اخبار تركيا

في رحاب رمضان

ياسين أقطاي يني شفق

في ظلام الليل الدامس وصمته المطبق، كان صوت الطبال القادم من بعيد يبلغ ذروته أمام المنزل، وحين ينتهي عرضه المبهر ويبتدأ بالابتعاد شيئًا فشيئًا، لا يبقى أثر للنعاس الذي خلفه الاستيقاظ المفاجئ من النوم. لا أقول ذلك في إطار حنين إلى الماضي ولا تأخذوا كلامي على أنه تمجيد لرمضان الزمن الجميل، ولكن لا شك أن الاستيقاظ على هذا النغم يختلف تمامًا عن الاستيقاظ على صوت المنبه.

وبعد ذلك بقليل، نكون على موعد مع وجبة السحور، التي تسبق يومًا طويلًا وشاقًا من الصيام. في بيتنا كان جميع أفراد العائلة يصومون الشهر بأكمله، ولم يكن الأطفال استثناءً؛ فبمجرد بلوغهم سنًّا معينة ينضمون إلى الركب، بدايةً بصيام “نصف اليوم”، ثم لا يلبثون أن يصموا اليوم كاملًا في سنٍّ مبكرة.

كانت موائد الإفطار تُقام على سطح المنزل، أما السحور فكان داخل البيت. لم يكن الأمر مجرد تفضيل، بل كان له أسبابه. فمن ناحية، كان نقل الطعام إلى السطح في وقت السحور أمرًا مرهقًا، ومن ناحية أخرى، كانت سكينة الليل تجعل الحفاظ على الخصوصية أمرًا أكثر صعوبة، إذ يمكن لأي صوت، مهما كان خافتًا، أن يتردد بين الأسطح المجاورة. أضف إلى ذلك أن حرارة الشمس الخانقة كانت تجعل البقاء داخل البيوت نهارا أمرًا غير محتمل، لذلك كنا نقضي الساعات الأولى من الليل على السطح. كانت لحظة استرخاء لا تُقدَّر بثمن، إذ كنا نستلقي على الأسرّة الباردة تحت السماء المرصعة بالنجوم المتلألئة متأملين حركتها ثم ننام حتى يحين موعد السحور.

وحين يقترب وقت السحور، يكون الجو داخل المنزل قد برد قليلًا، ما يسمح بتناول الطعام داخلها براحة أكبر. بل إن البعض كان يفضل استكمال نومه في الداخل بعد السحور، خشية أن توقظه شمس الصباح التي تداهم السطح باكرًا. ولكن المحظوظين بحق كانوا أولئك الذين أعدّوا فراشهم في الزوايا التي لا تصلها أشعة الشمس، لينعموا بنوم عميق مفعم ببرودة الفجر المنعشة. أما من تسللت إليه أشعة الشمس، فلم يكن بمقدوره مواصلة النوم.

كان الجميع في المدينة يصومون رمضان حسب ما أذكر. أما الذين لا يصومون، فكانوا معروفين في المجتمع، ولم يكن أحد يتعرض لهم، ولكن كان يُنظر إليهم نظرة ازدراء. كانت جميع المطاعم في المدينة تغلق أبوابها طيلة أيام الشهر الكريم، وكأنها تأخذ عطلة جماعية لمدة ثلاثين يومًا. ولم يكن هناك سوى مطعم واحد مفتوح، أشبه بنادٍ مغلق، وكانت نوافذه تُغطى بالصحف حتى لا يُرى ما بداخله. والداخلون إليه كانوا يتصرفون وكأنهم يلجون مكانًا محظورًا، يتلفتون حولهم بحذر قبل الدخول، وكأنهم يقترفون خطيئة، ورغم ذلك لم يُسمع يومًا عن شخص تعرض للضرب بسبب إفطاره في رمضان. ولم يكن الامتناع عن الصيام خيارًا مطروحًا أصلًا ولا يمكن للعقل تقبله، فقد كان الصيام متجذرًا في الوعي الجمعي، ومتأصلًا في نسيج الثقافة والممارسات الاجتماعية.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *