سياسات ترمب إزاء أوروبا تُنعش صناعاتها العسكرية

تشهد شركات تصنيع الأسلحة في أوروبا ازدهاراً، في وقت تعيد فيه القارة العجوز النظر في موقفها الذي تبنته بعد الحرب الباردة، والذي يتمثل في تفضيل الاستثمار المحلي على حساب الإنفاق العسكري، وفق صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية.
بسرعة 186 ميلاً في الساعة من على مدرج تورينو في إيطاليا، انطلقت مقاتلتان من طراز “يوروفايتر” Eurofighter، فور خروجهما من خط التجميع، لتشقّا طريقهما فوق جبال الألب المغطاة بالثلوج.
وتصنّع شركة “ليوناردو” (Leonardo) الإيطالية للصناعات الدفاعية “يوروفايتر” الأسرع من الصوت ضمن تحالف مع شركات في بريطانيا وألمانيا وإسبانيا.
أوروبا والولايات المتحدة
وتوقعت “نيويورك تايمز” أن تشتري دول أخرى هذه المقاتلة مع توجّه أوروبا نحو تعزيز دفاعاتها الذاتية في ظل الحرب التجارية التي يشنَّها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ومطالباته بأن تتوقف أوروبا عن الاعتماد على الولايات المتحدة في ضمان أمنها.
وشهد الطلب على الأسلحة في أوروبا قفزة كبيرة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، ولا يزال مرتفعاً حتى الآن. وبينما تنتج أوروبا المزيد من الأسلحة، وبمواصفات أفضل، فإنها تسعى كذلك إلى بيع منتجاتها على نطاق أوسع في السوق العالمية.
يُمثّل هذا التوجه الجديد نحو إنتاج الأسلحة دليلاً على تحول جيلي أوسع نطاقاً في القارة التي قلَّصت جيوشها بعد الحرب الباردة، لصالح الاستثمار في قطاعات اجتماعية، بحسب “نيويورك تايمز”.
مستقبل مقاتلات يوروفايتر
وقال جانكارلو ميزاناتو، أحد كبار مسؤولي “ليوناردو”، والرئيس التنفيذي السابق لتحالف “يوروفايتر”، حتى ديسمبر الماضي، للصحيفة إن العداء الذي تبديه إدارة ترمب تجاه أوروبا من شأنه أن يشجع المزيد من الجيوش على شراء أسلحة أوروبية.
وتدرس بولندا وتركيا بالفعل صفقات بمليارات الدولارات لشراء طائرات “يوروفايتر”، المعروفة باسم “تايفون” Eurofighter Typhoon، بدلاً من توسيع أساطيلهما من الطائرات الأميركية، كما تقول “نيويورك تايمز”.
وأضاف ميزاناتو: “الأمر يتعلق بمدى نجاح المنتجات، وبكيف تساهم التكنولوجيا في نجاحها بالأسواق”، واصفاً الوضع الراهن بأنه “عصر نهضة” لمقاتلات “يوروفايتر”، بفضل تحديثات ستحافظ على تفوقها حتى عام 2060.
وتابع بالقول: “بالطبع هناك عوامل جيوسياسية، والتي تتأثر بشكل واضح بترمب”.
وقبل أن يبدأ ترمب فرض رسوم جمركية “عقابية” على دول العالم هذا الشهر، كانت أسهم شركات الدفاع الأوروبية تسجل أداء قياسياً، جزئياً لأن المؤسسات الاستثمارية، التي طالما تجاهلت هذا القطاع، بدأت تعيد النظر في مواقفها، حسبما ذكرت “نيويورك تايمز”.
وقفز مؤشر “ستوكس يوروب توتال ماركت إيروسبيس آند ديفنس”، الذي يضم كبار مقاولي الدفاع الأوروبيين مثل “ليوناردو” و”راينميتال” و”بي إيه إي سيستمز”، بنحو 24% منذ بداية العام، في حين خسر مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” أكثر من 10%.
الرسوم الجمركية وقطاع الدفاع
ورغم أن حملة الرسوم الجمركية التي يقودها ترمب هزَّت ثقة المستثمرين في معظم القطاعات تقريباً، يرى محللون أن قطاع الدفاع “آمن”، لا سيما في ظل الضغوط السياسية لإعادة تسليح أوروبا.
وفي مارس الماضي، أعلنت المفوضية الأوروبية عن خطة واسعة لزيادة الإنفاق الدفاعي بقيمة 840 مليار دولار، منها 165 مليار دولار على شكل قروض. كما كشف البنك الأوروبي للاستثمار عن خطط لمضاعفة تمويله لمشروعات الأمن والدفاع، وتوسيع نطاقه ليشمل تمويل المعدات العسكرية.
وأثار ذلك اهتمام المؤسسات الاستثمارية، ومنها صندوق التقاعد الحكومي العالمي النرويجي، الذي يُعد أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم. وهذه المؤسسات، التي ظلّت لفترة طويلة تتجنب الاستثمار في شركات صناعة الأسلحة، باتت تعيد النظر في قيودها، وفق “نيويورك تايمز”.
وقال ستيفن إم. ديفيس، كبير الباحثين في برنامج إدارة الشركات بكلية الحقوق في جامعة هارفارد، للصحيفة: “ما دفع إلى هذا التحول، برأيي، هو تردد إدارة ترمب الواضح في دعم أوروبا عسكرياً”.
وأضاف ديفيس: “عندما يتغير الرأي العام، فإن مجتمع المستثمرين من المرجح أن يتغير كذلك”.
ويجسّد هذا التحول تغييراً كبيراً في كيفية تعامل العديد من المستثمرين مع صناعة الدفاع في أوروبا، فبعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991، عمدت الحكومات الأوروبية على تقليص جيوشها، ووجَّهت استثماراتها إلى صناديق التقاعد، والرعاية الصحية، والتعليم، والمشروعات البيئية، وأولويات اقتصادية أخرى، أعتُبرت آنذاك أهم من صناعة الأسلحة.
وعلى مدى عقود، حظرت العديد من صناديق التقاعد الأوروبية الاستثمار المباشر في شركات السلاح التي تنتج أسلحة مثل القنابل العنقودية، والأسلحة الكيميائية، والنووية، والبيولوجية، والألغام.
الحرب الروسية الأوكرانية
لكن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، طالب حلف شمال الأطلسي (الناتو) الحكومات والبنوك والصناديق الخاصة بالاستثمار في الصناعات الدفاعية، والمساعدة في تسريع إنتاج الأسلحة، ومنع تمدد الحرب إلى عمق أوروبا.
وقال ينس ستولتنبرج، أمين عام الناتو حينها، في ديسمبر 2022: “من الأفضل دائماً الاستثمار في الصحة، والبنية التحتية، والتعليم”. لكنه أضاف: “الحقيقة أن السبيل الوحيد للحفاظ على السلام هو الاستثمار في الدفاع”.
وكان صندوق التقاعد الفنلندي “فارما” من أوائل من خفَّفوا قواعده بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحتى قبل انضمام فنلندا رسمياً إلى الناتو عام 2023.
وبات الصندوق، وفق شروط معينة، مستعداً للنظر في الاستثمار بشركات أسلحة إذا لم تتجاوز مبيعات الأسلحة المثيرة للجدل، مثل القنابل العنقودية، نسبة 5% من مبيعاتها الإجمالية.
وقالت هانا كاسكيلا، نائبة رئيس “فارما” لشؤون الاستدامة والاتصال، للصحيفة الأميركية: “لا توجد قيود على الأسلحة التقليدية، طالما أنها تُستخدم بشكل أساسي للدفاع عن السيادة ومنع الصراعات”.
أما صندوق “أكاديميكربنشن” الدنماركي، فهو أيضاً يعيد النظر في قواعده بشأن الاستثمار في شركات السلاح، لكن يبدو أن ترمب أكثر تأثيراً عليه من روسيا.
ويخدم هذا الصندوق، الذي يبلغ 65 عاماً، شريحة واسعة من الأكاديميين الحاليين والمتقاعدين في البلاد، طالما فضَّل الاستثمار في شركات تتمتع بسجل قوي في مجالات المناخ وحقوق الإنسان، لكن أعضاء الصندوق أصبحوا في الآونة الأخيرة أكثر ميلاً إلى الاستثمار في القطاع العسكري، بحسب “نيويورك تايمز”.
جرينلاند وأولوية الدفاع الوطني
وقال ينس مونش هولست، الرئيس التنفيذي لصندوق “أكاديميكربنشن”، الذي يدير أصولاً بقيمة 24 مليار دولار تقريباً: “في فبراير، تغيَّر كل شيء”، مشيراً إلى تهديد ترمب بمصادرة جزيرة جرينلاند، الإقليم الدنماركي شبه المستقل، قائلاً: “كان ذلك خبراً صادماً بالنسبة للدنماركيين”.
وبالنسبة لبعض المستثمرين، كانت تلك اللحظة التي تقدمت فيها مسألة الدفاع الوطني على قضايا المناخ باعتبارها التهديد الأكبر. لكن أوروبا ستحتاج، إلى جانب الأموال، إلى إرادة سياسية لتعزيز قدراتها الدفاعية، وفقاً للصحيفة.
وأشارت “نيويورك تايمز” إلى أن معظم كبريات شركات الأسلحة الأوروبية مملوكة جزئياً للدول، ولكل حكومة أولوياتها وإنفاقها وقوانينها واستراتيجيتها الدفاعية الخاصة، ما أثار حالة من التشرذم بين الشركات المحلية التي تنتج كميات محدودة نسبياً من الأسلحة، وبتكلفة مرتفعة.
وبحسب معهد “بروجل” الاقتصادي في بروكسل، يتراوح سعر مدفع “هاوتزر” ذاتي الدفع من عيار 155 ملليمتراً المصنّع في أوروبا، بين 6 و19 مليون دولار، بينما يقل سعر نظيره الأميركي عن مليوني دولار.
ويراقب المحللون ما إذا كانت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب ستؤدي إلى ارتفاع أسعار الصلب والنحاس والمعادن الأخرى اللازمة لبناء المعدات العسكرية.
وكان التحالف الرباعي الذي ينتج طائرات “يوروفايتر” قد أنشئ في ثمانينيات القرن الماضي لتجميع موارده بدلاً من التنافس. واليوم، تحلّق هذه المقاتلات في تسع دول.