اخر الاخبار

أوسكار 2025: Emilia Pérez.. متحولة جنسياً تحاكم عالم الرجال

في نهاية فيلم Conclave، المرشح لثمان جوائز أوسكار، يكتشف كبير الكهنة أن الكاردينال المتوج على الكرسي البابوي يحمل في داخله رحم امرأة، ويرفض أن يقوم بعملية إزالة له، لأنه لا يريد أن يعترض على خلقه الرب، ليصبح رأس الكنسية لأول مرة في تاريخها يحمل ثنائية جندرية، تحلم أن يبلغ زمن الصوابية السياسية ذروته!

ومن الفاتيكان إلى المكسيك، حيث تتم تطويب “إيمليا بيريز” مؤسسة منظمة “الضوء الخافت”، التي تقود عمليات البحث عن ضحايا حروب عصابات المخدرات، بعد أن قضت نحبها في حادث سيارة وهي مكبلة بالأغلال، لكن ثمة نقطة هامة؛ فالقديسة “إيميليا” التي يغنون لها في النهاية هي في الأصل رجل، وزعيم واحدة من كبرى العصابات! ولكنه صار قديسة عندما تحول جنسياً، عاش ذكراً خاطئاً وسفاحاً، وعندما تحول لأنثى طوب كقديسة.

فيلم Emilia Pérez ليس ظاهرة، ولكنه نتاج تكريس الصوابية لحشود من الشعارات والمؤيدين، والفيلم الذي حاز على جائزة لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الأخير، وحازت بطلاته الأربعة مناصفة جائزة أفضل ممثلة، والمرشح لثلاثة عشرة جائزة أوسكار هذا العام، هو المنافس الأقوى أمام Conclave، رغم توافقهم الفكري غير البعيد، وكلا الفيلمين بالمناسبة مأخوذين عن روايات، وينافسان على نفس تماثيل العم أوسكار المهمة تقريباً.

حطام الرجال

في فيلمه الشعري Rust and Bone عام 2012، يحمل رجل عاشق نصف جسد زوجته التي فقدت ساقيها، هكذا دون كلل أو خفوت، ومن قبله بثلاثة أعوام في فيلمه prophet، يحمل مالك المهاجر العربي على أكتافه نبوة كاذبة إثر دخوله السجن، ووقوعه تحت سيطرة رجل مكلل بالنفوذ، يبسط عليه حمايته في مقابل تكليفات عنيفة ترسله إلى أرض الدم.

لكن الفرنسي جاك أوديار صاحب الترشيحات الأوسكارية، وسعفات كان البراقة، يغادر عالم الرجال الذين يرفعون أعمدة العالم في أفلامه، ويدخل على يد “إيمليا بيريز” وهيكلها الضخم إلى كوكب المرأة الذي تحكمه الصوابية بتفوق جندري يفوق النظام الأبوي في ذروة سيطرته.

في عام 2021 يحقق أوديار جائزة أفضل فيلم “كويري” في مهرجان كان عن تجربته Paris, 13th District، والذي يمكن اعتباره مجرد إحماء سينمائي قبل تجربة “إيمليا”، ثلاثة فتيات ورجل تختلط مشاعرهن وأجسادهن في سياق عاطفي جنسي طريف يفكك الفواصل الجندرية بين الأفراد.

ثم تأتي نتفلكس المعروفة بالتوجهات الصوابية الخارقة، لتمنح أوديار فرصة الحصول على مزيد من ترشيحات الأوسكار والسعفات “القزحية”. 

الرواية التي كتبها بوريس رازون، وحققها أوديار كتابة وإخراجاً في قالب موسيقي ملون ومعطر بالغناء ولحظات الشجن الغريبة، تتحرك في داخلها هياكل من حطام الرجال الممزقين بين رغباتهم ومخاوفهم وسلطتهم الوهمية على نساء، هم أكثر قوة وصلابة ونفوذاً منهم في كل الاتجاهات.

تاجر مخدرات وزعيم عصابة لها مقر متنقل، حتى لا يعثر عليها أحد، يستدعي محامية سمراء تعاني من خضوع قسري لرئيسها، من أجل أن يوكلها للبحث عن طبيب جيد يصلح لأن يرمم روحه عبر إحلالها في جسد امرأة، وهو الجسد الذي طالما تمنى الحصول عليه، يريد ان يتحول جنسياً لا ليهرب من أحكام السجن ومطاردات المنافسين، ولكن لكي يصفو روحياً، ويكتمل إنسانياً بالصور التي يرى أن الطبيعة أخطأت عندما لم تشكله عليها.

هذا حطام رجل يسعى لأن ينهض مرة أخرى في هيئة امرأة كاملة، وهو ليس الحطام الوحيد، فكل رجال الفيلم هم رجال محطمون، موصومون بالدم والعنف والقسوة اللعينة أو الهطل الجنسي والمهني، بداية من المحامي الذي تكتب له المحامية السمراء مرافعته، وتلقنه إياها كأنما طفل خائب في امتحان لا يليق بقدراته المتواضعة مروراً بتاجر المخدرات الراغب في التوبة على يد الأنثى التي في داخله، ثم زوج عشيقته -بعد ان يصبح “إيمليا بيريز” – وهو رجل لا نراه، لكننا ندرك حجم كراهية زوجته له عندما ترغب في التأكد من أنه مات وإلا قتلته بنفسها.

ثم كل هؤلاء الرجال الذين يرغبون في التطهر على يد القديسة “إيمليا” من جرائم القتل والحرق وإخفاء الجثث لكي يطمئن قلب الزوجات والأبناء الثكلى واليتامى، وصولاً إلى العشيق الذي ينصاع أمام رغبة زوجة التاجر المتحول – أو أرملته بعد ان يتم إعلان وفاته بمجرد ان يختفي ليكتمل تحوله السري- فيخطف “إيمليا” من أجل أن يستعيد مال الزوجة والأبناء الذي أصبح أباهم الخشن عمتهم الحنون!

 تكره “إيمليا” الرجال التي كانت واحداً منهم ذات يوم، فالرجل الذي كانت تسبب في آلام كثيرة للعالم، أما المرأة التي أصبح عليها فهي حاملة السكينة والمعرفة وكشف الأسرار، وهي التي تغدق حنوها الناعم على عائلات المفقودين عبر مؤسستها الخيرية غير الحكومية، التي تصبح ملاذ التائهين بحثاً عن ذويهم في هذا البلد المنكوب بغياب العدالة والقانون.

حتى عندما تقع في الحب، تقع في حب امرأة وهي مسألة محيرة نفسياً، لكنها متسقة صوابياً- فلو كان في داخلها امرأة كما تعلن من البداية، فمن المتوقع – ولا نقول الطبيعي- أن تقع في حب رجل بعد أن تحررت من جسد الذكر الذي كانته، وامتلكت كل ما يؤهلها لممارسة مشاعرها الأنثوية المكبوتة، لكن في سياق احتقار الرجال الذي تمجده الصوابية، فإن “إيميليا” تقع في حب امرأة، فهي (الأولى والأقدر والأجدر والأرقى) وهي نفسها المرأة التي تقود موكب التطويب في النهاية.

أما الرجل، فهي الذي يتاجر في المخدرات، وهو الذي يقتل ويحرق الجثث ويخفيها، وهو الذي يخطف “إيميليا” بوازع من أرملة الرجل، لأنه لا يستطيع أن يقاوم سحر”سيلينا جوميز”، التي تقوم بدور الزوجة، وحتى المحامية النشيطة والذراع التنفيذي لـ”إيمليا” منذ أن جلبت لها طبيب التجميل لتحويلها تعيش هكذا دون رجال، ربما نشعر أنها تفتقد الحب، لكنها أبداً لا تشير إلى أنها تفتقد الرجل.

بل أن ذروة تحطيم أيقونة الرجل تأتي من داخل “إيمليا” نفسها، فما تبقى من الجانب الذكوري فيها هو الذي يشتعل بالغيرة على زوجته السابقة التي هي أرملته في نفس الوقت – والخلط هنا واجب؛ لأن الوضع كله شاذ واستثنائي- وهذه الغيرة هي التي تجعله يحرمها من الأموال التي أورثها إياها عقب أن تحول واختفى كرجل، لم تتمكن المرأة التي أصبح إياها ان تكبح جماح التهور والأفعال الموتورة كأن يحرم الأم من أبنائها – أبنائه- عقاباً لها على خيانتها بأثر رجعي وقت أن كان رجلا، وهكذا يصبح الرجل الذي في داخل “إيمليا” هو السبب في نهاية الأسرة، حيث يدفعه “عطيل” الصغير في داخله أن يعطل سير الزيجة التي ترغب فيها الزوجة/الأرملة، بحجة الأطفال – وبسببهم- لكن دون ان يكون لديه تفسير مقنع سوى للمحامية فقط التي تعلم كل شيء، وبالتالي تهرب الزوجة، وتخطف “إيمليا” من أجل إرجاع المال والأولاد، مما يقودهم في النهاية إلى الوقوع في الهاوية.

ملحمة موسيقية

ما الذي دفع أوديار ان ينقل الرواية إلى الشاشة عبر قالب الدراما الموسيقية، الذي تشكل فيه الأغاني الجانب السردي الخاص بالمشاعر والأفكار والهواجس؟

على ما يبدو ان المخرج المولع بالظلال الشعرية لشخصياته لم يجد في الحبكة الشعبوية الغريبة مكانا للشعر سواء البصري أو الدرامي، فترك قوس الشعر، وأخذ سيف الموسيقى، وهو أكثر حدة من الشعر وحضوراً وازدحاماً ربما بما يليق بحكاية رجل تحول إلى امرأة من أجل أن يصير كائناً أفضل.

الأغنيات المصحوبة بالأداء الحركي والرقصات المبهرة والمفعمة بالأجساد والأداءات البراقة الممتعة، لا ترتبط كما ذكرنا بتطور الأحداث على المستوى المعلوماتي، وكما في السينما الشعرية تبدأ القصيدة حين تنتهي المعلومة، فهنا أيضاً تبدأ الأغنية بعد حضور المعلومات، ولو أننا شاهدنا أغنيات الفيلم منفصلة عن سياقه الدرامي لأدركنا الكثير عن مشاعر الشخصيات ومخاوفها وتركيبتها الداخلية -النساء بالطبع فالرجال غير مسموح لهم بالغناء في الفيلم إلا فيما ندر- أكثر مما سنعرف من أحداث أو تفاصيل تخص الحبكة وتطور الصراعات ونمو الذروة.

الموسيقى هنا هي الظلال التي يشكلها وقوف الشخصيات في ضوء الواقع العبثي والغريب، وبالتالي بدا الخيار الغنائي الراقص معبراً عن هذه الظلال المفعمة بالكبت والرغبة في التحرر والهيستريا واللهاث والارتجال والتخبط والنزاع الداخلي، والوقوع في أسر الماضي والتفاؤل بمستقبل مريب.

ولا شك أن صياغة القضية الظاهرية الخاصة بأحقية الأسر التعرف على مصير ذويهم في البلاد التي يحكم غياب القانون والعدالة المستحقة قبضتهم عليها وهي قضية دولية تتماس مع آلاف الوقائع في عشرات الدول شرقا وغربا- ولا شك ان الهيئة الموسيقية للفيلم دعمت هذه القضية من خلال أغنية أو اثنين، لكن حتى هذه القضية الإنسانية الهامة لم تكن سبباً في أن “تستشهد” أو تقتل إيميليا، بل الرجل الذي تبقى في داخلها هو من دفعها لارتكاب حماقة أودت بحياتها.

صحيح أن أحداً لم يعلم وطوبت في النهاية، بناء على نشاطها الخيري، لكن الفيلم ليس موجهاً لشخصياته، بل لنا نحن الجالسون أمام الشاشات، ونعلم السر وراء كل هذا.

كارلا صوفيا

قد تصبح (الممثلة) الإسبانية كارلا صوفيا أول متحولة ترفع تمثال الأوسكار، بما يعكس انتصار جديد للصوابية بعد أن حققت السعفة المقسمة على بطلات الفيلم-وهي من بينهم- قبل شهور قليلة، وسواء أجادت صوفيا أم لا، فإن التكريس الدعائي خاصة في سياق المشهد السياسي الدولي والأميركي الملتبس جداً يؤهلها لهذا، ولولا ما ظهر مؤخراً من تغريدات عنصرية لها -تمثل جانب من العبث المتنفذ على الصورة التي تعيشها الحضارة كلها في هذه الحقبة السوداء- لأصبح من اليقيني ان تقتنص الجائزة كما نالت هي وفيلمها السعفة في كان.

أزمة التكريس الدعائي هي أنها لا تضعها كممثلة – بتحولها الجندري- في ميزان الجودة، على اعتبار أنها أجادت بالفعل تقديم الشخصية التي ليست بعيدة عن تجربتها الحياتية، بل يصبح تقييمها نابعاً من كونها فقط ممثلة متحولة في زمن الصوابية، بينما في سياق آخر كان من الممكن أن تكون تجربتها وموهبتها – لو كانت موهوبة بالفعل- هي محور التقييم، ونقصد بتجربتها التحول الجنسي، وليست تجارة المخدرات وتزعم العصابات، وهي هنا أقرب لما كان يطلق عليه المخرج الفرنسي روبير بريسون استدعاء نموذج من الواقع يملك نفس الخبرات النفسية والشعورية وأحياناً الجسدية لأداء شخصية في الفيلم، لكي تصل درجة الإيهام والمصداقية والتماهي أقصى حدودها، فيستغرق المتلقي في الحكاية انطلاقاً من اقتناعه بأن ما يراه واقع حقيقي؛ مؤثر ووجداني.

تبقى الإشارة إلى ان فكرة التحويل الجندري سبق وأن شاهدناها في رائعة الإسباني بيدرو ألمودوفار the skin I live in عام 2011 حيث جراح تجميل يقوم بتحويل عشيق ابنته إلى امرأة من أجل الانتقام منه، فيقع هو في حبه، ولكن شتان بين شعرية الدراما في الفيلم الإسباني -زمن ما قبل الصوابية- وبين شعبوية وفجاجة إيمليا بيريز، رغم كونه عمل موسيقى ملحمي جذاب.

ألمودوفار المعروف بالمخرج الذي تشكل النساء جنبات عالمه السينمائي، كان ولا يزال يعرف كيف يمنح المرأة قوتها المستحقة وإنصافها الإنساني – وليس الجندري- دون ضجيج أو شعاراتية خائبة، أما أوديار فرغم متانته الإبداعية، إلا أن “بيريز” ربما لن يكون ضمن ميراثه الأهم، ولكن مع الوقت سوف يتحول إلى واحد من آثار حقبة مشوشة وغائمة، من دون طحن فكري وشعوري حقيقي ومستحق.  

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *