من دمشق.. مرحبًا بالصحافة الحرة

علي عيد
أكتب كأن قلبي دواة حبر لقلمي، أدسّ يراعي في دمي، وهي المرة الأولى التي ستخرج فيها كلمات هذا المقال مطبوعة عبر جريدة مستقلّة من دمشق، وهذا يعني الكثير في التاريخ وحرية البلاد والصحافة المستقلة، كما يعني لي الكثير كصحفي ناضل بين زملائه من أجل هذه اللحظة.
طباعة العدد 680 من جريدة “” في “الشام”، ينعش في ذاكرة السوريين صحافة أعقبت الاستقلال عام 1946، لكنها لم تدم طويلًا، كما أن ما حصل في 8 من كانون الأول 2024، مختلف وأكثر أهمية لشدّة “مضاضة” ما تعرض له السوريون في عهد الأسدين الذي دام 54 عامًا، وهي فترة تزيد بأربع سنوات على ما قبلها منذ استقلال البلاد، إذ استمرت فترة الاستعمار الفرنسي 26 عامًا، أما مرحلة الاستقلال، ثم الوحدة مع مصر ثم حكم “البعث” فامتدت 24 عامًا، في مرحلة ما قبل استيلاء حافظ الأسد على الحكم عام 1970.
يحضر معي في هذا المقام جلال مئات آلاف الشهداء، أولئك الذين ضحوا من أجل قيامة سوريا، وبينهم شهداء الصحافة الذين بفضلهم تتغاوى الحرية على أقلامنا وحناجرنا في بلاط صاحبة الجلالة.
لا أبالغ إن قلت إن تجربة الثورة السورية منذ عام 2011، واحدة من أندر التجارب في التاريخ، فمعها اكتشف العالم نظريات أخرى للتغيير وتأثير المواطن والناشط الصحفي، ومعها أرسل الصحفيون السوريون رسالة عابرة للحدود، مفادها أن صحافة المنفى يمكن أن تدافع عن المقهورين أو حتى عن حواضن أنظمة الاستبداد والقهر عندما تقع فريسة للظلم، وقد فعلها الصحفيون السوريون، عندما سلطوا الضوء على معاناة الناس في دمشق واللاذقية وطرطوس والرقة وإدلب، دون تمييز ولا تغييب، محترمين حق الجمهور على الإعلام في إيصال الصوت، وحق المعرفة، وملتزمين بالأخلاق والقواعد المهنية.
مضى 160 عامًا على صدور صحيفة “سورية”، أول صحيفة في البلاد، في العهد العثماني، و148 عامًا على صدور “الشهباء”، وهي أول صحيفة خاصة.
إذ اعتبرنا نشوء الصحافة في سوريا نقطة بدء لتقييم الحياة السياسية والحريات فيها، وخلال كل تلك السنوات منذ ظهور أول مطبوعة، لم تتعرض سوريا لزلزال بحجم حكم الأسدين، فالاحتلالان العثماني والفرنسي، دون تبرئتهما مما ارتكباه في سوريا، لم يتورطا بهذا العدد الهائل من جرائم القتل والتعذيب والتغييب.
كما لم تتعرض الحريات الصحفية، طوال التاريخ المذكور، لمستوى القمع الهمجي، الذي مارسه حافظ الأسد وابنه بشار الأسد، وامتدّ أذى هذين الدكتاتورين ليطال صحافة وصحفيين خارج حدود سوريا، كما حصل في اغتيال سليم اللوزي، مؤسس مجلة “الحوادث” في لبنان في آذار 1980، واغتيال الصحفي سمير قصير في حزيران 2005، والصحفي جبران التويني في كانون الأول 2005.
ومقابل الحريات الصحفية، تعرضت الحريات العامة في البلاد لأقسى مستوى من العسف والقهر والقمع، لقد قامت الثورة أساسًا من أجل الحرية، ومن ينسى الشباب الثائر وهم يهتفون لها في مختلف المدن والمحافظات السورية.
تخيلوا أن أكثر من ثمانية ملايين سوري وجدت أسماؤهم على لوائح المطلوبين لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، بحسب مسؤول في وزارة الداخلية، ولو افترضنا أن عدد السوريين هو 30 مليونًا، بحسب الكتاب الإحصائي الصادر عن حكومة النظام عام 2022، فهذا يعني أن أكثر من ربعهم على لوائح الاعتقال، ولو استثنينا الأطفال ما دون سن 15 عامًا، ويشكلون 43% من عدد السكان، فإن المطلوبين هم أكثر من نصف عدد البالغين ذكورًا وإناثًا.
ونحن نبدأ اليوم مرحلة جديدة في سوريا، مع حكومة يفترض فيها أن تكون حكومة تشميلية تمثل الجميع، وبانتظار مجلس تشريعي ولجنة لصياغة الدستور، نحتاج إلى هذه الجرعة من الثقة بالحرية ومآلاتها، فهي ضمانتنا، وإذا كانت مفردة الديمقراطية تشكل حساسية لدى دوائر سياسية رسمية، فلتكن الصحافة الحرة منبرها.
إن شرف المهنة يستدعي أن تكون الصحافة صوت الناس، وأن تكون ضميرهم، وأن تدافع عن حقوقهم، لكنها لا تدافع عن انحيازاتهم غير الوطنية.
نشأت “” من قضية، وفي أصعب الظروف، ولـ14 عامًا منذ نشأتها، عمل كادرها مع زملاء في وسائل إعلام أخرى من أجل قضية، تلك القضية هي سوريا بكل مكوناتها، فالمجد للحرية وصحافتها الحرة ولحراس الحقيقة، ومن دمشق.. مرحبًا بالصحافة الحرة.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي