اخر الاخبار

رحلة في عقل ترامب (١).. غريزة الثعلب وعقلية التاجر

من أبراج مانهاتن الشاهقة إلى أروقة البيت الأبيض، ومن صخب عالم الأعمال إلى دهاليز السياسة المعقَّدة، لم يكن دونالد ترمب مجرد اسم عابر في سجل الرؤساء الأميركيين. بل كان، ولا يزال، ظاهرة سياسية فريدة قلبت مفاهيم الدبلوماسية التقليدية رأساً على عقب، وأجبرت الجميع على إعادة قراءة قوانين اللعبة.

هو الرجل الذي لم يتردد، مدير الـFBI السابق، جيمس كومي، في تشبيهه بـ”حريق غابة” هائل، بينما رآه آخرون أقرب إلى “طفل في الثانية عشرة يتولى برج مراقبة حركة الطيران”.

ولعل الوصف الأكثر غرابة جاء على لسان المتحدث السابق باسمه، شون سبايسر، الذي استعان بصورة سريالية في كتابه قائلاً: “ترمب يشبه وحيد قرن يركب فوق وحيد قرن يقفز عبر قوس قزح…”، مضيفاً: “بمقدوره إلحاق هزيمة بأي شخص، حتى بنفسه. هو نفعي ولا يهدأ أبداً وله شخصية كاريزماتية، وغريب الأطوار”.

إن مسار ترمب، من وصوله المباغت إلى سدة الحكم، مروراً بخسارته الصاخبة أمام بايدن، وصولاً إلى عودته مجدداً، يشبه بالفعل حبكة فيلم هوليوودي، لكنه في الواقع زلزال حقيقي هزّ أركان المؤسسة السياسية الراسخة في أميركا.

ولكي نفهم هذه “الظاهرة الترمبية”، لا مفر من محاولة الغوص في عقله، واستكشاف “نظام التشغيل” الفريد الذي يحكم قراراته وسلوكياته، وهو نظام يختلف جذرياً عمن سبقوه إلى المكتب البيضاوي.

أسلوبه المتفرد أربك الحلفاء قبل الخصوم، والأصدقاء قبل الأعداء. فمن هو دونالد ترمب حقاً؟ كيف يفكر؟ وعلى أي أساس يتخذ قراراته المصيرية؟ ومن هم اللاعبون المؤثرون في كواليس توجهاته؟

القاعدة الأولى: الحدس أولاً وأخيراً

في كتابه الشهير “فن الصفقة” الصادر عام 1987، كشف ترمب مبكراً عن جزء من فلسفته التي حكمت لاحقاً أسلوبه السياسي. قاعدته الأولى، التي تلخص الكثير، هي: “اتبع حدسك”. إنها ثقة مطلقة بالغريزة الشخصية، تصل حد تجاهل الإحاطات المفصلة والتقارير المطولة، مفضلاً الاعتماد الكلي على بوصلته الداخلية لتوقع ما سينجح، كما يروي مايكل وولف في كتابه “نار وغضب”.

القاعدة الثانية: براغماتية بلا عواطف

“منعدم العواطف”… بهذا الوصف لخَّص أحد كبار مسؤولي إدارته السابقة جوهر تعامل ترمب مع الأمور. فالقرارات تُتخذ من منظور المنفعة الشخصية البحتة والأنا المتضخمة، وليس بالضرورة بناءً على تحليل منهجي للمصلحة العامة أو اعتبارات عاطفية.

القاعدة الثالثة: صناعة “الحقيقة البديلة”

لعل من أكثر أساليب ترمب إثارة للجدل هو اعتناقه مبدأ “الحقيقة البديلة”. إنه الإيمان بأن الإصرار على رواية معينة، حتى لو خالفت الواقع، يمكن أن يحولها بمرور الوقت وقوة التكرار حقيقةً قائمة بذاتها في نظر الكثيرين.

وقد تجلى هذا بوضوح منذ الأيام الأولى لولايته، حين أصر مسؤولو إدارته على أن حشود حفل تنصيبه كانت الأضخم تاريخياً، رغم أن الصور الفوتوغرافية، بالمقارنة مع تنصيب أوباما مثلاً، كانت تروي قصة مختلفة تماماً.




القاعدة الرابعة: الولاء المطلق… والاستغناء الأبدي

“الولاء المطلق” هو مفتاح البقاء في عالم ترمب، لكنه ولاء يقابله مبدأ “الجميع قابل للاستغناء”. هما وجهان لعملة واحدة في قاموسه. وكما يقول مديرا حملته السابقان، كوري ليفاندوفسكي وديفيد بوسي: “لا شيء يؤلمه أكثر من خيانة شخص يثق به”. ومع ذلك، فإن الثقة والولاء ليسا صكوكاً أبدية.

القاعدة الخامسة: العالم “صفقة كبرى”

“ماذا سأربح؟ وماذا سأخسر؟” بهذا المنطق التجاري البسيط، يتعامل ترمب مع أعقد الملفات السياسية والمفاوضات الدولية. يراها كلها “صفقات” لا بد فيها من رابح وخاسر، مفضلاً تحقيق المكاسب السريعة والملموسة على الانخراط في تخطيط استراتيجي طويل الأمد.

وكما أشار جاريد كوشنر في مذكراته، كان ترمب يفضل دائماً التعامل الثنائي المنفرد مع الدول، اعتقاداً منه أن ذلك يمنحه نفوذاً تفاوضياً أكبر. هذا النهج هو ما دفعه للانسحاب من اتفاقيات دولية محورية كاتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، وفرضه للرسوم الجمركية، مفضلاً دائماً البدء من نقطة الصفر، ولكن بشروطه هو.

القاعدة السادسة: هوس الصورة

لا يمكن فهم ترمب دون إدراك هوسه العميق بكيفية تصويره إعلامياً، فجزء كبير من قراراته يُتخَذ بناءً على تأثيرها المتوقع في نشرات الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي. عقليته القائمة على “فكّر بشكل كبير” تنعكس في هذا الاهتمام المفرط بالصورة؛ ما يجعله يقاوم بشدة الاعتراف بالأخطاء أو تغيير المسار علناً، حتى في مواجهة الحقائق الدامغة.

يروي الصحافي المخضرم بوب وودوارد في كتابه “الخوف” كيف كان ترمب يمضي ساعات يومياً فيما يسميه “وقت الإعلام”، يتابع التغطيات ويتفاعل معها مباشرة، لدرجة أن ما يراه على الشاشة قد يصبح أحياناً أكثر تأثيراً في قراراته من تقارير الاستخبارات أو نصائح الخبراء والمستشارين.

بهذه القواعد الست، نختتم محطتنا الأولى في محاولة سبر أغوار عقلٍ حيَّر العالم، رجل نسج زعامته بخيوط تجمع بين غريزة الثعلب الماكر ومنطق التاجر الذي لا يفهم إلا لغة الصفقات.

ستة مفاتيح رئيسية تبدو كأنها تحرك بوصلة الرجل الذي يطمح للعودة إلى عرش القوة الأعظم. فهل نحن أمام قائد خرج عن المألوف فحسب، أم أمام ظاهرة تعيد تعريف السياسة والزعامة في عصر مضطرب؟ هل هو “حريق الغابة” المرعب للبعض، أم “وحيد القرن فوق قوس قزح” المبهر لآخرين؟

تظل الإجابة مفتوحة، بصفتها جزءاً من لغز ترمب المعقَّد، وتترك الباب موارباً لمحطات قادمة في هذه الرحلة نحو فهم رجلٍ، اتفقنا أو اختلفنا معه، قد غيّر بالفعل وجه السياسة إلى الأبد.

هذا المحتوى من صحيفة “الشرق الأوسط”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *