“الكتاب الأبيض”.. دستور أوروبي لتعزيز الاستقلال العسكري

تسارع الدول الأوروبية لمواكبة التغيرات الجيوسياسية والعسكرية العالمية، من خلال اتفاق القادة على تبني استراتيجية دفاعية موحّدة قدمتها المفوضية الأوروبية للمرة الأولى تحت اسم “الكتاب الأبيض”، بهدف تنسيق جهود الدفاع بين دول الاتحاد الأوروبي، وتعزيز قدراتهم التسليحية لمواجهة أي تهديدات مستقبلية.
ووصف رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، الاستراتيجية الجديدة، في تصريح خاص لـ”الشرق”، بأنها “طريقة أوروبية للسعي إلى تسهيل آلية اتخاذ القرارات لأعضاء الاتحاد الأوروبي” في الجانب الدفاعي.
ويبدو أن قادة أوروبا صاروا على يقين بضرورة الاعتماد شبه الكامل على أنفسهم دفاعياً، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قائلاً في رده على سؤال لـ”الشرق”، إنه “لا يمكن لأوروبا اعتبار الضمانات الأمنية الأميركية أمراً مسلّماً به”، مشدداً على ضرورة “التمتع باستقلالية في قدراتنا الدفاعية، وفي التعامل مع المعدات العسكرية، وهو ما يمثل تقدماً كبيراً”.
وتنص الاستراتيجية، التي أعدها مفوّض الدفاع في الاتحاد الأوروبي، أندريوس كوبيليوس، وكبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد كايا كالاس، على أن “إعادة بناء الدفاع الأوروبي يتطلب استثماراً كبيراً ومستدامًا على مدى فترة زمنية طويلة”، كما تؤكد أن “التحركات الروسية تمثل الدافع الأساسي وراء هذه السياسة الدفاعية الجديدة”.
ويأتي هذا التحرك في إطار مساعي الاتحاد الأوروبي لتعزيز استقلاليته الدفاعية، وتقليل اعتماده على الولايات المتحدة، مع التركيز على تطوير منظومة دفاعية أكثر تكاملاً وقدرة على مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة.
إنتاج الأسلحة واستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا
وتشمل العناصر الأساسية لسياسة الاتحاد الأوروبي الجديدة، تفضيل إنتاج الأسلحة داخل الاتحاد وشركات الدول الثالثة ذات التوجهات المتشابهة، وتشجيع عمليات الشراء المشتركة للأسلحة، وتسهيل تمويل مشروعات الدفاع، والتركيز على المجالات الرئيسية التي يعاني فيها الاتحاد من نقص في القدرات، مثل الدفاع الجوي والقدرة على التنقل العسكري، وتقليص البيروقراطية في استثمارات الدفاع.
وتُحدد الاستراتيجية سلسلة من التدابير الرئيسية لمساعدة أوكرانيا، بما في ذلك توفير 1.5 مليون قذيفة مدفعية، وأنظمة دفاع جوي، ومواصلة تدريب القوات الأوكرانية، وتقديم طلبات من صناعة الدفاع الأوكرانية، وربط أوكرانيا بشكل أوثق بخطط التمويل العسكري للاتحاد الأوروبي، وتوسيع ممرات التنقل العسكري للاتحاد لتشمل أوكرانيا.
أوروبا ومأزق الأمن
تُبرز الوثيقة الدفاعية، التي تتألف من 20 صفحة، تحوّل سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا وأوروبا وحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وتؤكد أنه “لا يمكن لأوروبا اعتبار الضمانات الأمنية الأميركية أمراً مسلّماً به”، مشددة على ضرورة أن تزيد الدول الأوروبية مساهمتها بشكل كبير في الحفاظ على قوة الحلف.
ورغم ذلك، تؤكد الوثيقة أن “حلف الناتو لا يزال حجر الزاوية في الدفاع الجماعي عن أوروبا”، لكنها تُحذر من اعتماد أوروبا المفرط على القدرات العسكرية الأميركية.
وتشير إلى أن هذا الاعتماد “يُشكل خطراً في ظل مراجعة الولايات المتحدة لنهجها، ما قد يدفعها إلى تقييد استخدام هذه القدرات أو حتى وقف توفيرها”.
ماكرون: ضرورة استقلال أوروبا دفاعياً
وقال ماكرون في تصريحاته على هامش قمة المجلس الأوروبي، التي عُقدت الخميس في بروكسل، إنه لا يعتقد أن “هناك مفاهيم عسكرية تتعارض مع مفهوم حلف الناتو”.
وأوضح ماكرون، أنه بالتزامن مع إعلان الاتحاد الأوروبي عن اتفاق الدول الأعضاء على تبنّي “الكتاب الأبيض”، المتعلق باستراتيجية مستقلة للصناعة الأوروبية، فإن “حلف الناتو يُعرّف على أنه قوة تماسك وتوافق، ودائماً ما توجد مفاهيم متعددة، وكما تلاحظون اليوم، هناك مفاهيم عسكرية مختلفة تتبناها الدول الأعضاء”.
وأضاف: “في أوروبا اليوم، يوجد أكثر من عشرين مفهوماً عسكرياً، ومنذ سنوات، تجرأنا على تقديم نصائح متتالية، خاصة في المجلس الأوروبي”، مشيراً إلى أن بلاده رحبت “بمفهوم الاستراتيجية باعتباره حجر الأساس الأوروبي لحلف الناتو”.
وأشار إلى أن الركيزة الأوروبية للحلف “تتعزز بشكل متزايد، هناك من يرى ضرورة أن تتحمل كل دولة مسؤولية حماية نفسها من خلال مفهوم أمني مستقل، بينما يرى آخرون وجوب تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، ومن المهم أيضاً أن نتمتع باستقلالية في قدراتنا الدفاعية، وفي التعامل مع المعدات العسكرية، وهو ما يمثل تقدماً كبيراً”.
وأكد ماكرون أن “هذا لا يُعدّ إضعافاً لحلف الناتو، بل هو تعزيز للركيزة الأوروبية في الحلف، من خلال تقاسم الأعباء والاعتراف بأن على الأوروبيين بذل المزيد من الجهود لضمان أمنهم”.
رئيس الوزراء الهولندي يشرح آلية “الكتاب الأبيض”
وقال رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، رداً على سؤال لـ”الشرق” بشأن طريقة عمل “الناتو” ضمن مفهوم استراتيجية “الكتاب الأبيض”، إنها “الطريقة الأوروبية للسعي إلى تسهيل آلية اتخاذ القرارات لأعضاء الاتحاد الأوروبي، وبالتأكيد لها علاقة لمواصفات الإنفاق (الدفاعي) في الناتو وقدرات (أعضاء الحلف)”.
وبحسب الاستراتيجية الجديدة، فإن إعادة بناء المجمع الصناعي العسكري للاتحاد الأوروبي، تتطلب من الاتحاد “النظر في اعتماد الأفضلية الأوروبية عند تنفيذ المشتريات العامة في القطاعات والتقنيات الاستراتيجية المرتبطة بالدفاع.
“المشتريات التعاونية”
وتؤكد النصوص في “الكتاب الأبيض” للدفاع على أهمية “المشتريات التعاونية” كحل لمعالجة تجزئة سوق الدفاع الأوروبي، مما يمنح الدول الأعضاء قدرة مالية أكبر لإبرام صفقات أكثر فائدة.
كما يقترح “الكتاب الأبيض” أن تتولى المفوضية الأوروبية دور “الهيئة المركزية” لإجراء المشتريات نيابةً عن الدول الأعضاء.
وتتصاعد وتيرة المناقشات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن تعزيز الإنفاق الدفاعي، حيث أصبحت فكرة إنشاء صناديق تمويل مشتركة أكثر واقعية.
وتأتي هذه الخطوة في ظل سعي أوروبا الحثيث لتوفير التمويل اللازم لتلبية احتياجاتها الدفاعية، مع دخول الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الثالث، ووسط دعوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
شراء الأسلحة والاتفاقيات الدفاعية المشتركة
ذكر مسؤولون أوروبيون أن شركات الأسلحة من الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا لن تكون مؤهلة للاستفادة من خطة تمويل دفاعي جديدة للاتحاد الأوروبي بقيمة 150 مليار يورو، ما لم تُبرم دولها اتفاقيات دفاعية وأمنية مع بروكسل.
وضمن التفسيرات التي تحدث عنها مسؤولون أوروبيون في أروقة قمة المجلس الأوروبي، أمام الصحافيين بحضور “الشرق”، فإن الصندوق الأوروبي المُقترح لتمويل مشاريع التسلح سيقتصر على شركات الدفاع التابعة لدول الاتحاد الأوروبي، أو تلك الموجودة في دول “طرف ثالث”، التي وقّعت اتفاقيات دفاعية مع الاتحاد.
كما أشاروا إلى أن الصندوق سيستبعد أي أنظمة أسلحة متطورة تخضع لسيطرة دولة ثالثة من حيث التصميم، أو التي تفرض قيوداً على تصنيعها، أو على استخدام مكوناتها، أو تتحكم في كيفية استخدامها النهائي.
وأكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين ضرورة أن يكون الاتحاد الأوروبي “قادراً على الدفاع عن نفسه في أي مواجهة مستقبلية مع روسيا”.
وأعلنت فون دير لاين عن مجموعة من المبادرات لتعزيز الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وتطوير المجمع الصناعي العسكري، وإعادة تسليح الجيوش، إلى جانب استمرار دعم أوكرانيا. ومن أبرز هذه المبادرات آلية المبيعات الأوروبية، التي تهدف إلى توحيد الطلب الوطني وشراء الأسلحة بشكل مشترك لتعزيز التكامل الدفاعي بين دول الاتحاد.
التمويل الدفاع وهاجس الديون
شددت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، خلال لقائها في بروكسل، على أهمية اتخاذ تدابير تهدف إلى تمويل النفقات المتزايدة في قطاع الدفاع الأوروبي.
وأكدت ميلوني على ضرورة تشجيع مشاركة رأس المال الخاص عبر نموذج الاستثمارات الأوروبية، كما اقترحه الجانب الإيطالي، بالإضافة إلى استخدام أدوات مالية أوروبية مشتركة لا تُثقل كاهل الدول بالديون بشكل مباشر.
وتعارض روما الإفراط في الإنفاق اعتماداً على الولايات المتحدة و”الناتو”، إذ تعتبر ميلوني الحلف الركيزة الأساسية لأمن أوروبا.
وقال أليسيو بيزانو، الخبير في الشؤون الأوروبية، لـ”الشرق”، إن “الحكومة الإيطالية ذات توجه يميني، وتتبنى موقفاً داعماً لحلف شمال الأطلسي، وهو ما يتجلى بوضوح في العلاقة الوثيقة بين ميلوني وترمب”.
ولكنه يعتبر أن هذا الخيار “وضعها في موقف صعب حالياً”، إذ تجد نفسها بين “دعمها للناتو من جهة، ومواجهة تحديات تتعلق بتحقيق قدر أكبر من الاستقلال الدفاعي الأوروبي من جهة أخرى”، لا سيما مع شركائها الأوروبيين، وخاصة المحافظين الذين دعموا وصولها إلى القيادة الأوروبية.
ويرى بيزانو أن “هذا التوازن ينعكس بشكل واضح على السياسة الدفاعية الإيطالية، ما يجعل موقفها معقداً إلى حد كبير”. كما أشار إلى أن “إيطاليا لا ترغب في لعب دور بارز في التمدد العالمي للناتو، لكنها في الوقت ذاته لا تسعى إلى عرقلة أي سياسة دفاعية أوروبية”.
وذكر بيزانو أن “الكتاب الأبيض” يُمثل خطوة بالغة الأهمية لتعزيز التعاون الدفاعي الأوروبي والانطلاق نحو رؤية دفاعية أكثر شمولاً، معتبراً أن “هذه السياسية تُعبّر عن موقف الائتلاف الحكومي الإيطالي الذي يركز على الدعوة إلى السلام بدلاً من تصعيد الحروب وزيادة الإنفاق العسكري”.
ويرى بيزانو أن “الموقف الإيطالي الحالي لا يعيق خطط الإنفاق الدفاعي الأوروبي، بشرط عدم المساس بالأموال المخصصة للدول الأعضاء”. واعتبر أن هذه الانطلاقة تمثل “خطوة مهمة في إطار الاستراتيجية الجديدة لإعادة تسليح أوروبا”.
الصداع الصيني
أوضحت الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية أن التهديدات العسكرية الروسية، إلى جانب تصاعد الأنشطة العسكرية الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تساهم في “تدهور البيئة الاستراتيجية”.
وذكر “الكتاب الأبيض” أن صعود الصين يحمل تداعيات أمنية “ذات طبيعة استراتيجية مماثلة” للتحديات التي تواجهها أوروبا، مشيراً إلى أن نظام الحكم في بكين “يختلف جذرياً” عن قيم الاتحاد الأوروبي.
كما أكدت الورقة أن نهج الصين في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا يهدف إلى “تحقيق التفوق، وفي بعض الحالات، الهيمنة.
ومنذ انتخاب ترمب، اتجهت دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إلى رفع إنفاقها الدفاعي أو تسريع تنفيذ الخطط الموضوعة مسبقاً لزيادته، فيما أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرات تحث الدول الأعضاء على تعزيز الاستثمارات في القطاع العسكري.
ويقدّر المسؤولون أن تحقيق مستوى من القدرات العسكرية يسمح لأوروبا بتعويض معظم القدرات الأميركية، باستثناء الردع النووي، سيتطلب ما بين 5 إلى 10 سنوات من الإنفاق الدفاعي المتزايد.
ويعتقد غالبية القادة الأوروبيين أن الحفاظ على التحالف، حتى في حال تقليص الدور الأميركي أو غيابه، سيكون أسهل بكثير من إنشاء هيكل جديد تماماً. ويعود ذلك إلى تعقيد عملية إعادة بناء أو إعادة التفاوض حول الخطط العسكرية الحالية للدفاع عن القارة، وأهداف القدرات العسكرية، وقواعد الحوكمة، وهيكل القيادة، والمادة الخامسة المختصة في الدفاع الجماعي عن أعضاء الحلف.