ليالي روكسي.. تغريدة درامية إنسانية عن أول عمل سينمائي سوري

جاء المسلسل السوري “ليالي روكسي” لينقل لنا الإحساس الشامي بكل ما فيه، سياسياً، واجتماعياً وفنياً، متجاوزاً الأحداث الدرامية، ليمنحنا طابعاً ملحمياً.
اختار المسلسل أن تكون الخلفية الدرامية التي تربط أحداثه المتشعبة بقصة إنتاج الفيلم السوري الصامت “المتهم البريء”، في العام 1927، ويعد أول عمل سينمائي في تاريخ سوريا.
يحكي الفيلم الذي صوره رشيد جلال، قصة عصابة من اللصوص روعت أرياف دمشق أيام الحكم الفيصلي، ويروي أيضاً قصة عاملين لدى أحد المزارعين يحبان الفتاة نفسها، فيقوم صاحب المزرعة بقتل والدها وإلصاق التهمة بالمزارع الثاني الفقير، فيتوارى عن الأنظار لذلك سمي الفيلم “المتهم البريء” نسبة إلى قصة هذا الشاب.
“ليالي روكسي” مأخوذ عن نص لبشرى عباس، وشارك في الكتابة معن سقباني وشادي كيوان، وبطولة أيمن زيدان وسلاف فواخرجي، إضافة إلى مجموعة من الممثلين، من بينهم دريد لحام، ومنى واصف، وعدنان أبو الشامات، ووسيم الرحبي، وجمال العلي، وعبد الفتّاح مزيّن، وفاتح سلمان.
الزيارة الخاطفة
أحداث المسلسل مستوحاة من تلك المدة التاريخية التي شهدت انطلاق السينما السورية، وزيارة شخصيات عالمية بارزة مثل تشارلي شابلن إلى دمشق، زارها وهو في طريقه إلى مصر سنة 1932، لكن لا يعرف الكثير عن تلك الزيارة الخاطفة، سوى أنه ذهب إلى سينما “زهرة دمشق” في ساحة المرجة، لمشاهدة عرض فيلمه “أضواء المدينة”.
المسلسل مزج بين الواقع والخيال، عاكساً ليس فقط التحديات التي واجهت صناعة السينما السورية في البداية، ولكن ارتباطها بأحلام الطبقة المثقفة حينذاك، والإحساس بأنها وسيلة للفخر والتباهي بسوريا، عاملاً على نقل صورة تاريخية فنية مهمة من خلال موزاييك دمشقي مميز.
ارتدى المسلسل عباءة الدراما الشعبية التي تحظى بالجماهيرية، مع بناء درامي يصدم المشاهد في التصعيد الحكائي للأحداث.
العوالم الحالمة
تعود بنا “ليالي روكسي” إلى فترة زمنية وبيئة محددة، نعيشها منذ “تتر” البداية بالأغنية الشهيرة “يا طيرة يا حمامة” التي لحنها الراحل أبو خليل القباني، عام 1893، في أثناء رحلته البحرية العائدة من أميركا إلى سوريا بعدما شارك مع فرقته في احتفال أقيم في شيكاغو في مناسبة مرور 400 عاماً على اكتشاف كريستوف كولومبوس العالم الجديد.
وكانت فرقته تضم الفنانة أستيرا الحكيم الملقبة بـ”طيرة”، التي تؤدي شخصيتها منى واصف، فيما قامت بغنائها المطربة السورية ليانا شاماميان، بإحساسها المفعم المليء بالسعادة والشجن، ليضفي روح الرومانسية الخاصة بتلك العوالم الحالمة التي تتناغم بين ثنايا الأحداث، المليئة بالشخصيات والمحاور والحكايات المتنوعة، واستنباط بعض المؤشرات في تداخل مذهل بين الخيال والحقيقة.
“ليالي روكسي” تنعم بعالم استثنائي يجمع بين حالة الامتزاج بين الفن والحب، في حالة توحد في كل تفاصيلها.
“الحب مثل علم الفلك لا يمكن تفسيره”، مقولة إحدى بطلات مسلسل “ليالي روكسي” تفسر نسيج القصص الاجتماعية، المرتبطة بمصائر أبطال المسلسل، لكل منها حكايته.
استطاع المخرج محمد عبد العزيز، تطويع أدواته للكشف عن تفاصيل الإعداد لأول فيلم سينمائي سوري، مقدماً توليفة جمالية بصرية بتغريدة شارحة للمجتمع الدمشقي، بكل أطيافه، كاسراً الصورة النمطية لمسلسلات البيئة الشامية.
مزج المخرج التفاصيل التاريخية بالبيئة والحكايات الفانتازية عن تلك الحقبة، بسلسلة من الحكايات البسيطة مع رصد الصراع السوري الفرنسي.
الصراع العربي الفرنسي
استثمر محمد عبد العزيز، العامل الزمني، ليصوغ إسقاطاته عن نظرية المؤامرة من خلال الصراع العربي الفرنسي بذلك الزمن. وقدم انفتاح المجتمع الدمشقي النوعي ودعمه للقضايا الفنية بكاريزما القبول النفسي الجماهيري لتقسيم الحارات الدمشقية وكبار تجارها وأهلها، التي تربطهم حميمية ترسم دراما تحول أصحابها إلى أبطال لمفهوم الرجولة والقوة الذي يجسدها أيمن زيدان بشخصية “السيد عطا”، ربّ العائلة الوطني، صاحب المكتبة، الذي يملك رؤية تنويرية واضحة ووطنية كبيرة.
وفي المقابل، يعاني على المستوى الشخصي والعائلي في تقلبات وأحداث دراماتيكية، بسبب حبه “نظلي” المحامية، ويدخل في صراع مع نقيضه علي طول الخط عبد الفتاح مزين “فرزات ” المتعامل مع سلطات الانتداب الفرنسي، ويكرهه أهالي الحارة. المعضلة الدرامية هي إن ابن الثاني “نشوان” يحب ابنة عطا غريم والده.
يستعرض سيناريو المسلسل تكوين الأهالي، الذين يميلون بالفطرة إلى الحياة العائلية المحافظة والمنغلقة، ومع ذلك يتماهوا مع الفن والسينما.
اهتم المسلسل بجوهر الدراما في الأحداث، والقدرة على التعبير عن المشاعر المختلفة، والمضادة بين الوفاء والبطولة والخيانة. عبّر عن التناقض بين حالة الحزن والقهر، والتسلط والجبروت. استطاع أن يترجم تاريخ دمشقي فني هام، ليشكل حالة خاصة لا تشبه أي عمل آخر، وحالة صدق مع مضمون الفكرة التي يقدمها.
نمط العيش البسيط
عرج المخرج محمد عبد العزيز بين الحين والآخر، إلى حكايات الإخاء والمحبة والشهامة والتكافل الاجتماعي وإحياء الطقوس والعادات والتقاليد ونمط العيش البسيط، وفي ظل حبكة يستلهم المخرج بعضها من أحداث حقيقية، وبعضها من نسج الخيال.
تركت هذه الشخصيات تأثيرها الكبير على الجمهور. مثل رنا ريشة صاحبة شخصية “كوكب”، وشادي الصفدي “بلبل”، وإبراهيم الشيخ “نشوان” وغيرهم، والرائع إن المخرج لم ينشغل عن الحبكة الدرامية بالتفاصيل التطريزية في البيئة الدمشقية، فقد صنع سرد حكائي، له أبعاد متعددة، تضفي على الحكاية الرئيسية بعداً تشويقياً، يمنحها القيمة الدرامية المشوقة، ومنح الفعل السياسي خلفية غنائية، تمردية، وجذابة، قدمتها شخصية “بلبل”.
البطلة “توتا” الشخصية التي تجسدها سلاف فواخرجي، منذ المشهد الأول تعبر بنا إلى حلم بطولة أول فيلم سوري، وما قامت به لتحقيق الحلم، والشخصيات الهامة التي أثرت فيها.
في البداية نعيش معها قصة حبها مع “نظمي” الشخصية التي يجسدها مجد فضة، لكنها علاقة مبتورة، لسيطرة حلم التمثيل على “توتا”، وعدم تفاعل “نظمي” مع حلمها.
إيمان “توتا” بالفن يكمن في مقولتها: “مستعدة أكون شهيدة الفن، بس أحقق حلمي”. تعمل “توتا” في البداية كفنانة استعراضية ومصففة شعر، ويقبض عليها الفرنسيون لضربها ابن القنصل الفرنسي. وعند خروجها تقرر أن تصبح ممثلة.
الحب والعنف والغضب
الأزياء التي ارتدتها “توتا” كان لها رونقاً يضيف جمالاً للشخصية، فمعظم ألوان الفساتين باللون الأحمر، المرتبط عموماً بالمشاعر التي لا نقدر على التحكم بها مثل الحب والعنف والغضب، لذا كان هذا اللون حاضراً ليؤكد على الطابع الرومانسي والجمال والإصرار لشخصية “توتا”.
تمكنت فواخرجي من خلال إيماءاتها وتعبيرات وجهها وحركة جسمها ونبرة صوتها من تجسيد الشخصية وتعميق أفعالها الداخلية والخارجية. نعيش تجربتها المميزة من خلال الثلاثي “توتا” و”الطيرة” و”المخرج المسرحي عبد الوهاب السعود”، وهي الشخصية التي يقدمها القدير دريد لحام في “ليالي روكسي” حيث يدرب “توتا” على التمثيل.
سلوك شخصيتي منى واصف ودريد لحام خرجتا من دائرة التقليدية، وانطلقا في دروب الإبداع والتميز من الآخرين بمهارتهما، ليكونا ما يقصدانه من الشخصيتين واضحاً، ويصل إلى تفسيرهما الخاص لحل شفرة الاندماج مع الشخصية.
ثمة محاولات لتقديم مشاهد كوميدية من خلال بدري “جوان الخضر” في طريق بحثه عن الممثلة التي تقوم ببطولة الفيلم. كانت تلك الكوميديا الظرفية مستمدة من العلاقات والتفاعلات بين مجموعة من الشخصيات المتكررة التي يقابلها في سياق ثابت من التصرفات والحركات.
حالة الشجن والحلم
موسيقى مسلسل “ليالي روكسي”، قام بتأليفها غالب زيدان. اختار الاعتماد على عمل تراثي، مقدماً جملاً موسيقية معبرة عن حالة الشجن والحلم التي يعيشها المسلسل، لتصبح عنصراً هاماً، لا يمكن إغفاله في نقل الفترة الزمنية التي يدور بها المسلسل، وملتزمة بالسيناريو والفكرة التي يطرحها العمل. مما يؤكد على أهمية وقيمة الموسيقى التصويرية، حيث وظف غالب زيدان موسيقاه لتواكب التعبير عن انفعالات الممثلين.
الصورة كان لها دوراً كبيراً في العمل. لقد صورت المشاهد الخارجية في بساتين دمشق وأحد كهوف جبل قاسيون. وفي منزل مصور الفيلم رشيد جلال صورت المشاهد الداخلية، بتناغم يتناسب مع رؤية العصر الذي دار به المسلسل بشكلٍ خالق للتوصل إلى حلول تكوينية تعبيرية، تحقق المقصود من كل مشهد.
* ناقدة فنية