إشكالية العلاقة بين السلطة والطائفة العلوية

أحمد عسيلي
انطلقت الأسبوع الماضي أعمال مؤتمر “بروكسل” لدعم سوريا في إعادة الإعمار، بمشاركة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، وقد ألقى وزيرنا الإشكالي كلمة أثارت ردود فعل متفاوتة في الشارع السوري، خاصة إشاراته إلى العلاقة بين السلطة وإحدى الأقليات من جهة، وبين الأغلبية والأقليات الأخرى من جهة ثانية. هكذا قالها دون أي تحديد للمسميات، حرفيًا، “فقد أدت 54 عامًا من حكم الأقلية إلى تهجير أكثر من 15 مليون سوري وسقوط مليون شهيد وقمع الأغلبية والأقليات الأخرى على حد سواء”.
اتُهم وزير الخارجية بعدها أنه تبنى تسمية الحكم العلوي لحقبة الأسد (لم يقلها صراحة)، وأنه تخلى عن دوره كوزير خارجية لكل الشعب، وخاطب العلويين (أو بعضهم) كحكم سابق وليس كمواطنين كاملي الحقوق، ليعود إلى السطح نقاش طويل حول هوية الحكم الساقط في سوريا، ومسؤولية الطائفة عنه.
بداية، يجب أن نشير إلى أن إشكالية العلاقة بين الدكتاتور ومجموعته الدينية أو العرقية ليست حكرًا على العلويين فقط، بل جاءتهم كالقدر المحتوم دون أي اختيار من أبناء الطائفة، فوصول شخص ما إلى السلطة واعتماده على “أناسه” قصة مكررة في دكتاتوريات المنطقة كلها، عاشها السنة من أهل تكريت مع صدام، وقبيلة القذاذفة مع معمر القذافي، ودكتاتوريات كثيرة أخرى، بل ربما تكون حالة العلويين أخف هنا، لأن بشار هرب ولم يتابع الصراع من مناطق طائفته كما كان يتوقع الكثيرون (تابعها غيره)، على عكس صدام الذي وجد في جنوب تكريت، والقذافي الذي ألقي القبض عليه بالقرب من سرت مسقط رأسه.
بالعودة إلى الخلاف في تحديد تلك العلاقة، ولفهم أسبابها بشكل أفضل، يمكننا تفكيكها إلى أربعة خيوط متشابكة في هذه القضية، غالبًا ما نخلط عن قصد أو دونه بينها:
الأول هو خيط واقعي حيادي، يستلزم البحث في تلك العلاقة بشكل نزيه من خلال الأرقام والأحداث المجردة، وهي مهمة الدارسين الأكاديميين الذي يجب أن تتوفر فيهم شروط الحيادية لأبعد حد، ويمكننا أن نعتمد على مراكز أبحاث مستقلة من أجل ذلك، وسنطلق على هذا الخيط اسم الحقيقة.
الخيط الثاني هو طريقة عيش السوريين لتلك الحقبة، طريقة نظرتهم لها وذكرياتهم عنها وحولها ونقاشهم لها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الحقيقي”، فقد ميز أستاذنا في التحليل النفسي جاك لاكان بين الحقيقة والحقيقي (réal et le réalité la)، وشرح بشكل مسهب الرابطة بينهما، فالحقيقة هي تلك الموجودة خارج إطار الذات، أما الحقيقي، فهو ما تدركه الذات عن الحقيقة، ليصبح حقيقتها هي، تعيشه بكل تداعياتها الحياتية، بمعنى آخر، الحقيقي هو الحقيقة بعد وصولها لذواتنا واستقرارها فيه بشكلها الجديد، وبعد التغيرات التي خضعت لها في الجهاز النفسي، فالنفس البشرية بطبيعة الحال ليست مثالية، ويمكن أن ترتكب الكثير من الأخطاء المعرفية في صوغ حقيقتها، أحيانًا يكون الخطأ المعرفي ناتجًا عن خلل في المعلومات المقدمة لنا (وهي كثيرة في الحالة السورية) وأحيانًا يكون الخطأ في استقرائها نتيجة اضطراباتنا النفسية أو ميلنا الذاتي.
بكل الأحوال، لا يمكننا أن ننكر أن معظم، إن لم يكن جميع السوريين، عاشوا حقبة الأسد كحقبة سيطرة طائفة علوية، هذا الحقيقي (بمعنى real le) الذي عاشه الناس على الأقل، ربما لا تكون الحقيقة (réalité la) إذا أخضعناها للدراسة والتحليل.
لكن فكرة أن الساحل كان الخزان البشري الأكبر لعائلة الأسد هي حقيقة، وأن معارضي النظام السابق كانوا ينالون بشكل عام قبولًا بل واحترامًا اجتماعيًا (وإن كان خفيًا) في كل المجتمعات، بينما يتعرضون للنبذ في المجتمع العلوي هي أيضًا حقيقة.
بالمقابل، فإن وجود عدد كبير من المستفيدين والداعمين لهذا النظام من كل الطوائف هي أيضًا حقيقة، ووجود شبيحة ومجرمين سنة ومسيحيين ومن كل الأطياف أيضًا حقيقة.
أما الخيط الثالث، فهو التداعيات النفسية للموقف من تلك العلاقة، وربما أوضحها هذه الأيام هذا الاستقطاب الطائفي الذي وصل إليه المجتمع حتى طبقة النخبة، ووصل للقطيعة في بعض المراحل، وإحساس الخذلان الذي أصاب الجميع، ومطالبة البعض للطائفة ككل بالاعتذار أو إجراء نقد ذاتي، وإحساس البعض بالغبن خاصة المعارضين العلويين، مع هذه البجاحة التي يتعامل بها بعض المؤيدين السنة وإحساسهم بعدم حاجتهم لأي تبرير أصلًا. كل هذا غيض من فيض تلك التداعيات النفسية، وسنعود إليها كثيرًا في الأسابيع المقبلة.
الخيط الرابع، والأهم في موضوعنا هذا، هو الجانب السلوكي، وخاصة سلوك السلطة، وهو ما يلعب الدور الأهم في استقرار المجتمع، ودفعه لاتباع سلوكيات مماثلة، فمهما كانت الحقيقة التي توصلنا لها، أو حقائقنا التي نعيشها، أو حتى وضعنا النفسي، يجب أن تتعامل السلطة بحيادية مع كل ذلك، وتبقى على مسافة واحدة من الجميع، وتجربة العراق ما زالت ماثلة أمامنا، ففكرة اجتثاث “البعث” والتي كانت بأحد الأشكال اجتثاث السنة من المشاركة في الحكم، كانت بداية الانحدار داخل المجتمع العراقي وبداية انتشار الجريمة ومن ثم الحرب الأهلية، بل يمكننا القول إن هذه السياسة كانت مسؤولة عن ظهور “داعش”، وقد تتبع ذلك بشكل منهجي ودقيق الباحث العراقي فالح عبد الجبار في كتابه “دولة الخلافة، التقدم إلى الماضي” فمعظم قيادات “داعش” هم ضباط سابقون في جيش صدام، لقوا دعمًا أو سكوتًا أو تواطؤًا من المجتمع المحلي نتيجة سياسة الإقصاء التي تعرض لها السنة بعد سقوط النظام، وبالتأكيد نحن لا نرغب بـ”داعش علوية” ولا “أبو بكر بغدادي علوي”، لذلك يجب عدم اتباع نفس سلوك القيادة الشيعية المتطرفة التي تسلمت الحكم بعد صدام.
أعتقد أن الشرع والقيادة الحالية واعية لكل ذلك، وتحاول تجنبه، لكن تبقى مهمتنا كمجتمع تذكير تلك القيادة بضرورة التعامل مع الجميع كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات، المجرم فقط من يحاكَم وبشكل فردي، وإلا فإن تجارب الشعوب جميعها تخبرنا أن طريق الانتقام الأعمى هو طريق الهلاك التام للجميع.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي