اخبار تركيا

تركيا على مفترق تاريخي: من محاولة تسميم فيدان إلى إسقاط الأسد وحلّ “بي كا كا”

اخبار تركيا

تناول تقرير للكاتب والخبير السياسي التركي يحيى بستان، تحوّلًا استراتيجيًا كبيرًا في المشهد الإقليمي، تقوده تركيا من خلال تحركات أمنية ودبلوماسية مدروسة، أبرزها إعلان حلّ تنظيم “بي كا كا” الإرهابي، وتوسيع النفوذ التركي في سوريا بعد تراجع نفوذ إيران وإسرائيل.

ويربط التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق هذه التطورات بمحاولة تسميم سابقة تعرّض لها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حين كان رئيسًا للاستخبارات، مشيرًا إلى أن المرحلة كانت حافلة بمحاولات استهداف صانعي القرار في أنقرة.

كما يُبرز التقرير دور إبراهيم قالِن، رئيس الاستخبارات الحالي، في قيادة التحولات الأمنية الأخيرة. ويخلص إلى أن النظام الإقليمي يشهد إعادة تشكّل بقيادة تركية، وسط تراجع نفوذ إسرائيل وتبدّل الأولويات الأميركية في المنطقة.

وفيما يلي نص التقرير:

من عادتي أن أحتفظ ببعض الملاحظات التي أدونها حرصًا على إبقاء ذاكرتي يقظة، ومتابعة تطوّر الأفكار، ورؤية الصورة الكبرى دون التشتت في التفاصيل. فأستعين بهذه الملاحظات في مقالاتي، وأحتفظ ببعضها لمؤلفات أطمح إلى كتابتها لاحقًا.

وحين سمعت تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للصحفي مراد جيجك: “حين كنت رئيسًا لجهاز الاستخبارات تعرضت للتسمم وتلقيت العلاج”، عدت إلى مراجعة ملاحظاتي. لم يُدلِ فيدان بتفاصيل كثيرة، غير أنني وجدت في ملاحظات تعود إلى أبريل/نيسان 2024 بعض المعطيات المهمة. وكان مما دوّنته يومها: “يُعتقد أن محاولة التسميم وقعت في إحدى الدول الأجنبية. لا توجد معلومات مؤكدة عن هوية الفاعل حتى الآن. ويُرجّح أن العملية نُفّذت عبر تعرضه لبخار الزئبق. وقد استمر العلاج لمدة عامين إلى أن تم تجاوز مرحلة الخطر.”

ويبدو أن هذه المحاولة وقعت في عام 2020 أو 2021، كانت تلك فترة عصيبة حيث حاول تحالف معادٍ محاصرة تركيا في شرق المتوسط، وكانت أنقرة تتدخل في ليبيا، وتُطلق عمليتها في قره باغ، وتواصل كفاحها ضد التنظيمات الإرهابية في كل من سوريا والعراق. وكان واضحًا في تلك المرحلة أن الولايات المتحدة بدأت تفقد اهتمامها بالمنطقة، فيما بدأت ترتسم معالم نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. وقد بادرت جميع الأطراف حينها إلى توسيع رقعة نفوذها استعدادًا لتقاسم النفوذ في النظام الناشئ. وكان الأعداء كُثُر، وكان صانعو القرار في أنقرة موضع الاستهداف. وبما أن العديد من الفاعلين الرئيسيين في تركيا لم يفصحوا عن وقائع مماثلة، فإن عدد محاولات الاغتيال التي قد تكون وقعت خلال تلك المرحلة يبقى مجهولًا.

صراع بين محورَين

سبق أن تناولتُ في كتاباتي هذا السياق من قبل. فمنذ تلك الفترة، يشهد الإقليم صراعًا بين محورين رئيسيين. وتتغيّر الأطراف المشاركة في كل محور بين الحين والآخر، إلا أن القوى الموجهة لهما تبقى ثابتة. ويتمثل المحور الأول، الذي تقوده تركيا، في محور السلام والاستقرار. وتندرج ضمن هذا المحور مبادرات كبرى، مثل “مشروع طريق التنمية” المشترك مع العراق، والتحالف الإقليمي ضد تنظيم “داعش” الذي يهدف إلى استقرار سوريا، ويضم تركيا والعراق وسوريا والأردن ولبنان، بالإضافة إلى “مجموعة الاتصال” التي تشكّلت ردًا على الإبادة الجماعية في غزة. والواقع أن أنقرة هي العقل المدبر لكل هذه المبادرات والمُحرّك الرئيسي لها.

أما المحور الآخر، فهو المحور الذي يسعى إلى جرّ المنطقة نحو الفوضى، وتتصدره إسرائيل. وقد انضمت إليه بعض دول الخليج. وبعد 7 أكتوبر، تمكّنت إسرائيل من استقطاب الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية إلى جانبها. ورغم ظهور إيران في المعسكر المعارض، إلا أن تحركاتها الإقليمية أفضت في المحصلة إلى دعم محور الشر والفوضى.

إنصاف إبراهيم قالن

قامت أنقرة بخطوتين استراتيجيتين غيّرتا قواعد اللعبة فوجّهت ضربتين استراتيجيتين لخصومها في المنطقة، ورفعت سقف المواجهة في وجه محور الفوضى، ووسّعت نطاق نفوذها. وتكتسب هاتان الخطوتان أهمية حيوية في رسم ملامح النظام الإقليمي الجديد الناشئ.

الأولى كانت في الملف السوري. إذ استطاعت أنقرة تحويل صراع النفوذ بين إسرائيل وإيران في سوريا إلى فرصة، فلعبت دورًا حاسمًا في إسقاط نظام الأسد، وانتقلت إلى موقع “الفاعل المحوري” في الساحة السورية. هذه الخطوة أخرجت إيران من المعادلة، ومكّنت تركيا من تطويق النفوذ الإسرائيلي بشكل مباشر. ويُفهَم من المعطيات أن رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالِن اضطلع بدور حاسم في مسألة تغيير النظام في سوريا. والآن، يُضاف إلى ذلك قرار تنظيم “بي كي كي” الإرهابي حلّ نفسه وتسليمه السلاح، وهي تطورات تاريخية قادها قالِن في وقت وجيز عقب تولّيه منصبه، وتستحق أن يُفرد لها مقال مستقل.

حل تنظيم “بي كي كي” الإرهابي.. ضربة استراتيجية أخرى

لطالما كان تنظيم “بي كي كي” الإرهابي أداة وظيفية بيد خصوم تركيا، يستغلونها خلال عمليات إعادة بناء مستقبل المنطقة. أما الضربة الاستراتيجية الثانية فاستهدفت هذا التنظيم مباشرة. وقد أفضت العملية التي انطلقت تحت شعار “تركيا خالية من الإرهاب”، إلى إعلان التنظيم يوم أمس، عن قراره بحلّ نفسه وتسليم السلاح. وبالطبع سيُتابَع هذا المسار عن كثب، فهو محفوف بالمخاطر. فقد تحاول بعض المجموعات داخل التنظيم الاستمرار بنشاطها، أو قد تُثار محاولات تحريضية من أطراف ثالثة. وقد جاء في بيان الحل: “نعلن إنهاء الأنشطة التي تُمارس باسم حزب العمال الكردستاني.” علمًا بأن الفرع السوري للتنظيم لا يزال يطالب بنظام فيدرالي. وفي ظل مسار تعزيز شرعية النظام السوري على المستوى الدولي، والذي تعكسه مؤشرات عديدة، كزيارة أحمد الشرع إلى فرنسا، والمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل عبر الإمارات، والأنباء عن احتمال دعوته إلى الرياض خلال زيارة ترامب، والمحادثات السرية التي يجريها مسؤولون أمريكيون مع الشرع… إلخ)، كلها تضعف فرص بقاء “بي كي كي/واي بي جي” الإرهابي يومًا بعد يوم.

القطار ينطلق.. وإسرائيل في عزلة

تخسر إسرائيل حلفاءها واحدًا تلو الآخر. إن تجويعها للمدنيين الأبرياء في غزة، ومواصلتها شنّ هجمات في غزة وإيران وسوريا ولبنان رغم الموقف الأميركي، يُعد تحديًا مباشرًا لاستراتيجية الانسحاب الأميركية من المنطقة. وقد أدرك ترامب الفخ الذي نصبه له نتنياهو، ووصلت العلاقة بينهما إلى شفير القطيعة. (وأكرّر هنا: الولايات المتحدة ستأخذ بثأرها من نتنياهو). وفي هذا السياق يعد تصريح المبعوث الأميركي الخاص، ويتكوف، لعائلات الأسرى الإسرائيليين، تصريحا بالغ الدلالة، حيث قال: “صفقة القرن ستُستكمل حتى من دون إسرائيل، ونأمل أن تستقل إسرائيل هذا القطار التاريخي، فالولايات المتحدة لن تنتظرها في المحطة.”

ويتضح من ذلك أن الولايات المتحدة باتت تتخلّى عن إسرائيل كمركز لاهتماماتها الإقليمية. فالتطبيع مع إسرائيل الذي كانت تعتبره شرطا لنقل التكنولوجيا النووية إلى السعودية قد أُهمل. بل نحن إزاء مرحلة جديدة تشهد جلوس واشنطن مع حركة حماس على طاولة التفاوض من أجل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين حاملي الجنسية الأمريكية. وهو تطور كبير ساهمت فيه تركيا بدور محوري، بعد أن طلبت حماس من أنقرة التوسط مع واشنطن، كما أوردنا في مقال “نهاية نتنياهو تلوح في الأفق” بتاريخ 25 أبريل. وعلى هذا الأساس، يبدو أن استمرار نتنياهو، والنخبة الحاكمة المتطرفة وغير العقلانية في السلطة، لم يعد ممكنًا. ففي النهاية، نحن نشهد ولادة نظام جديد، يمتد من سوريا إلى أوكرانيا، ومن أمن أوروبا إلى السعودية، نظام تتفاعل مكوناته وتتواصل، وتتبادل التأثير. ولن يُسمح لأي عابثين بعرقلة هذه اللعبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *