ثلاثة دروس من أحداث الساحل

أحمد عسيلي
عاش بلدنا الحبيب أيامًا صعبة في الأسبوع الماضي، بدأت بتوتر أمني يوم الأربعاء في مدينة القرداحة، حين حاصرت مجموعة من سكان المنطقة المخفر التابع للسلطة هناك، وقيل إنهم هددوا بحرقه بمن فيه من عناصر تابعين للدولة، جرت أيضًا مظاهرات عديدة في المدينة بشعارات طائفية.
ومثلما اعتدنا في كل حدث سياسي، تعددت الروايات واختلفت كثيرًا حول سبب هذه الأزمة، وحول مسارها وتطورها، فالبعض يرجع الأسباب إلى محاولة القيادة وضع حاجز عسكري في إحدى مناطق القرداحة بالقرب من أحد البيوت الفارغة، وعرض القيادة استئجار هذا البيت لاستخدامه من قبل عناصر الحاجز، ليقول طرف آخر إن البيت، وإن كان صاحبه خارج البلاد، لكنه مأهول بأقارب المالك، وإن السلطة حاولت طرد الناس بالقوة من المنزل، ويرد طرف آخر بأنهم ادعوا ذلك منعًا لوضع الحاجز العسكري في تلك المنطقة، لأنهم يرفضون أصلًا فكرة المراقبة نتيجة وجود نشاط مريب فيها.
لكن بالنهاية، ومثلما عودتنا السلطات الجديدة، عقد لقاء بين المسؤولين الأمنيين في محافظة اللاذقية وبين وجهاء المدينة، وتم حل القضية.
رغم ذلك، تجمعت مساء اليوم نفسه مجموعة من الشباب السنّي في مدينة طرطوس، وتوجهوا إلى شارع العريض، مركز الوجود العلوي في المدينة، مرددين شعارات طائفية تحريضية، قام الأمن لاحقًا باعتقالهم، ليتبين للناس لاحقًا أن معظمهم (إن لم يكن كلهم) من المؤيدين وبشدة للنظام السابق (أو لنقلها بصراحة، من الشبيحة السنة).
هذه الحادثة لم تكن الوحيدة في الساحل، فقد استفتحنا الأسبوع بانتشار إشاعة عن مسلحين حاولوا الاعتداء على مقابر لقتلى النظام السابق، على أمل تكرار الفوضى التي حصلت بعد إشاعة الخصيبي، ليتبين سريعًا أنها كاذبة، ورغم ذلك انتهزت إحدى الشخصيات العلوية المؤيدة للنظام السابق الفرصة لتطالب بالعفو العام عن كل جرائم الأسد، وطي صفحة كل ما حدث قبل 8 من كانون الأول 2024 (هكذا بكل بساطة) بطريقة استفزازية جدًا، وقد تم اعتقاله لاحقًا.
ثم شهدنا خميسًا داميًا، قُتل فيه عدد من الأناس المسالمين، من عدة طوائف في طرطوس، واعتداءات على أماكن دينية إسماعيلية، ثم إشاعة توقيف الشباب العلوي وأخذه إلى القنيطرة لمحاربة إسرائيل، وعشرات الإشاعات وعمليات الاغتيال الأخرى التي لن تتسع أي مادة لذكرها، ولا لقراءتها تفصيليًا.
على كل حال، معظم هذه الأحداث كانت متوقعة، لكنها تكشف لنا عدة حقائق، وتعطينا عدة دروس يجب أن نتوقف عندها لنتأملها جيدًا من أجل إيجاد حلول لها في المستقبل.
الدرس الأول: حرب النظام لم تنتهِ بعد، وبعض أركانه لم يستسلموا، وإن لم يكن لديهم أمل في استعادة السلطة بعد قرار حل الجيش والمخابرات، لكنهم يودون على الأقل إفشال التجربة، وأحداث الخميس تحديدًا تذكرنا إلى حد كبير بميشيل سماحة، فمن يستمع إلى مقاطع الفيديو التي سجلت له في أثناء إيقاعه في الفخ، وهو يحضر لهجمات إرهابية في لبنان بتحريض من مخابرات الأسد، ومقارنتها بأحداث يوم الخميس، من قتل واعتداء على مقامات دينية بالتوقيت ذاته، سيكتشف أنه نفس العقل المدبر، نفس آليات التفكير ونفس أسلوب العمل، فالإشاعة والتحريض والاغتيال، هي ملعب مخابرات الأسد ومجالها المفضل، وهنا يمكننا أن نستنتج بسهولة، أن هذه الجرائم ستتكرر غالبًا للأسف، ولا نعفي هنا أبدًا جهاز مخابرات السلطة الحالية، فعليه تقع مسؤولية حماية جميع الناس والمقامات الدينية.
الثاني: شهدنا في تلك الأحداث تفاوتًا كبيرًا في نقل الخبر، حتى من قبل الشاهدين المباشرين، وهذا لا يعني بالضرورة كذب الشاهد، وإنما هو تفاوت في الموقف، فالكلام بحيادية مطلقة لا وجود له إلا كحالة مثالية متخيلة، كالرقم الصفر أو اللانهائي أو الخلاء وغير ذلك من المصطلحات المجردة، فكل حقيقة تستدعي كلامًا ناقلًا لها، واختيار الإنسان للكلمات، وستكون دومًا انعكاسًا لأفكاره وتصوراته، ومن يتلقى الكلام، سيعيد غالبًا صياغته، ومع إعادة الصياغة هذه سيلجأ لكلمات وصيغ مشابهة لكن غير مطابقة (لا توجد كلمتان متطابقتان تمامًا بالمعنى) ومع كل تلقٍّ وإعادة صياغة، سيتغير الخبر، ليصلنا بالنهاية بعد عبوره عدة غرابيل لغوية وسياسية ونفسية، وربما نقوم نحن بدورنا بغربلة أخرى. الأمور غالبًا تكون سهلة عند الناقل الأول، فموقف أي إنسان، مرتبط بطريقة صياغته للخبر، كجملة “قام أهالي المنطقة بالتجمهر” التي تعني حتمًا أن الناقل يتبنى جهة الطرف الذي قام بالتجمع، فالأهالي دومًا على حق، أما جملة “قام فلول النظام السابق” فهذا يعني فورًا أن القائل ضدهم، وهذان مثالان بسيطان معروفان جيدًا عند الاختصاصيين بتحليل الخطاب، لكن تزداد الأمور صعوبة في حالتنا السورية، مع سرعة تناقل الخبر والنسخ واللصق والتهويل، لتصبح قدرتنا على التدقيق والتحليل صعبة جدًا، هذا إن توفرت لنا رغبة في ذلك أصلًا.
الثالث: الحالة النفسية التي يعيشها شبيحة النظام السابق من الطائفة السنية، فهي قضية تكاد تكون مغيبة عن معظم حواراتنا، أناس كانوا يمارسون أبشع أشكال التسلطية على أهاليهم باسم مخابرات الأسد، ويتعرضون بدورهم لأبشع أشكال الإذلال والاحتقار من قبل هذا النظام، هؤلاء البشر، لديهم عقد نفسية أكثر تأزمًا من المعارضين أو الصامتين السنة، ومن مؤيدي الأسد العلويين، نتيجة غياب الغطاء الاجتماعي، لذلك هم الفئة الأكثر تكويعًا، والأشد طائفية، لأنهم يحاولون جر مجتمعاتهم لخوص حروبهم الخاصة، وما لفت نظر أحمد نيعو، وهو أحد ثوار طرطوس وابن الشهيد جهاد نيعو، في حديثه عن الشباب الذين اقتحموا شارع العريض بطرطوس، أن هؤلاء لم يغنوا أغاني الثورة مثلًا في أثناء تجمهرهم (فهم غالبًا لا يحفظونها)، وإنما رددوا شعار “بالدبح جيناكم”، وهو الشعار نفسه الذي كان يدعي النظام أنه هدف الثورة، وكنا نتبرأ منه ونعتبره محاولة لتشويه مبادئ ثورتنا، ومن سخرية القدر، أنه نطق به أخيرًا بعد انتصارها، لكن من قبل أنصار النظام أنفسهم.
أسبوع صعب جدًا عاشه الساحل، يطرح تحديات خطيرة على الدولة والمجتمع، ويدل على أن أمامنا عملًا جبارًا لعلاج جميع جراحاتنا، فسوريا رغم أنها نجت من الموت بسقوط بشار، ما زالت فعلًا في غرفة الإنعاش، وتلزمها رعاية كبيرة حتى تشفى تمامًا من كل ما سببه لها الأسد من أمراض وجراح.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي