“كمزار العُمانية” من جغرافيات لغوية إلى قاموس وأبجدية

إن صادفت كمزارياً في أي منطقة من العالم، ستعرف أنه من قرية كمزار الواقعة في أقصى شمال عُمان قرب إيران، فكل من يتحدث الكمزارية، ينتمي إلى البلدة نفسها.
بقيت الكمزارية حتى عام 2024 لغة شفاهية لا حروف أبجدية لها، فهي مستمدة من جغرافيات لغوية عدّة، مثل الهندية والفارسية والإنجليزية والعربية وبعض الألفاظ التركية، تداولتها الألسن عبر مئات السنين، فتبلور نمط لغوي مستقل بها، يتحدثه نحو 5 آلاف عُماني فقط.
استعمار اللغة
لكن كيف وجد اللغويون أبجدية للكمزارية، تجيب الباحثة الأكاديمية مكية الكمزارية، المهتمة بتاريخ البلدة، وتتابع ملفها اللغوي بدأب، وذلك في لقاء خاص مع “الشرق” في مسقط، فتقول: عندما سألتُ أحد شيوخ اللغة في عُمان عن إمكانية اختيار الأحرف الإنجليزية، حذرني من خطورة الأمر بكلمتين: سيستعمرون لغتكم..
بعدها بدأنا العمل مع فريق مختصّ، وثّقنا اللغة بحروفها، واحتجنا إلى استحداث حروف تليق بلغتها، وصمّمنا كيبورد خاص بالأحرف الكمزارية.
وعما إذا كانت الكمزارية تُكتب بالأحرف العربية، أوضحت أنها تختلف عن الأبجدية العربية، وإن كانت تضم كلمات عربية خام وأصيلة بعضها لم نعد نستخدمه اليوم، وأنها تضم 25 حرفاً بأصوات متعدّدة، لكن أحرف العين والشين والظاء غير موجودة.
متى نشأت الكمزارية؟
تقول الباحثة إن السبب الأول في نشأة هذه اللغة هو سبب جغرافي، لكن ليس لدينا أدلة علمية على كيف ومتى نشأت هذه اللغة، كوننا نحن أبناءها ورثناها وعشنا مع من يتحدثون بها. هذه اللغة نشأت في كمزار قطعاً، وهذا ما نعرفه، حيث تضافرت عوامل ثقافية وحضارية عدّة.
ربما الخوف من اندثار اللغة كما شهدنا نماذج عبر التاريخ، دفع المختصّين في السلطنة إلى بذل جهود مضاعفة لإنقاذ الكمزارية، وهذا ما أكدته الباحثة حول سعي السلطنة لإدراج الكمزارية ضمن اللغات الرسمية على قائمة اليونسكو، الذين اشترطوا وجود قاموس لها، والآن تحقّق ذلك، ولم تستبعد إدراجها في المناهج الدراسية في عُمان خلال السنوات المقبلة.
وعن التعدّد اللغوي الذي تتميّز به السلطنة، أشارت إلى أن الكمزارية تنتمي إلى العائلة اللغوية الموجودة في السلطنة وعددها سبع لغات هي: الشحرية والمهرية والبطحرية والسواحلية والبلوشية واللواتية والكمزارية. وأشارت إلى أن هذه كلها لغات وليست لهجات، وكلها لا تُدرّس في عُمان، واللغة الوحيدة التي ظهرت بشكلها الموثّق وذات الجودة الأكاديمية ولوحة مفاتيح، هي الكمزارية.
ولفتت إلى أن هناك جهود سابقة لتوثيق اللغة المهرية، قامت بها الباحثة البريطانية جانيت واتسون، المتخصّصة باللغات الجنوبية، فهي سخّرت عملها لتأصيل اللغة، وأصبحت متخصّصة بواحدة من أندر اللغات في شبه الجزيرة العربية، أي المهرية.
“كم زار”
اسم كمزار في الأصل، اشتق من كثرة زوّارها من التجار والبحّارة “كم زار”، فهي تقع على مدخل مضيق هرمز، وكانت السفن التي تدخل إلى الخليج، لا بد أن تتوقف فيها كي تتزوّد بالماء العذب، فينشأ بين أهل القرية والتجّار نوع من التبادل السلعي، هي تزودّهم بالأسماك، وخصوصاً التونة الذي تشتهر به حتى اليوم، وهم يعطونها الفواكه الطازجة التي يحملونها من بلدانهم.
سر البئر
لكن ما قصّة البئر الذي جذب البحّارة إلى القرية؟ تشير الباحثة إلى أن كمزار كانت أكبر قرية بحرية مأهولة بالسكان منذ القدم، تحيط بها الجبال، وهي أقرب إلى التنور من الأعلى، وشكّلت ملاذاً آمناً للسفن التجارية وللبحّارة عبر التاريخ، بسبب موقعها الذي يمنع وصول الأمواج الكبيرة.
لكن بئر الماء العذبة فيها، شكّل في قديم الزمان نقطة تحوّل في تاريخ كمزار، فهو جعل منها معبراً ومغناطيساً يجذب البحّارة إليها، الذين كانوا يتوقّفون في رحلاتهم للشرب منه، فضلاً عن موقعها الآمن من تقلبات الموج، وذلك كله ساعد كي تكون عرضة لاحتكاك حضاري وثقافي، وإن كان سطحياً، لكنه متكرر ومكثّف، ما سمح بتداخل الأفكار واللغات، ومعروف أن كل من يدخل إلى مكان يترك شيئاً من حضارته ويأخذ منه شيئاً بالمقابل.
هكذا كان الآتي من البصرة، والمسافر من الهند، والقادم من أفريقيا، يتوقف في كمزار ليوم أو يومين كي يرتاح، ويتبادل مع أهلها السلع، وهذا أسهم في التمازج الثقافي واللغوي. وفي عهد السلطان قابوس رحمه الله، أدخل إلى القرية الخدمات والكهرباء والتعليم، وهذا ساعد على استقرار السكان فيها وعدم الهجرة منها.
الأدب الشعبي
وعن المشتركات بين الأدب الشعبي في عُمان وقرية كمزار، أوضحت أن هناك الكثير من المشتركات بين الأدب الشعبي في عُمان والحكايا الموجودة في كمزار، والحكاية هي الشكل الوحيد الذي تحتفظ به اللغة الكمزارية، أما الشعر فهو باللغة العربية المروية.
ولفتت إلى أن الحياة الاجتماعية بسيطة هناك، لكن توجد مشروعات كبيرة تنهض في القرية، والقرية هي جزء من مدينة خصب، وهي مدينة كبيرة وتاريخية.
وأشارت إلى أن المعجم البحري غني في كمزار، يزخر بمفردات البحر، مثل أنواع السمك وأنواع الرياح، وأدوات الصيد، وأنواع السفن والمضائق، وهناك 2 بالمئة فقط من أهلها جبيلون، يضم معجمهم الرعي والزراعة والعسل والأعشاب الطبية.
وقالت إن أهل كمزار لديهم رحلتين إلى خصب سنوياً في الصيف والشتاء، وبحكم الظروف الحفرافية، فهم يشتغلون طوال فترة الصيف بالبحر، وينزلون إلى خصب للراحة لمدة شهرين، وكل كمزاري لديه بيتين واحد في كمزار وآخر في خصب، كي يمضي فيه مدّة شهرين هي “إجازة البحر” كما نسميها.
وختمت مكية الكمزارية قائلة: هذه المدن التي تكون ملتقى للحضارات، تجعل من سكانها أناس منفتحين يرحبون بالغريب، وكأنهم بوابة مشرّعة لاستقبال الضيف أياً كان، بما يحمله من ثقافة وحضارة وانتماء، وهذا عززه وجود بئر ماء عذبة في القرية، وكلها عوامل تفسّر أسباب نشأة هذه اللغة البسيطة والجميلة.