اخبار تركيا

الغربيون الجدد: تركيا بين موالاة الأمس واستقلال الغد

اخبار تركيا

تناول مقال تحليلي للكاتب والمحلل السياسي التركي نيدرت إيرسانال، تحوّل العلاقة بين تركيا والغرب، خاصة الولايات المتحدة، في ضوء التغيرات الجذرية التي يشهدها النظام العالمي، وصعود التيارات السياسية الجديدة مثل “الترامبية”.

يناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق كيف أن النخب الليبرالية الموالية للغرب في تركيا فقدت قدرتها على تفسير الواقع الجديد، ويرصد المفارقات بين استمرار بعض النخب التركية في التمسك بالنموذج الغربي الكلاسيكي، وبين حاجة تركيا اليوم إلى صياغة مقاربة استراتيجية مستقلة تتلاءم مع التحولات الجيوسياسية الراهنة.

كما يُسلّط الضوء على ضرورة التخلّي عن الأدوات القديمة والمنظومات الفكرية الموروثة، والبدء برؤية جديدة تُراعي مصلحة تركيا في عالم متعدد الأقطاب.

وفيما يلي نص المقال:

يمكنننا أن نُطلق عليهم أيضًا “الغربيين الجدد”، ولكن دعوني أوضح منذ البداية؛ اعتبروا هذا المقال مؤقتًا “مقالا ترفيهيا لعطلة نهاية الأسبوع”. أما إذا اتخذت الأمور لاحقًا منحًى أكثر جدية، فستتخذ كتاباتي هذا الطابع بدورها.

لم أتخيل قط أننا قد نواجه مثل هذه المشكلة، ولا أعتقد أن أحدًا كان يستطيع توقع ذلك. فثمّة “أمريكا” اليوم، لكنها ليست أمريكا التي نعرفها. نحن نعرف ونحب “أمريكا الديمقراطيين” أكثر.

وعندما كان الجمهوريون في تلك الحقبة يصلون إلى البيت الأبيض، كانوا على الأقل يستمرون في تطبيق “سياسات الدولة”، وإذا كانت طبيعة الرئيس نفسه مناسبة، كنا نستطيع التعايش مع الوضع والمضي قدمًا.

كما أن الخبرة الكبيرة التي اكتسبناها إبّان الحرب الباردة هي التي شكّلت نمط تعايشنا هذا لسنوات طويلة. أما بعد عام 1990، فقد دخل الجميع في حالة من الذهول، واستمرت الأمور على هذا النحو لعقدين آخرين، ثم وجدنا أنفسنا فجأة في “حالة من عدم اليقين”.

وحين بدأ “العالم متعدد الأقطاب” أو “النظام العالمي الجديد” الذي يطرح على ألسن الجميع بطريقة تفرغه من معناه، يقوّض أُسس الليبرالية والعولمة،، لم يفهم الغرب بدايةً ما يجري، ثم أنكر، وبعدها تجاهل، ثم غضب، واليوم بدأ يستوعب، وغدًا سيبدأ بالتكيّف.

أما عندنا، فالوضع مختلف؛ إذ لم نصل حتى إلى هذه المراحل بل بقينا عالقين في المرحلة الأولى أصلًا؛ “لم يحدث شيء من هذا القبيل سابقا”. وأولئك الذين ظلوا أوفياء لروح التسعينيات الكلاسيكية، المتمثلة في الولاء للاتحاد الأوروبي وأمريكا، راحوا يشاهدون أمام أعينهم كيف أن الغرب يتفكك ويتداعى، وكان الليبراليون المحليون والعالميون يعانون من متلازمة “تيتانيك”: هذه السفينة لا يمكن أن تغرق، فلنواصل الرقص.

ثم غرقت.

ثم جاء ترامب، فزاد الطين بلّة وأذلهم جميعا. ولا يزال مستمرًا.

ولكن القضية ليست في ترامب أو في مدى صحة أو خطأ سياساته، بل في مدى خطأ العولميين وعدم اكتراثهم بالعالم.

وبالنسبة لأنقرة، فالمسألة تبدو أكثر بساطة: هل ستتوافق سياسات عهد ترامب مع المصالح التركية؟

ما يبدو لنا أو ما نشعر به هو أن هناك أجواء معتدلة، بل وتناغمًا، في العلاقات التركية الأمريكية بين ترامب وأردوغان. ولو خرج أحدهم اليوم وسأل: ما هي النقاط الخلافية الأساسية بين تركيا وأمريكا؟ فسيكون الجواب ببساطة:

أولًا: تنظيم “غولن” الإرهابي.

ثانيًا: تنظيم “بي كي كي/واي بي جي/قسد” الإرهابي.

وثالثًا: قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات، والقضايا التجارية.

ولو أضاف قائلًا: “ها أنتم ترون، كل شيء يتقدم: تنظيم فتح الله غولن قد انتهى أمره، و التنظيم الإرهابي يجري تفكيكه، بل إن التوقعات الراهنة تشير إلى القضاء التام عليه خارج الحدود. أما عقوبات قانون “مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” فثمة إشارات واضحة إلى إمكانية حلها، ويُلاحظ حماس متزايد في ملفات الصناعات الدفاعية، وطائرات F35 وF16. فضلًا عمّا شهدناه في زيارة نتنياهو الأخيرة إلى البيت الأبيض. أليس هذا كافيا؟”

ولكن لا يمكننا اعتبار هذه الملفات قضايا منهية، بل يجب متابعتها بدقة متناهية. وحتى لو كانت واشنطن صادقة بنسبة مئة بالمئة، يجب أن يكون رد فعلنا الطبيعي هو التعامل مع الأمر كما لو كان هناك نوايا خفية. فالشكوك التي رسّختها التجارب المتراكمة مع هذه الدولة قد انغرست في وجداننا وباتت جزءًا من تكويننا السياسي.

ولكن “الصورة الظاهرة” كما هي.

هذه التوصيفات “التقريبية”، قد تثير الكثير من الجدل. ومن جهة أخرى فإن تركيا، في سعيها لإعادة تشكيل علاقاتها مع الغرب — لا تجديدها بل إعادة تأسيسها بالكامل — قد يُتوقع منها أن تُكيّف موقفها المناهض للغرب، والذي تصاعد بسرعة بعد عامي 2015 و2016، ليأخذ منحًى أكثر تقاربًا مع تيار “الترامبية”. فكيف يمكن إنجاز ذلك دون أن يمسّ هذا التوجّه بأدنى قدر سعي تركيا المصيري نحو الاستقلال التام؟

هل يُعدّ هذا “تبعية لأمريكا”؟ أو هل هو شكل من “الغربية” التقليدية التي نعرفها؟ وإن كانت أمريكا والغرب بصدد التحول إلى نموذج جديد، فهل ينبغي على “الغربية” الكلاسيكية الراسخة لدينا أن تخضع لتحول فكري بدورها؟ وهل يكون التكيف من هذا المدخل بالذات؟

إن الفهم الواقعي للسياسة ـ وهو ذاته من مخلّفات المرحلة السابقة ـ ينطلق من مبدأ: “فلنأخذ من العلاقة مع الغرب كل ما يحقق مصالحنا” في علاقات تركيا مع الغرب، غير أن هذا المنهج بات عاجزًا عن مواكبة التحوّلات العالمية الراهنة. فالمواد الأساسية التي بُنيت بها مقاربة “التبعية الأمريكية والتغريب” القديمة، لم تعد صالحة لحمل هذا العبء.فأدواتها ومعرفتها وعاداتها، تنهار في أول اختبار حقيقي.

ما يحدث في العالم أشبه بزلزال، وإن إعادة إدماج العناصر المتقادمة والبالية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مسار التقارب التركي الأمريكي والأوروبي سيكون خطأ فادحًا. فالخطوة الصحيحة تبدأ من الصفر، بصفحة جديدة كليا.

فهؤلاء الذين تمسّكوا بفكرة “انصياع تركيا للغرب”، بنوا على هذا الأساس مصالح مادية ومعنوية، وشيّدوا مكانتهم الاجتماعية انطلاقًا من هذه الحقيقة، وجنوا من خلالها أرباحهم.

وخلاصة القول؛ إذا ما قررت تركيا، في سبيل التكيّف مع الواقع القائم والمقبل في عهد ترامب وفي أوروبا، أن تُقحم في هذه العملية عناصر موروثة من الماضي ـ أشخاصًا ومؤسسات ومراكز تفكير ووسائل إعلام وأوساطًا أكاديمية ودبلوماسيين، أو حتى عسكريين ـ فإنها بذلك تغامر بالوقوع في فخٍ جيوسياسي لطالما أدركته مسبقاً واستعدت له بحذر.

إذ نادرًا ما نجد “موالين لأمريكا أو الاتحاد الأوروبي” لم ينحرفوا عن المسار، ولا يتعلق الأمر هنا بسوء نية من عدمها، بل بطبيعة تكوينهم ذاتها. أما السعي لتيسير مستقبل تركيا ومصالحها عبر بوابة “الوجوه القديمة الموالية للغرب”، فليس إلا تكرارًا لعقلية تسعى لنيل رضا “الغرب المتقادم”. وهو تفكير أجوف لا يقوم على أساس واقعي.

وكما قلنا سابقًا، اعتبروه “مقالا ترفيهيا”، إلا أن لهذا الحديث جانبًا جادًا لا ينبغي إغفاله: فهذه الفئة، في جوهرها، لا تُصنَّف ضمن التيارات “القومية المحافظة”، ولم تكن يوماً كذلك. والأمر نفسه ينطبق على الذين يريدون البقاء قريبين من السلطة في ظل توازنات القوة الراهنة في تركيا، أما في المشهد السياسي الداخلي فإن أصواتهم الانتخابية تذهب إلى جهات أخرى تمامًا. وعندما يُدعون إلى الموائد المستديرة، أو ورش العمل، أو اللقاءات العامة، يكثرون من ترديد عبارات: “نعم يا سيدي، حاضر يا سيدي”، لكنهم ما إن يخطوا خطوة واحدة خارج تلك القاعات حتى ينقلبوا ساخرين محتقرين ومتهكمين.

يقول رئيسنا: “نرى صعود هيكل أكثر حمائية يحل محل النظام الاقتصادي والسياسي النيوليبرالي. ويجري الاستعداد لمرحلة جديدة من الصراع على نطاق واسع جدًا، من التجارة إلى الأمن، ومن الدفاع إلى معدل النمو السكاني. وقد دخل جميع الفاعلين في السياسة الدولية تقريبًا في عمليات بحث جديدة. ولن يكون من المبالغة القول هناك إعصار عنيف قادم سيؤثر على الجميع، صغارًا وكبارًا.”

فهل سنستعين بهؤلاء العناصر لتجنيدهم في هذه المعركة ضد الإعصار العالمي؟

لقد باتت تركيا بالفعل، تمتلك من المقومات الجيوسياسية والاستراتيجية ما يمكّنها من حماية مصالحها بنفسها خلال هذه المرحلة الانتقالية، دون حاجة إلى أي “موالاة للولايات المتحدة ولغرب” — سواء بنسختها القديمة أم الجديدة. كما أن السياق العالمي الراهن يمهّد لذلك؛ فالمشهد التنافسي القائم بين الرباعي: الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، قد ألقى بهذه الفرصة بين أيدي تركيا، والمطلوب الآن أن تُحسن الإمساك به باليد الصحيحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *