عبد الرزاق بلعقروز: الفلسفة هي تحرير العقل

ينتمي الباحث وأستاذ العلوم وفلسفة القيم والمعرفة عبد الرزاق بلعقروز (1981)، إلى نخبة أكاديمية جزائرية، تولت طرح الأسئلة المتعلقة ببناء الإنسان فكرياً وحضارياً، انطلاقاً من قناعتها بكونه كائناً أخلاقياً، وما يحصل له من انتكاسات حضارية وسياسية، هو ثمرة للانتكاسات الأخلاقية، فكانت مقالاته وبحوثه وكتبه التي توج بعضها بجوائز وازنة، منها جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الكتاب الشاب، تنطلق من هذا الهاجس.
في ما يلي حوار معه، بمناسبة حصوله على جائزة الكتاب العربي 2025 عن كتابه “الاتصاف بالتفلسف”.
لماذا بقيت الفلسفة في الفضاء العربي المعاصر بعيدة عن قراءة الراهن ما ربطها بما هو ترف فكري يولد النفور لدى الجيل الجديد؟
يسعى كتاب “الاتصاف بالتفلسف: التربية الفكرية ومسالك المنهج”، لتقريب الفلسفة أكثر إلى أحوال الإنسان وأحزانه، لأن الفلسفة اليوم تعيش خطاً معرفياً نشطاً عنوانه: كيف نعيش بالفلسفة، وما هي التجربة الفلسفية، وأي الأساليب أو التدريبات الروحية التي تقدمها الفلسفة للذوات المضمحلة من أجل أهداف جديدة للحياة؟
الكتاب في صميمه يصب في مطالب العقل العملية، سعيت فيه كي أقدّم دلائل إرشادية نحو التربية الفكرية الجديرة بالاهتمام، ونحو الطريقة المثمرة من أجل فلسفة إبداعية، وأيضاً إرشادات لأجل التدريب على مكارم الأخلاق، مستلهماً الموروث الأخلاقي الإسلامي عند ابن عربي والحارث المحاسبي والعامري وغيرهم.
الكتاب هو رؤية ومنهج ودليل، يروم تحرير القول الفلسفي من السكن في الجبال والكهوف، ويقدّم للناس أفكاراً ومعالم يستهدوا بها في ظل تعكر الفكر وموت المعنى.
في كتابك “روح القيم وحرية المفاهيم” الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع المؤلف الشاب (2019)، ركزت على إعادة الترابط بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية. هل هي دعوة كي تتأقلم هذه الأخيرة مع المخيال العربي والإسلامي كونها وافدة من الغرب؟
كانت التجربة المعرفية الغربية فصلت في العلاقة بين المعرفة والواقع. فمصدر المعرفة هو الواقع، بينما تجنح القيمة نحو ما يجب أن يكون، هذا الفصل هو الذي تشرّبناه في منظوماتنا التعليمية، وبتنا نفصل أيضاً بين القيمة والواقع.
لذلك كانت أهداف الكتاب تحرير العقل من النموذج المعرفي الاختزالي؛ وبالتالي، الوعي بنسبية هذه الطريقة في التفكير؛ لأنها نتجت عن استيلاء هذا النموذج على التعقل وتوجيهه نحو التسيّد على الطبيعة والإنسان؛ وإلى إعادة تأسيس العقل على القيمة.
وبالتالي فإن مشروعية بناء العلوم على المعاني الروحية، لأن موضوعها هو الإنسان، والقيمة هي الأداة المكينة من أجل تغيير الإنسان، وليس مجرد وصف أفعاله، مع إحياء نماذج تراثية في المعرفة الاجتماعية، ارتبطت فيها المقاصد الأخلاقية والمناهج العلمية، لأن المعرفة ما قبل الحداثية كانت تعي ترابط المعرفة والقيمة، وتداخل العلم والتوجيه، بينما المعرفة الحديثة هي جديدة على هذا الخط المعرفي التَّكاملي.
لماذا لم يجد العقل الغربي حرجاً في الاتكاء على عقول عربية في بدايات التنوير الأوروبي، مثل ابن خلدون وابن رشد وابن سينا والفارابي، بينما استقبلنا ثمار الحداثة الغربية مباشرة من غير العودة إلى عقولنا تلك؟
هناك فرق بين طريقة الغربيين في التعاطي مع أعلامنا وبين طريقتنا نحن اليوم في التواصل مع مفكري وفلاسفة الفكر الغربي، وبيان ذلك أن توما الإكويني “الفيلسوف المسيحي”، كان في منهجه التأويلي لنصوص ابن رشد، يحذف العناصر الإسلامية، ويحتفظ بالعناصر المنهجية، بينما نحن عندما نقرأ الفكر الغربي اليوم، ليس في أيدينا هذا التمييز، بسبب خطأ منسي، مؤداه أن أنساق المعرفة الغربية هي أنساق كونية، وليست وليدة السياق أو التحديات التي نشأت فيها.
استطاع الخطاب الحداثي أن يوهمنا بأن بداية الوعي العلمي، كان مع الحداثة وديكارت؛ أي البداية من نقطة الصفر؛ وانساقت خطابات خلف هذا الإقرار، فكانت النتيجة أننا قطعنا صلتنا بموروثنا الثقافي، وما يحتويه من جوانب مضيئة، واتبعنا أنظمة المعرفة الديكارتية، فلا نحن أعملنا عقولنا إعمالاً راشداً، ولا كاشفنا التحيّزات والنسبيات التي تميّز حركة الفكر الغربي.
ما هي السياقات الموضوعية التي أفرزت نزعة التكفير لدينا في العقود الأخيرة، ليس لما هو فكر غربي فقط، بل أيضاً لبؤر التنوير في تراثنا العربي والإسلامي؟
إن ظاهرة التكفير السائدة، التي أعتقد أنها تجمع تكفير الحداثي للتراثي وتكفير التراثي للحداثي، ترجع في عِللها العميقة إلى رفض القراءة، والتوقف عن استمرارية الفهم والتواصل والاستيعاب، فتعليق فعل القراءة لا ينتج إلا تكوين اليقينيات في المذاهب والمواقف، واليقين الذي لا يتأسس على البرهان والدليل هو تحكم وإذعان من غير دليل.
إن ظاهرة التكفير في سياقنا الثقافي الإسلامي التي أنتجت العنف، مرجعها هو فقدان الدليل والمعرفة وتعطيل فعل القراءة، وأيضاً تغييب الأخلاق في دائرة التواصل، وهكذا، فإن علة التكفير هي غياب الدليل والمعرفة والأخلاق.
يحيلنا كلامك هذا على كتابك “السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح”. هل ترى أن رهان اللحظة العربية اليوم أن نركز على تعميق التراث في نفوس الأجيال الجديدة؟
لا أعتقد أن أجيالنا الجديدة في ظل ثورة وسائل الإعلام والاتصال، التي أصبحت تتجه نحو توحيد الوعي والذوق نحو الإنسان ذي البعد الواحد، تَقبل النموذج التراثي في العيش، وخصوصاً على مستوى التقنيات والتبشير بأزمة الذكاء الاصطناعي؛ بل لا بد من إحياء ما هو منسي في أجيالنا، أي الإيمان والجمال والتسامي والمنحى الاجتماعي.
وإذا كان هذا الغرب المعاصر لنا قد غارت عيناه في الوضعية، فإن التسامي هو سلاحنا، وإذا كان الغرب قد اتخذ من الفردية والعقلانية الذرائعية أساليب له، فإن المعاني الجماعية هي أداتنا، فنحن مجتمعات الأسس والجماعية والتواصل الحي، بل لا بد لنا أن نعلّم أجيالنا فرادة العيش الذاتية، التقوى والإنتاج، العاطفة والعقل وغيرها؛ فإن هذه الثنائيات لم تعرف في الفكر الغربي إلا التضاد والصدام، بينما نحن مجتمعات الأسس، نسكن بينها من غير تفكير تقابلي، لا يرى إلا اللونين الأبيض أو الأسود.
أشرت في كتاب “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، إلى جملة من الموانع الفكرية في وجه تحقيق التكامل بين الحداثة والفكر الإسلامي. إلى متى يظل كثيرون منا يربطون الإسلام بما هو ثابت، كابح للخيال والجمال، بما يتناقض مع كونيته؟
كان الفيلسوف المغاربي ابن عربي يقول إنّنا أمة متحيّرة، بمعنى أن الحيرة وما يلازمها من شكوك ونقد ورغبة في التغيير هي المياسم التي يجب أن تلازمنا، إلا أن طوق التخلف والاستعمار وتطوّر حركة التحديث، قد خلقت في فضاءاتنا المعرفية فئة “المفكرين المنهزمين” الذين لا طاقة لديهم على نقد أنظمة المعرفة الغربية، إنهم يفكرون بالغرب أو بالتراث، ولا يفكرون فيه؛
وكلما توقفت شعلة المعرفة وفعل القراءة كلما تشكلت اليقينيات والأقفال، وبالتالي، فعلاج هذه الظواهر هو ما أسميته في كتابي “الاتصاف بالتفلسف”، التربية الفكرية، وهي سعي منهجي لتنمية القوى العقلية والنفسية في ذواتنا.
ومن الأدوات التي اقترحتها تعليم أخلاق الروح، لأن هيمنة مطالب الجسد تعني استغوار العقل، والتجارة الفكرية، بمعنى إحياء التنافس والتباري والمناظرة بين الأفكار كي تتجدد وتحيا الفكرة الأصيلة، وتموت الفكرة الزّائفة وأيضاً، الحرارة الحوارية، ذلك أن الحديد لا يلين في الجماد، وإنما يلين بالحرارة، وهو الأمر في عالم الأفكار، تليين الأفكار في جو الحوار وتعدد الخبرات والاختلافات.
رصدت في مقالك “الحداثة الفائقة ومظاهر انفصال الإعلام المعاصر عن القيمة”، السياقات التي أدت إلى غرق الإعلام الغربي في الروح الاستهلاكية.
هذا المقال الذي أشرت إليه، فعلاً يلامس ثورة الإعلام والاتصال، لكنها قراءة معرفية أخلاقية، وليست قراءة إعلامية، فالحداثة الفائقة تعني تحكم الوسائل الإعلامية في الحياة، وذلك بخلق مصطنعات جديدة، لا تحاكي الواقع أو تماثله، وإنما تصنع منه صوراً تركيبية؛ غرضها غير المباشر هو نهاية الواقعي والحقيقي والقيمي والمرجعي.