ترامب وفك التحالف بين أمريكا وأوروبا

عبد النبي العكري
تكرس التحالف ما بين أمريكا وأوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية حيث يعود الفضل في تحرير أوروبا من الاحتلال النازي الفاشي إلى كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي بالأساس إلى جانب بريطانيا والمقاومة في بلدان أوروبا المحتلة وخصوصا فرنسا.
وبعد انتصار الحلفاء، برز واقع جديد في أوروبا وهو سيطرة قوات الاتحاد السوفييتي وحلفائه من قوات المقاومة على أوروبا الشرقية، فيما سيطرت القوات الأمريكية والقوات الحليفة لها على أوروبا الغربية، فيما قسمت ألمانيا بما في ذلك برلين في ظل الاحتلالين السوفييتي والأمريكي.
تبع ذلك تكريس الانقسام الأوروبي بقيام أنظمة اشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية التي حررها الاتحاد السوفييتي. فيما استعادت بلدان أوروبا الغربية التي حررتها أمريكا نظامها الرأسمالي وانقسمت ألمانيا إلى دولتين، شرقية بنظام اشتراكي، وغربية بنظام رأسمالي.
وتبع ذلك تطور مهم وهو قيام دول أوروبا الغربية وأمريكا وكندا بتشكيل حلف الناتو ومقره بروكسل للدفاع عن جميع أعضائه في مواجهة أي تهديد خارجي لأي من أعضائه. وبعد ذلك قيام حلف وارسو ليضم الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية للدفاع عن جميع أعضائه في مواجهة أي تهديد خارجي لأي من أعضائه. وهكذا تكرس تقسيم أوروبا سياسيا واقتصاديا. وترتب على ذلك عمليا التزام أمريكا بدعم دول أوروبا الغربية في مواجهة أي خطر سوفييتي واستعدادها العملي ومن ذلك إقامة قيادة عسكرية عليا لحلف الناتو وتتبعها قيادات فرعية حيث العسكريون الأمريكيون في قمتها. كذلك أقامت أمريكا قواعد أمريكية برية وجوية وبحرية إلى جانب استخدام القواعد الأوروبية لمرابطه قواتها.
وهكذا ترسخت عقيدة التحالف الأمريكي الأوروبي والالتزام الأمريكي بأمن أوروبا. لكن هناك تطورات مهمة وهي:
انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك جمهورياته والاقتصار على جمهورية روسيا الاتحادية كقوة عظمى يعتد بها. وتبع ذلك تفكك المعسكر الاشتراكي، وانهيار حلف وارسو ووحدة ألمانيا في بداية تسعينيات القرن الماضي. إذن لم يعد هناك تهديد جدي لأمن أوروبا من الشرق، بما في ذلك الاتحاد الروسي.
وبدلا من حل حلف الناتو، فقد جرى توسعه شرقا ليضم بعض دول أوروبا الشرقية حتى وصل إلى حدود روسيا باستثناء فنلندا وأوكرانيا في توجه لحصار روسيا وتفكيكها. كما إن جميع الدول الاشتراكية سابقا والتي تبنت النظام الرأسمالي، قد انضمت أو في طريقها لعضوية الاتحاد الأوروبي.
شهدت أوروبا ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي تسارع عملية انتقال أوروبا من السوق المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي واعتماد عملة اليورو والحدود المفتوحة بحيث أضحت اتحادا متماسكا له برلمان ومفوضية عليا وأجهزة مركزية. كما شهد عملية تمدد نحو الشرق ليشمل غالبية أوروبا الشرقية. وأضحى الاتحاد الأوروبي قوه سياسية واقتصادية عظمى.
وترتب على تعزيز الوحدة الأوروبية ضمن الاتحاد الأوروبي الموسع، ثقة أوروبا في قدراتها لحماية أمنها وظهرت دعوات لإنشاء قوة أوروبية مشتركة خارج الناتو. وبالطبع فقد برزت على امتداد العقود الماضية خلافات أوروبية أمريكية حول الاقتصاد والسياسة الخارجية وغيرها، لكن أمريكا ظلت في الموضع الأقوى خصوصا في ظل بعض الخلافات الأوروبية واقتراب الحكومات اليمينية من أمريكا.
وهناك عامل مُستجد وهو عودة تماسك روسيا الاتحادية وصعودها في ظل قيادة بوتين وتشبيك اقتصاديات أوروبا وروسيا، خصوصًا من خلال إمدادات الطاقة الروسية وهو ما لم يكن لصالح أمريكا وعملت على إحباطه؛ بما في ذلك منع تدفق الغاز والنفط الروسي لأوروبا بتخريب شبكات الامداد والضغوط على أوروبا. كما إن صعود الصين كقوة اقتصادية عظمى وشريك لأوروبا وتعزز التحالف الروسي الصيني شكل تحديا للشراكة الأمريكية الأوروبية.
شكل تعزيز قبضة اليمين الجمهوري على السلطة في أمريكا وهيمنة اليمين المتطرف بقيادة ترامب بفوزه بالرئاسة وأغلبية الكونجرس تحت شعار “أمريكا أولًا” و”لنستعد أمريكا عظيمة” تدشينا لسياسة خارجية مختلفة وتعزيزًا لافتراق أمريكا عن أوروبا قد تؤدي إلى حرب تجارية وفك التحالف الاستراتيجي بما في ذلك حلف الناتو. وقد جاءت التطورات المتسارعة بعد استلام ترامب للسلطة في 20 يناير 2025 لتؤكد ذلك الافتراق بتطورات متلاحقة ومنها اعتبار أوروبا وكندا منافسين تجاريين لأمريكا وليس متكاملين معها وفرض ضرائب عالية على صادراتها لأمريكا والتي أضحت فاعلة بالنسبة لكندا وما يتليها من إجراءات مماثله. والأخطر من ذلك دعوة ترامب لضم كندا لأمريكا لتكون الولاية رقم 51، وكذلك جزيرة جرينلاند التابعة للدنمارك في سابقة تاريخية خطيرة في العلاقات الدولية والأخطر فيما بين الحلفاء.
ومن بين العوامل، دعوة دول الناتو لزيادة إنفاقها العسكري بما في ذلك مخصصاتها للناتو بحيث تتحمل العبء الأكبر في حماية أوروبا؛ بل تحمل بعض نفقات الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، في الوقت الذي تعاني فيه أوروبا مصاعب اقتصادية.
تمثل المشكلة الأوكرانية سببًا ومؤشرًا على هذا الافتراق. وسبق لترامب أن أكد حتى قبل تسلمه الرئاسة عزمه وكونه الوحيد القادر على إنهاء الحرب في أوكرانيا وفوجئوا باتصاله المباشر ببوتين وترتيب لقاء وزيري الخارجية الأمريكي والروسي لبدء مفاوضات شاملة للعلاقات والقضايا وفي مقدمتها الحرب في اوكرانيا في غياب أوكرانيا موضع المفاوضات والاتحاد الأوروبي المعني مباشرة بها.
وفي الوقت الذي حمل فيه الأوروبيون مسؤولية النهوض بأعبائها العسكرية والمالية، فإنه اندفع للبدء في التفاوض مع الرئيس الروسي بوتن لإنهاء الحرب. وبدون أي تشاور او اتفاق مع حلفائه الأوروبيين وبدون مشاركة أوكرانيا، عرض ملامح الاتفاق وبه تنازلات مذهلة لروسيا ومنها التسليم لروسيا ببعض الأراضي التي احتلتها وعدم قبول أوكرانيا في حلف الناتو وعدم مرابطة قوات أمريكية في أوكرانيا ضمن ضمانات أمنها.
اعتبر ترامب ضمن رؤيته المعروفة كتاجر عقارات، أن ما قدمته أمريكا كمساعدات عسكرية واقتصاديه دينا مستحقا على أوكرانيا يتوجب دفعه مضاعفا، بمنح أمريكا استغلال الثروة المعدنية النادرة في أوكرانيا مع الوعد بمساهمة أمريكا في صندوق التنمية ما بعد الحرب وهو وعد غير موثوق به. وبالفعل فقد فرض ترامب اتفاقية نهب مجحفة بحق أوكرانيا في سابقه لا مثيل لها في التاريخ المعاصر ويتوقع وصول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن للتوقيع صاغرا على الاتفاقية. وسبق لترامب أن شكك في شرعية زيلينسكي وحمل أوكرانيا مسؤولية الحرب.
في ظل هذه التطورات عقد زعماء الاتحاد الأوروبي اجتماعا طارئا في باريس عبروا فيه عن قلقهم تجاه التزام أمريكا بأمن أوروبا وانفرادها مع روسيا لوضع حد للحرب الأوكرانية وحل المشكلة وغيرها من الخلافات. وفي ضوء ذلك فوضوا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسفر إلى واشنطن والتباحث مع الرئيس ترامب. واتضح بعد المحادثات أن الهوة عميقة ما بين أوروبا وأمريكا خصوصا ما يتعلق بالأمن الأوروبي وأوكرانيا وقيام أمريكا بالعمل لإنهاء عزلة روسيا وإنهاء العقوبات الاقتصادية بحقها وتأهيلها دوليًا كشريك لأمريكا مقابل امتيازات لاستخراج المعادن في شرقي أوكرانيا المحتلة من قبل الروس ومكاسب اقتصادية أخرى في روسيا. كما عمد رئيس الوزراء البريطاني إلى السفر إلى واشنطن لنفس المهمة واستبق سفره بإعلان رفع مخصصات الدفاع إلى 3.5% من الناتج القومي بحلول 2027، استجابة لطلب ترامب.
الخلاصة.. لا شك أن رؤية ترامب لـ”أمريكا أولًا” كما يفهمها، لها تبعات كارثية على العالم بمن فيهم حلفاؤها الأوروبيون. وكما قال كيسنجر مهندس السياسة الأمريكية: “على أعداء أمريكا أن يخشوها مرة، وعلى أصدقائها أن يخشوها مرتين”. من هنا، فإن افتراق التحالف الأوروبي الأمريكي قد بدأ مما يفرض على أوروبا تحديات خطيرة وخيارات لا سابق لها وهو ما سيتضح قريبا وخصوصا في مسار الأزمة الأوكرانية وتبعاتها على أوروبا والعالم.