اخر الاخبار

“حكاية جدار” من مخيم عايدة إلى سجون إسرائيل

كل ما في “حكاية جدار” للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، أن الجدار قرّر بشكله الفيزيقي المادي، أن يحضر ويستأنس بصاحبه المسجون داخله، بأسلوب أدبي مؤثر.

اشتغل أبو سرور على كتابه لسنوات، أثناء وجوده في سجن “هاداريم”، وانتهى منه سنة 2019، وتمّ نشره بعد مسار سري في بيروت سنة 2022 عن (دار الآداب)، ثم تُرجم إلى الانجليزية والفرنسية عام 2025 عن (دار غاليمار)، تحت عنوان “أنا حريتي”.

يوضح الكاتب قائلاً: “الأمر برمته هو أن جدار السجن قرر أن يختارني شاهداً على ما يقول ويفعل، وما كان لجمل هذا النص أن تصطف لولا استنادها إلى عنصر ثابت ووحيد هو الجدار، وكانت تقرّقت لولا رعايته الصلبة ومراقبته عن كثب”. 

يضيف: “أعطاني الجدار صفاتي وألقابي كلها منذ بدايتي في المخيم، وعلى هامش المدينة في السجن، وفي قلب امرأة أو على أطرافه”.

 ذاكرة الحجر

هكذا صار الجدار لوح كتابة حيّة ملازمة له، حيث نقل كل محتويات ذاكرة ناصر وحاضره، ورافقه في رحلته من سجن إلى آخر. 

لكن الجديد أن النص لا يحكي الأحداث بتفاصيلها الدقيقة، كما هو معهود في أدب السجون، وخاصة في الشق الفلسطيني منه، بل هو بوح ذاتي يشبه المونولوغ في غالب الأحيان، وتحضر فيه الكثير من الحكايات الميثولوجية والأدب والفلسفة والشعر، من داخل أتون العذاب. 

تسلق السور  

بدأت الحكاية بجدار أوّل، هو عبارة عن سورٍ يفصل مخيم اللاجئين الفلسطينيين “عايدة” عن مدينة بيت لحم، دفع الفضول المراهق ناصر ليتسلّقه ويرى ما يخفيه. هناك وجد نظرات ترقبه بانتباه شديد، وشك لم يجد ما يبرّره . 

يسأل الكاتب: ما الذي أخاف المكان الموجود خلف السور من صبي ابتلاه ربه بالفضول، وأُمّ أطلقت العنان لخياله، وصبا بكّر في قدومه، ومخيّم ضاق حتى الاختناق؟ 

ويرى أن المدينة المحيطة بالمخيم “تنصّلت من رواية المخيم، وكذّبت ما جاء فيها من طَردٍ وتهجير، وأسقطت عليه ما تيسّر في معاجمها من مُرادفات للخائن والهارب والمهاجر واللاجئ والغريب والدخيل وغيرها”. 

وداعاً يا دنيا 

لم يستسغ المراهق الأمر، وعند أول فرصة لدحض ذلك، وجد نفسه في خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، التي شارك فيها بكل عنفوانه، مع جيل النكبة الثانية (جيل 67).

يقول أبو سرور: “كنا بحاجة إلى جيل انتفاضة، ويفضحنا أمام ما تكسّر فينا من مرايا، ويطلق علينا أفضل ما عرّف بنا من ألقاب مثل “جيل الحجارة”. 

لكن ما لبث الاعتقال أن طاله ذات صباح، حين وجد فوهة بندقية باردة تلتصق بجبينه، بعد عملية استهدفت ضابطاً إسرائيلياً نفّذها مع رفاق له. ثم تمّ الزجّ به في زنزانة انفرادية في سجن أسفل رام الله، بعد فترة استنطاق قاسية واعتراف قسري. 

يحكي الكاتب الوقائع من زاوية أثرها على الذات، وفي إطار مسيرة تعلّم أبجديات الاستمرار في الحياة، بعد أن كتب على أوّل جدار: “وبقطعة حديدية صغيرة وباردة، رحت أخطّ ثلاث كلمات سترافقني على مدى 27 عاماً، وكلمات ثلاث أخيرة لم يتم قولها بعد: وداعاً يا دنيا”.

جدار بوجوه شتى

بدأت رحلة مقاومة من نوع آخر. إضرابات عن الطعام من أجل سرير، من أجل حمّام، من أجل إنهاء العزل ورؤية السماء، من أجل مصافحة الأم والعائلة عبر أطراف الأصابع من خلال فتحات الشبابيك. 

بالموازاة تصل أخبار مفاوضات أوسلو، الانتفاضات، هجمات نيويورك وما تلاها، الربيع العربي، الهجوم على غزة سنة 2014، الانتكاسات وغيره، وناصر يتابع ويحلّل ويكتب ولا يهم أين.

 فمرّة يُفتح باب الزنزانة لتحمله مركبة النقل “البوسطة” التي يسميها الوحش. تُخرجه أولاً من العزل الذي يسميه “القاع”، إلى سجن عسقلان الجماعي، حيث مذاق البحر القريب والنخيل.

ثم إلى سجن جنيد بنابلس، حيث شاهد يوميات عائلة نابلسية مقابل شباك نافذة زنزانته، المؤلف من ألف فتحة ضوء؛  ومن هناك إلى سجن “نفحة” حيث مذاق الصحراء، وأخيراً إلى سجن “هاداريم” المجهّز بالكاميرات والأمن. 

رافق الجدار أبو سرور على الدوام، ويقول عن تلك الصحبة: “هناك زرعت مؤبدي على جداري لا أحاكمه ولا أنازِعه، أسكنته إلى جانب جراحاتي الأخرى، رأيت فيه حكماً على حياة سابقة، ولا تعنيه قادمات أيامي ولا يعنيها. رأيت فيه جرحاً أَضمّده، أعانقه وألعنه لعنة متخاصمين لا عداوة بينهما، وأصالحه فيرضى سريعاً كالذي تمنى مصالحتي”.

ثم حلّ الحب ذات يوم 

أفرد ناصر أبو سرور فصلاً كاملاً لقصة حب في جزء بعنوان “أنا، قلبي وضيق المكان”، بعد أن عنون الجزء الأول “أنا، ربي وضيق المكان”. 

ولا غرابة في ذلك، فهو لم يفتأ يذكر بأنه نشأ في مدينة رسول المحبة، المسيح عليه السلام. حلّ الحب في شخص شابة جميلة وأنيقة  تدعى ننّا، إيطالية من أصل فلسطيني عادت للسكن في يافا. 

حينها امتلأ جداره بأخبار عنها وبملامح وجه صار يحفظه جيداً. أتت لزيارته في مهمة كمحامية، وعوض أن تجد شيخاً عجوزاً كما قالت، وجدت أمامها خلف الفاصل الزجاجي الذي عوّض القضبان الحديدية، رجلاً في منتصف الأربعينيات.

ومن بدايات الكلام العفوي والغزلي، نسجا قصّة حب عارمة تملأها الأحلام وتبادل الرسائل والأشعار، فانحازت الرواية إلى عالم رومانسي حقيقي، تمتزج في ثناياه حلاوة العاطفة ومرارة الاعتقال.

 لكن ذلك أحال الحب في نهاية المطاف إلى عاطفة قاسية، لأنه استحال على التحقق، وولّد حزناً وألماً كبيرين.

 يكتب ناصر :” أنت لا تكفيني تقول ننّا، وهكذا عاد إليّ جسدي، وعادت معه السلاسل والحديد”. 

من حسن حظ ناصر، أنه قرأ صفحات في كتاب للفيلسوف الدنماركي كيركغارد، الذي بدأ به سلسلة الاقتباسات والاستشهادات الكثيرة التي ساعدته في الصمود. يكتب في الفصل الذي يحمل عنوان “تخلّ وتمسّك”:”إن أفضل الطرق للحفاظ على الحب هو التخلي، والتنكر لغرائز التملك والأنانية، وذلك يصبح ممكناً فقط عن طريق اللامعقول الإيماني”. 

هذا الأمر ما جعل مترجمة الكتاب إلى الفرنسية ستيفاني ديجول،  تقول في حوار معها، “إن الطريقة التي تتجلى بها شخصية ناصر في كتابه أعجبتني جداً”. 

أضافت: “حدّة بصيرته، وصلابته، وروحه المتمرّدة والهادفة إلى كسر التقاليد، وطريقته في النأي عن الواقع بالسخرية، بل وحتى التهكم، كلها سمات تذكرني، بشخصية الشاعر رامبو”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *