“اختاروا فرنسا”.. مشروع ماكرون لجذب الباحثين يواجه تحديات

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، برزت خلافات عدة بين باريس وواشنطن، على غرار الرسوم التجارية الأميركية، والحرب الأوكرانية الروسية، ولكن هذا الخلاف أخذ بعداً جديداً يتمثل في “حرب الأدمغة” والتنافس على استقطاب كبار العلماء والباحثين.
وحدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخامس من مايو المقبل، موعداً لبدء استقبال الباحثين من جميع أنحاء العالم، ودعاهم لاختيار فرنسا “كوجهة”، معتبراً أن الأبحاث في بلاده “تشكل أولوية”، وأن “الابتكار ثقافة”، و”العلم أُفق لا حدود له”.
وأكد ماكرون التزام فرنسا بحرية البحث العلمي ودعمه، علماً أن الفارق بين الرواتب المُخصصة للباحثين في فرنسا شاسع جداً بالمقارنة مع الولايات المتحدة، حيث يحصلون على الملايين من الدولارات سنوياً، ما يجعل التحدي كبيراً لباريس، ومُرهقاً من الناحية المالية.
ومع ذلك، واستجابة لمبادرة ماكرون، أطلقت الحكومة الفرنسية منصة تحمل اسم “اختاروا فرنسا من أجل العلم”، وقدمتها على أنها “خطوة أولى تهدف إلى التحضير لاستقبال الباحثين الدوليين”، لاسيما الأميركيين، بعد قرارات ترمب بخفض أو تعليق المساعدات المالية عن عدد من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مثل جامعة هارفارد ومركز “أم دي أندرسون” للأبحاث السرطانية، وغيرها من المراكز العلمية.
تعزيز دور مراكز الأبحاث
تتيح المنصة للجامعات الفرنسية تقديم مشاريع لتعزيز دور مراكز الأبحاث، مع التركيز على مجالات حيوية، مثل أبحاث الصحة، والمُناخ والتنوع البيولوجي، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، والزراعة والطاقة منخفضة الكربون، والأنظمة الرقمية.
وهذا التوجه، بحسب باحثين ومراكز أبحاث علمية فرنسية، يواجه صعوبات كبيرة. وقال البروفسور بيار كاباش، من مركز أبحاث اللقاحات في فرنسا، ورئيس لجنة تقييم هذه الأبحاث إن “المبادرة جيدة ومنفتحة على تطوير الأبحاث، إلا أنها تحمل طابعاً سياسياً”.
وأضاف، في تصريحات لـ”الشرق”، أنها “أثارت أسئلة عدة، أبرزها كيفية تأمين الميزانيات الكبيرة للأبحاث، مع أننا نُرحب بمشاركة ومجيء الباحثين من أنحاء العالم، لا سيما الأميركيين”.
واعتبر البروفيسور كاباش أن “المعضلة تكمن في كيفية دفع مراكز الأبحاث أو الجامعات لرواتب الباحثين التي كانوا يتقاضونها في الولايات المتحدة”.
الأولوية للباحثين الفرنسيين والأوروبيين
واعتبر باكاش، أن هناك “نقصاً كبيراً في مراكز الأبحاث الفرنسية”، مضيفاً: “ما يجب أن تقوم به الحكومة هو وضع الميزانيات لاستقطاب هذه الأدمغة، وليس فقط من الولايات المتحدة، إذ أن هناك الكثير من الباحثين الفرنسيين والأوروبيين يعملون في الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء أول من يجب الترحيب بهم في مراكزنا “.
ووضعت الحكومة الفرنسية مشروع قانون في موازنة عام 2025، تقدمت به وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، يهدف للمحافظة على تشجيع البحث ودعم الجامعات بميزانية تبلغ 26.7 مليار يورو (30.5 مليار دولار أميركي). مع العلم أن فرنسا تحتل المرتبة السابعة عالمياً، بين الدول المضيفة للطلاب الدوليين.
وبحسب وزير التعليم العالي والبحث العلمي فيليب بابتيست، فإن “فرنسا قادرة على استقبال مئات الباحثين من مختلف أنحاء العالم”، متوقعاً أن تبلغ تكلفة استقبال باحث رفيع المستوى مع فريقه الصغير، حوالي مليون يورو على مدى ثلاث سنوات، وهي الفترة التي يستغرقونها للاستقرار واستكمال أبحاثهم.
وقدّر بابتيست أن عدد من يمكن الترحيب بهم في فرنسا بـ”المئات”، علماً أن ذلك سيزيد الأعباء على ميزانية الوزارة، إذ سيكلف الحكومة مئات الملايين من اليورو.
ولكن الوزير اعتبر أنها “جهود جماعية”، قائلاً إن “الأصح هو بذل الجهود على المستوى الأوروبي، ولهذا السبب في الخامس من مايو المقبل، ستكون أوروبا الأبحاث والعلوم حاضرة في باريس مع رئيس الجمهورية”.
ورأى بابتيست أن إيقاف برامج البحث العلمي “لا يؤثر على الولايات المتحدة فحسب، لأنها برامج تعاون دولية، ولها تأثير كبير محتمل على البحث العلمي في العالم”.
وأضاف بابتيست أنه عندما يتم خفض ميزانية المعاهد الوطنية للصحة بنسبة 40%، أو إلغاء الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فسينعكس ذلك سلباً على حياة الفرنسيين والأوروبيين والأميركيين وكل البشرية، مشيراً إلى أن لهذه الوكالات علاقات قوية للغاية مع الأوروبيين والفرنسيين.
قطع التمويل يهدد مراكز الأبحاث
الباحثة يمنى عطية، رئيسة فريق أبحاث السرطان في “جامعة إكس مارسيليا” بجنوب فرنسا، والتي عملت لسنوات في مركز “أم دي أندرسون لأبحاث السرطان” في ولاية تكساس، قالت لـ”الشرق” إنه “في السابق كانت هناك موازنات كبيرة في الولايات المتحدة، وليس كما هو الوضع حالياً”، مضيفة أن “هناك باحثين يتم طردهم بين ليلة وضحاها”.
وأضافت عطية أن”هناك مراكز أبحاث مُعرضة للخسارة وحتى للإقفال.. وهي تعاني أصلاً من خسائر، مثل مركز الأبحاث السرطانية أم دي أندرسون في مدينة هيوستن (تكساس)”، مشيرة إلى أنه “خسر حوالي 100 مليون دولار نتيجة توقف المساعدات، ولكن القطاع الخاص بالأبحاث كان يعوض ذلك بالمزيد من توظيف الباحثين”.
واعتبرت عطية أن “الوضع حالياً ليس بالسهل في فرنسا.. ولا إمكانية لاستيعاب الكم الهائل من الباحثين”، مشيرة إلى “نقص وغياب التمويل رغم قيام مؤسسة التمويل الأوروبية للأبحاث، أكبر ممول للأبحاث، بدعم المبادرة”، ولكن هذا الدعم “محصور بالمراكز التابعة والمشاركة في هذه المؤسسة”.
وكان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند، قدّم بصفته نائباً برلمانياً، مشروع قانون يهدف إلى إنشاء وضع محدد للاجئ العلمي، وذلك قبل أيام قليلة من دعوة ماكرون.
وذكرت الوكالة الوطنية الفرنسية للأبحاث أن باريس “ملتزمة بالتصدي للهجمات على الحرية الأكاديمية في جميع أنحاء العالم”، في إشارة إلى الضغط المتزايد على “الحريات الأكاديمية” في بعض الدول، على غرار الولايات المتحدة.
وتزامنت خطوة ماكرون مع إعلان عدد من الباحثين الأميركيين نيتهم مغادرة الولايات المتحدة، بسبب الضغوط التي تمارسها عليهم إدارة ترمب، ولاسيما فيما يتعلق بخفض الإنفاق في قطاعات عدة، كالصحة والبيئة.
ووقع ترمب أمراً تنفيذياً يُلزم الجامعات الأميركية على الإفصاح عن أي هدايا تحصل عليها هذه الجامعات من دول أجنبية.