أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في حنين والطائف

د. علي محمد الصلّابي خاص اخبار تركيا
أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً؛ إذ لحقتهم هزيمةٌ في أوَّل المعركة، جعلتهم يفرُّون من هول المفاجأة، وكانوا كما قال الإمام الطبريُّ: فانشمروا، لا يلوي أحدٌ على أحدٍ (الطبري، 1987، ص 3/74)، وجعل رسول الله (ﷺ) يقول: « أين أيُّها الناسُ ؟! هلما إليَّ، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمَّد بن عبد الله.. يا معشر الأنصار! أنا عبد الله ورسوله». ثمَّ نادى عمَّه العبّاس وكان جهوريَّ الصَّوت، فقال له: «يا عبّاس! نادِ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السَّمُرة!» (مسلمٌ، كتاب الجهاد والسير، رقم:1775). كان هذا هو حال المسلمين في أوَّل المعركة، النبيُّ وحده، لم يثبت معه أحدٌ إلا قلَّة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبيِّ إلا فئةً من الصَّحابة يتقدَّمهم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ ثمَّ نصرهم الله بعد ذلك نصراً عزيزاً مؤزَّراً (لماضة، 1993، ص 43). وكانت هناك بعضُ المواقف للصِّدِّيق منها:
1ـ فتوى الصِّدِّيق بين يدي رسول الله:
قال أبو قتادة: لمّا كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، واخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني، وأضرب يده، فقطعتها، ثمَّ أخذني فضمَّني ضمّاً شديداً حتى تخوَّفت، ثمَّ ترك، فتحلَّل، ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثمَّ تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: «من أقام بينةً على قتيلٍ قتله؛ فله سلبه». فقمت لألتمس بيِّنةً على قتيلي فلم أرَ أحداً يشهدُ لي، فجلست، ثمَّ بدا لي فذكرت أمره لرسول الله (ﷺ)، فقال رجلٌ من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلاّ لا يعطه أصيب من قريشٍ، ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله (ﷺ) . قال: فقام رسول الله (ﷺ) فأدّاه إليَّ، فاشتريت منه خرفاً، فكان أوَّل مالٍ تأثلت في الإسلام (البخاريُّ، كتاب المغازي، رقم: 4322).
إنَّ مبادرة الصِّدِّيق في الزَّجر، والرَّدع، والفتوى، واليمين على ذلك في حضرة رسول الله (ﷺ)، ثمَّ يصدقه الرَّسول فيما قال، ويحكم بقوله خصوصية شرفٍ، لم تكن لأحدٍ غيره (محبّ الدين الطبري، ص 185). ونلحظ في الخبر السَّابق: أنَّ أبا قتادة الأنصاريَّ ـ رضي الله عنه ـ حرص على سلامة أخيه المسلم، وقتل ذلك الكافر بعد جهدٍ عظيم، كما أنَّ موقف الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فيه دلالةٌ على حرصه على إحقاق الحقِّ، والدِّفاع عنه، ودليلٌ على رسوخ إيمانه، وعمق يقينه، وتقديره لرابطة الأخوَّة الإسلاميَّة، وأنَّها بمنزلةٍ رفيعة بالنِّسبة له (الحميدي، 1998، ص 8/26).
2ـ الصِّدِّيق، وشعر عبّاس بن مرداس:
حين استقلَّ العبّاس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين، قال شعراً عاتب فيه رسول الله (ﷺ)، حيث قال:
كانتْ نِهاباً تلافَيْتُها
بِكَرِّي على المُهْرِ في الأجْرَعِ
وإيقاظيَ القومَ أنْ يَرْقُدُوا
إذا هَجَعَ الناسُ لم أَهْجَعِ
فأصبحَ نَهْبِي ونَهْبُ العَبِيـ
ـدِ بينَ عينة والأقْرَعِ
وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَأٍ
فلمْ أُعْطَ شيئاً ولم أمنع
الا أَفَائِلَ أُعْطيْتُها
عديدَ قوائِمِها الأرْبَعِ
وما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ
يَفُوقان شَيْخِيَ في المجمع
عوما كنتُ دونَ أمرئ منهُما
ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يُرْفَعِ
فقال رسول الله (ﷺ): «اذهبوا، فاقطعوا عنِّي لسانه». فأعطوه؛ حتّى رَضِيَ، فكان ذلك قطعُ لسانه الذي أمر به رسول الله (ﷺ).
وأتى العبّاسُ رسول الله (ﷺ) فقال له رسول الله (ﷺ): أنت القائل: «فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعينة»؟ فقال أبو بكر: بين عينة والأقرع. فقال رسول الله (ﷺ): «هما واحِدٌ». فقال أبو بكر: أشهدُ أنَّك كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يسس: 69] (ابن هشام، 1997، ص 4/147).
ج ـ في الطَّائف:
في حصار الطَّائف وقعت جراحاتٌ في أصحاب النبيِّ وشهادةٌ، ورفع رسول الله (ﷺ) عن أهل الطَّائف الحصار، ورجع إلى المدينة، وممَّن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبد الله بن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ رُمِي بسهمٍ، فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبيِّ (ﷺ) (ابن هشام، 1997، ص 4/193).
وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم، فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتّى تنافس كلٌّ من أبي بكرٍ، والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرَّسول (ﷺ)، وفاز الصِّدِّيق بتلك البشارة، وبعد أن أعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله (ﷺ) كتابهم، وأراد أن يؤمِّر عليهم أشار أبو بكر بعثمان بن أبي العاص ـ وكان أحدثهم سنّاً ـ فقال الصِّديق: يراسل الله! إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التففه في الإسلام، وتعلُّم القران (المصري، 1987، ص 151)، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلَّما نام قومه بالهاجرة، عمد إلى رسول الله (ﷺ) فسأله في الدين واستقراه القران حتّى فقه في الدِّين، وعلم، وكان إذا وجد رسول الله (ﷺ) نائماً عمد إلى أبي بكرٍ، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله (ﷺ)، وعجب منه، وأحبَّه (تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص 670).
وعندما علم الصِّدِّيق بصاحب السَّهم الذي أصاب ابنه كانت له مقولة تدلُّ على عظمة إيمانه، فعن القاسم بن محمَّد، قال: رُمِيَ عبد الله بن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ بسهمٍ يوم الطائف، فانتقضت به بعد وفاة رسول الله (ﷺ) بأربعين ليلةً، فمات، فقدم عليه وفد ثقيف، ولم يزل ذلك السَّهم عنده، فأخرجه إليهم، فقال: هل يعرف هذا السَّهْمَ منكم أحدٌ؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهمٌ أنا بَرَيْتُهُ، ورشته، وعقبته، وأنا رميت به . فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: فإنَّ هذا السَّهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكرٍ، فالحمد لله؛ الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنَّه أوسع لكما (عاشور، ص 118).
المراجع:
ابن هشام، (1997)، السِّيرة النَّبوية، دار إِحياء التراث، الطَّبعة الثَّانية 1417هـ 1997م.
الطبري، أبو جعفر، (1987)، تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر بيروت، الطَّبعة الأولى 1407هـ 1987م.
لماضة، عاطف، (1993)، مواقف الصِّدِّيق مع النَّبي في المدينة، دار الصَّحابة للتُّراث، الطبعة الأولى 1413هـ 1993م.
محبّ الدين الطبري، أبو جعفر أحمد، الرِّياض النَّضرة في مناقب العشرة، المتوفى 694هـ، المكتبة القيِّمة، القاهرة.
الحميدي، عبدالعزيز عبدالله، (1998)، التَّاريخ الإِسلاميُّ مواقف وعبر، دار الدَّعوة، الإِسكندريَّة، دار الأندلس الخضراء، جدَّة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1998م.
المصري، جميل عبدالله، (1987)، تاريخ الدَّعوة الإِسلاميَّة في زمن الرَّسول (ﷺ) والخلفاء الرَّاشدين، مكتبة الدَّار بالمدينة المنوَّرة، الطَّبعة الأولى 1407هـ 1987م.
عاشور، محمد أحمد، خطب أبي بكرٍ الصِّدِّيق، جمال عبد المنعم الكومي، دار الاعتصام.