوم مرة أخرى. وبدلاً من ذلك، قال المسؤولون الغربيون إنهم يفكرون في قوة تصل إلى 30 ألف جندي. ستساعد الطائرات والسفن الحربية الأوروبية في مراقبة المجال الجوي الأوكراني وممرات الشحن.
وستركز هذه القوة على توفير “الحماية” في المواقع الرئيسية، من قبيل مدن أوكرانيا وموانئها ومحطات الطاقة النووية. لن يتم وضعها في أي مكان بالقرب من خطوط المواجهة الحالية في شرق أوكرانيا. كما ستراقب الطائرات المقاتلة والسفن الحربية الأوروبية المجال الجوي الأوكراني وممرات الشحن.
وفي هذا الصدد، يقول السفير الألماني السابق يواكيم بترليخ، إنه “كان من المهم، بل ومن الضروري، أن نقول بالإجماع لدونالد ترمب إننا، كأوروبيين نرحب بخطواته الأولى للتفاوض مباشرة مع فلاديمير بوتين، وأننا، كأوكرانيا، ينبغي لنا أن ننخرط في عملية تشاور دائمة، وأن عليه أن يبذل قصارى جهده للتوصل إلى حل سياسي يقوم على شروط معينة”.
وعن هذه الشروط الحاسمة في مسار التوصل إلى حل سياسي، يقول بترليخ لـ”الشرق”، إنها تشمل “ضمان السلامة الإقليمية لأوكرانيا، والاعتراف بالمجموعات الروسية في دستور أوكراني أكثر اتحادية (اللغة والثقافة وحماية الأقليات)، وحياد أوكرانيا بجيشها الخاص الذي تضمنه القوى العالمية والاتحاد الأوروبي، وبقاء شبه جزيرة القرم تحت سيادة روسيا، ولكن مع مراجعة وضعها بعد 25 عاماً، وربط أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي ونظام التجارة الحرة الاقتصادية حول روسيا”.
خيارات قوات حفظ السلام الأوروبية
كانت أوروبا داعمة قوية لأوكرانيا منذ بداية الحرب، حيث قدمت مساعدات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية حيوية، وساعدت في حشد الدعم الأوسع، فضلاً عن إبرام شراكات أمنية مع كييف في إطار مجموعة الاتصال الدفاعية لأوكرانيا (مجموعة رامشتاين).
ويشير نيل مالفين الخبير في الشؤون العسكري في مقال نشره المعهد الملكي للخدمات المتحدة البريطاني إنه “يتعين على الدول الأوروبية أن تتحرك وتبادر لتوفير التدريب والأسلحة لكييف، وتطوير صناعة الدفاع في أوكرانيا، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز التشغيل البيني. وينبغي أن يكون الهدف هو العمل مع أوكرانيا لضمان حصولها على كل ما تحتاجه لتطوير ودعم قوتها المستقبلية القادرة على ردع روسيا، والبناء على قواتها الحالية المخضرمة”.
وشدد على ضرورة عدم السماح لموسكو بإملاء نزع السلاح عن أوكرانيا أو فرض الحياد عليها، حتى لو أشارت الولايات المتحدة إلى أن عضوية حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا غير ممكنة، داعياً إلى السماح لأوكرانيا بالاحتفاظ بقوات مسلحة كافية لحماية نفسها، والقدرة على تحديث هذه القوات، ويجب على أوروبا الالتزام بدعم هذه الجهود في الأمد البعيد.
بدوره يرى جان فنسنت بريست، الباحث المتخصص في قضايا الدفاع بالمعهد الفرنسي للشؤون الاستراتيجية في حديث مع “الشرق”، أن هناك عدة مستويات من القوة التي يمكن نشرها بعد وقف إطلاق النار في أوكرانيا. “الأول هو قوة ردع برية كبيرة، قادرة نظرياً على القتال، إذا غزت روسيا أوكرانيا مرة أخرى، ربما على غرار القوات التي يتراوح عددها بين 100 ألف إلى 150 ألف جندي، والتي سعى إليها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي”.
ولكن مع استبعاد الولايات المتحدة، فإن القيود القانونية المفروضة تعني أنه “من غير الواضح ما إذا كانت أوروبا قادرة على توفير مثل هذا العدد”، ويعتقد بريست أن البديل الأكثر مصداقية سيكون “قوة احتياطية تتألف من (عشرات الآلاف) من الجنود مع ألوية أوروبية على أجزاء من خط المواجهة”.
وشدد على أن النموذج الأكثر محدودية هو “قوة تدريب كبيرة”، والتي قد تشكل رادعاً؛ لأن القوات الأوروبية ستكون متمركزة في أوكرانيا، وقد تكون قادرة على القتال وتقديم الدعم في أزمة عسكرية. لكن هذا لن يكون سوى مساعدة محدودة لأوكرانيا، التي تواجه حوالي 600 ألف جندي روسي على طول جبهة نشطة يبلغ طولها 600 ميل على الأقل.
شروط روسيا
في حين تدور التكهنات حول الشروط المحتملة لاتفاق السلام الذي توسطت فيه الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، يصر الكرملين على أن مستقبل أوكرانيا يجب أن يكون محايداً ومنزوع السلاح قبل كل شيء.
ورفض الكرملين فكرة نشر قوات غربية في أوكرانيا كقوات حفظ سلام لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار المحتمل. بعبارة أخرى، تتصور شروط السلام المفضلة لدى بوتين أوكرانيا منزوعة السلاح وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولا تملك جيشاً خاصاً بها تقريباً ولا فرصة لتلقي أي مساعدات عسكرية ذات مغزى من المجتمع الدولي، وفق المجلس الأطلسي، وهو مكتب دراسات مقره في واشنطن.
وشنت روسيا هجومها على أوكرانيا في فبراير 2022، وذلك لمنع جارتها الأصغر من أن تصبح جزءاً من الغرب، بما في ذلك الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
لم تتغير أهداف روسيا العامة، بما في ذلك تطلعاتها إلى نزع السلاح في أوكرانيا، ومن المرجح أن تعارض وجود قوات أوروبية داخل البلاد.
ويريد الكرملين أيضاً استبعاد الدول الأوروبية من محادثاته مع الولايات المتحدة. وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: “لا أعرف ماذا سيفعلون على طاولة المفاوضات”. وإذا ما تم نشر قوة أوروبية في أوكرانيا، فقد تكون عرضة لهجمات استفزازية منخفضة المستوى، مصممة لاختبار استعدادها للبقاء في أوكرانيا، حسبما قال الخبير في الشأن العسكري فنسنت بريست لـ”الشرق”.
في حين استبعد الساسة الأميركيون، إرسال قوات برية، فإن الولايات المتحدة لم تستبعد (حتى الآن) تقديم الدعم الجوي. ومن شأن فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، أن يشكل مساعدة كبيرة لكييف، ولكن البيت الأبيض يبدو غير مهتم بأوكرانيا إلى الحد الذي يجعل من غير الواضح ما إذا كان سيقبل حتى هذه الخطوة.
وقال بريست في تصريحاته لـ”الشرق”، إن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن “الدول الأوروبية ستضطر إلى تقديم ضمانات أمنية كاملة لأوكرانيا، وهو ما يثير التساؤل بشأن مدى استعداد أوروبا للذهاب إلى مدى أبعد”.