“فتيل جرمانا” يكشف هشاشة التوازنات الجديدة

– خالد الجرعتلي
أعاد سقوط النظام السوري تشكيل خارطة السلطة على المستويين الأمني والاجتماعي، وبرزت مدينتا جرمانا وصحنايا كنموذجين لتحولات ما بعد الدولة المركزية الشديدة التي فرضها الأسدان، إذ تتقاطع الهويات الطائفية مع صراعات النفوذ المحلي، وتُختبر فيها محاولات بناء بدائل مدنية وأمنية من داخل المجتمع ذاته.
وفي غياب السلطة المركزية التي لا تزال الإدارة السورية الجديدة تسعى لوضع أسسها، لم تنشأ فراغات فحسب، بل ظهرت أشكال جديدة من التنظيم المحلي، اصطدمت بأهداف الحكومة الصارمة بنزع سلاح المجموعات العسكرية المحلية.
ومع أن بعض محاولات فرض الاستقرار نجحت بفرض تهدئة نسبية، أنتجت في أماكن أخرى أحداثًا تركزت حول استعراض القوة، وخطابات التعبئة الطائفية، كاشفة عن هشاشة التوازنات التي نشأت بعد سقوط النظام.
توافقات هشّة
مع سيطرة فصائل المعارضة المسلحة تحت لواء “إدارة العمليات العسكرية” على العاصمة السورية دمشق، معلنة عن سقوط النظام السوري وفرار بشار الأسد إلى روسيا، توقفت العمليات العسكرية، وصارت السلطات الجديدة تدخل القرى والمدن باتفاقيات مع سكانها، وفصائلها المحلية.
وفي مدينتي جرمانا وصحنايا، انتشرت مجموعات عسكرية على مر السنوات الماضية، كانت تتبع إداريًا لـ”الدفاع الوطني” الرديف للقوات الحكومية للنظام السابق، لكنها أخذت طابعًا محليًا أكثر من كونها فصيلًا عسكريًا مواليًا للحكومة، وتدخلت مجموعات من هذه الفصائل لطرد قوات النظام من مناطق تمركزها تزامنًا مع تحركات “إدارة العمليات العسكرية”.
اتفقت السلطات السورية الجديدة مع الفصائل في جرمانا تزامنًا مع دخول المعارضة لدمشق، وأعطتها بعض الخصوصية، مع مهلة لتسليم أسلحتها والانخراط بوزارتي الدفاع والداخلية، لكن رغبة الحكومة اصطدمت بممانعة من هذه الفصائل التي كانت امتدادًا لممانعة الشيخ الروحي للطائفة الدرزية في السويداء، حكمت الهجري.
لاحقًا، شهدت المنطقة توترًا عسكريًا بسبب مشكلة اندلعت بين عناصر من الأمن العام التابع لوزارة الداخلية، ومقاتلين محليين في جرمانا، وانتهت المشكلة بتوافق مع الحكومة التي لاحقت المتورطين بالمشكلة، واستأنفت اتفاقها مع الفصائل المحلية.
ولم يستمر الهدوء طويلًا، إذ اندلعت المواجهات مجددًا في جرمانا، وامتدت لصحنايا التي دخلتها القوات الحكومية على ظهر المدرعات، وسيطرت على المنطقة، وأعادت تنشيط الاتفاق مع فصائل جرمانا، لتسليم أسلحتها والاندماج بالقوات الحكومية.
وفي هذه الأثناء، كان الاتفاق والخلاف يتكرر في معقل الطائفة الدرزية في سوريا، بالسويداء جنوبي سوريا، ولا يزال المشهد يتكرر حتى اليوم.
اتفاق عابر جنوبي سوريا
لم تخرج تجربة جرمانا وصحنايا عن تجربة السويداء، إذ تتخللها العديد من الإشكاليات، فهي كانت أشبه بتجربة الضرورة لا الخيار بالنسبة للحكومة السورية، وفق ما يراه الباحث في مركز “الحوار السوري” عامر الثقال، لافتًا إلى أن هذه الاتفاقيات تندرج في إطار تعاطي حكومة الرئيس الشرع مع قضية الأقليات عمومًا للتوصل إلى حلول سلمية وتدريجية، رغم تعنُّت بعض الأطراف في السويداء وعدم تقديمها طرحًا قابلًا للتطبيق.
ولا يمكن اعتبار أن أحد شيوخ الطائفة الدرزية الثلاثة في السويداء يمثل جميع الدروز، وفق الباحث، لكن شيخي العقل وبعض الجهات التي فتحت قنوات تواصل مع الحكومة السورية، مثل قائد “مضافة الكرامة” ليث البلعوس، لا يريدون الظهور بموقف المناهض تمامًا لكلام الرئيس الروحي للطائفة، حكمت الهجري، لما له من مكانة رمزية عمومًا.
المثقال اعتبر أن عدم تمكن الحكومة السورية من السيطرة بشكل حقيقي على كامل المؤسسات في المناطق ذات الأغلبية الدرزية، انعكس على جوانب عديدة خاصة الأمني، نظرًا لانتشار السلاح بيد جهات لا تخضع للسلطة، ورفضت الانضواء ضمن وزارة الدفاع.
واعتبر أن المناطق التي لم تسيطر عليها الدولة، تعتبر مناطق تغيب عنها المرجعية القانونية أو الإدارية الواضحة، فضلًا عن أن هذه التجارب (السويداء، صحنايا، جرمانا…) تهدد بنماذج الكانتونات المحلية، ما قد يشجع مكونات أخرى على السير في نفس الطريق خاصة مع تعالي بعض الأصوات المطالبة بالحكم الذاتي، كما في الساحل السوري.
وتنظر الدولة لهذه المطالب على أنها تهدد المشروع الوطني الجامع للسوريين، وهنا تبرز أهمية المضي في خطوات تسليم السلاح مقابل ضمانات جدية بالحماية والعدالة، مع خطوات عملية مثل إدماج شباب المكون الدرزي ضمن قوى الأمن العام، وفق الباحث.
وفي 30 من نيسان الماضي، اعتبرت وزارة الخارجية السورية أن الدعوات التي أطلقتها “جماعات خارجة عن القانون”، وشاركت في أعمال العنف على الأراضي السورية، للمطالبة بـ”حماية دولية”، هي دعوات غير شرعية ومرفوضة.
وقالت الوزارة في بيان، إن هذه المناشدات أطلقتها أطراف تعمل خارج إطار القانون السوري، في محاولة واضحة لـ”تدويل” وضع يجب أن يُعالج بشكل حصري ضمن مؤسسات الدولة السورية.
انتهاكات تعقب السيطرة
شكّلت الانتهاكات التي تبعت أي عمل أمني في سوريا هاجسًا أمام بعض المجموعات المحلية المسلحة، وكانت سببًا وجيهًا بالنسبة لها للامتناع عن تسيلم الأسلحة، إذ يعتقد المسؤولون عنها أن تسليم الأسلحة ستعقبه انتهاكات قد ترتكبها القوات الحكومية التي لا يزال ينظر لها حتى اليوم على أنها جزء من فصيل جهادي، وهو ما انعكس جليًا في بيان حكمت الهجري الأحدث، حول أحداث صحنايا وجرمانا.
أمثلة عديدة على هذه الانتهاكات التي قُرئت على أنها تقوم على أساس طائفي بدءًا من الساحل السوري، ووصولًا للجنوب السوري، أحدثها كان في مدينة صحنايا بمحافظة ريف دمشق عندما قُتل رئيس بلدية المدينة برفقة ابنه في أعقاب سيطرة الحكومة على المنطقة.
وذكرت عدة وسائل إعلام محلية منها صفحة “الراصد“، أن خمسة أشخاص أعدموا “ميدانيًا” بعد دخول الأمن العام إلى بلدتي صحنايا وأشرفية صحنايا، منهم رئيس البلدية وابنه، فيما لم تشر للجهة التي نفذت الإعدام.
من جانبه، قال موقع “درعا 24” المحلي، إن مسلحين، لم تشر إلى تبعيتهم، اقتحموا منزل رئيس البلدية حسام ورور وقتلوه وابنه رميًا بالرصاص، بعد دخول الأمن العام.
وظهر ورور بتسجيل مصور، نشرته “الإخبارية السورية” الرسمية، أعقب دخول الأمن العام إلى البلدة، مرحبًا به، وأبدى تعاونه، قائلًا إن الأمن العام دخل إلى البلدة “بكل احترام”.
الباحث عامر المثقال أضاف، خلال حديثه ل، أن قضية انتهاكات القوى الأمنية يتكرر الحديث عنها مع كل عملية أمنية، لكن يبدو أن الحكومة السورية “تمكنت نسبيًا من تقليص حصيلتها، مقارنة بالفترة الماضية”.
وقال الباحث إن حصيلة الانتهاكات قلّت قياسًا مع حجمها في الأحداث التي شهدها الساحل السوري، وشددت الحكومة إجراءاتها مع مواصلة لجان التحقيق أعمالها، وفق الباحث، ما انعكس على الأرض بانخفاض نسبتها.
ولفت إلى أن هناك “حالة من الانضباط” كانت موجودة بين القوات الحكومية في جرمانا وصحنايا، مشيرًا إلى أن بعض الانتهاكات قد تكون وقعت، لكنها “انخفضت بنسبة كبيرة”.
واعتبر أن الحكومة لا تزال بحاجة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات العملية لضبط الأداء الميداني للمقاتلين، مثل إطلاق برامج تدريبية تركّز على قواعد الاشتباك واحترام الحقوق المدنية ورفع الوعي القانوني والسلوكي لدى المنتسبين.
ولاءات وطنية لا عقائدية
خلصت دراسة أعدها الباحثان في مركز “الحوار السوري” أحمد قربي وعامر المثقال، إلى أن العقيدة العسكرية للجيش الجديد في سوريا، يجب أن تكون قائمة على حماية الوطن والمواطنين، بعيدًا عن أي ولاءات خارجية أو أيديولوجيات عابرة للحدود.
واعتبرت الدراسة التي ركزت على الحالة الفصائلية في سوريا بعد الاندماج بوزارة الدفاع، أن الوصول لعقيدة عسكرية تهدف لحماية الوطن يتطلب إعادة تأهيل للمقاتلين بمستويات مختلفة، خاصة على المستويات النفسية والفكرية والأيديولوجية.
ولفتت إلى أنه من المهم التركيز بشكل رئيس على المبادئ العسكرية للثورة، التي يجب أن تدور في فلك مبادئ الثورة العامة بما تتضمنه من قيم الحرية والعدالة والكرامة، فهي بمثابة الفرع عن ذلك الأصل.
ومن أبرز المبادئ التي يجب التركيز عليها، وفق الدراسة، حماية إرادة الشعب السوري في اختيار حكامه من أي تدخل داخلي أو خارجي، والتعهد بعدم استخدام السلاح لفرض أي خيار عليه، وابتعاد الجيش عن ساحة السياسة، ليكون مؤسسة وطنية مستقلة وحيادية ومهنية.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي