اخبار تركيا

تركيا بعد “بي كي كي”: ما بعد لوزان وبوادر نظام إقليمي جديد

اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، تحوّلًا استراتيجيًا كبيرًا في المشهد التركي مع إعلان تنظيم “بي كي كي” الإرهابي حلّ نفسه، واضعا هذا الحدث في سياق تاريخي يمتد إلى معاهدة لوزان وما أعقبها من أزمات داخلية.

وحلّل الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق الكيفية التي تمكّنت بها الدولة التركية، عبر تحولات أمنية وسياسية عميقة خلال العقود الأخيرة، من تقويض أسس المشكلة الكردية، وصولًا إلى لحظة مفصلية تُعتبر تتويجًا لمسار طويل من الإصلاحات والاستراتيجيات.

كما ناقش دلالات هذا التطور على الصعيدين الإقليمي والدولي، مؤكدًا أن تركيا لم تعد محصورة في أفق “لوزان”، بل باتت لاعبًا مركزيًا قادرًا على تشكيل توازنات جديدة في الشرق الأوسط وما بعده.

وفيما يلي نص التقرير:

لا شكّ أنّ قرار تنظيم “بي كي كي” الإرهابي بحلّ نفسه يُعدّ من أبرز الأحداث في تاريخ الجمهورية التركية الممتدّ على مدى قرن كامل. كما أنه يستدعي بالضرورة مراجعة شاملة للظروف التي أفضت إلى نشوء هذه الأزمة قبل مئة عام، بما يحمل من دلالات أخلاقية تفرض علينا تأمل الصورة الكاملة.

لقد نشأ تنظيم “بي كي كي” من رحم تلك الأزمة، وتغذى من مناخها وظلّ على مدار سبعة وأربعين عامًا الأخيرة من القرن يمثّل امتدادًا لها. وربما يكون هذا الصراع هو الأطول عمرًا بين الأزمات السياسية في تركيا، والأشد استنزافًا لمواردها البشرية، وطاقاتها الوطنية، ومعنويات شعبها. فسبعة وأربعون عاماً تعادل في المتوسط عمر الإنسان، لكنها كانت كافية لإزهاق أرواح آلاف الشباب قبل أن يبلغوا العشرين، ولفقدان جيل من الضحايا الذين ذهبت أعمارهم سُدى في الجبال. وخلال هذه العقود السبعة والأربعين، مرّت الدولة التركية نفسها بعدة مراحل مفصلية في كيفية تعاطيها مع هذه القضية، حتى شهدنا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، تحولاً حقيقياً على مستوى النموذج الفكري والنهج المتبع في التعامل مع القضية. وهذا التحول بالتحديد هو ما بدأ بتقويض الأرضية التي قامت عليها المشكلة، وأفقد تنظيم “بي كي كي” الإرهابي الأسباب التي كانت تمنحه مشروعيته أو تُبرر وجوده.

أما ردود الفعل الغاضبة من بعض الأوساط الكمالية اليسارية التي لم تستطع إخفاء انزعاجها من حلّ التنظيم لنفسه، فكانت متوقعة؛ إذ إنّ هذا الحلّ يمثل عمليًا تفكيكًا لعقدةٍ ترسّخت في جسد الجمهورية منذ قرن، وتصويباً لخطأ نشأ في تلك المرحلة. فعلى سبيل المثال، أبدى الصحفي الشهير أوغور دوندار انزعاجه من إشارة التنظيم في بيان حله إلى معاهدة لوزان بوصفها “جذرًا” للمشكلة، وكأنّه يريد قيام تركيا خالية من الإرهاب، لكنه في الوقت ذاته يصرّ على بقاء المشكلة الكردية على النحو الذي صِيغت به قبل قرن، دون المساس بمعاهدة لوزان.

هل معاهدة لوزان نص مقدس؟

في عصرنا هذا، لم يعد أي نص ديني مقدس بمنأى عن النقد والتحليل، فلماذا هذا التقديس الأعمى لوثيقة فرضتها علينا دول استعمارية أنتجت لنا قبل قرن من الزمان سلسلة من المشاكل وألقتها في حضننا ودمرت دولتنا الممتدة لستة قرون، واحتلت أراضينا؟ وليس غريبًا أن يصف بعضهم هذا النقاش بأنه حنين إلى “سيفر”، ولكنّ ما يثير القلق حقًّا هو تلك التعليقات التي انهالت على ذلك التصريح، لتؤكد ما قاله بحماسة وغلّ، ما يشير إلى خطورة مختلفة تماما. فالقضية الكردية في جوهرها قد حلت، وفي طريقها نحو الحل النهائي. غير أن “المشكلة” التي يصطنعها هذا النمط من التفكير يصعب حلها بهذه السهولة.

وقد تفضل يلديراي أوغور مشكورًا بالرد على هذا المنطق السقيم قائلاً: “نقرأ استنتاجات تذهل العقول. هل كنتم تتوقعون أن يتحدث “بي كي كي” كما يفعل المقاتلون المستسلمون في برنامج “رؤية الأناضول”؟ هذا ليس نص اتفاق حتى نتعامل معه كإملاء أو فرض. ما نُشر هو بيان ختامي لمؤتمر الحزب الأخير، وفيه استعرض التنظيم تاريخه. فتنظيم يعلن عن حلّ نفسه، أي سلطة إملائية يملكها أصلًا؟ لقد أشاروا إلى معاهدة لوزان وسنة 1924 كنقطة انطلاق للقضية الكردية. هل هذه هي المرة الأولى التي تسمعون فيها بذلك؟ في كل نص يتعلق بالقضية الكردية، يُشار إلى ذلك التاريخ باعتباره نقطة تحول. عن أي سيفر تتحدثون؟ ومن يسعى إلى سيفر هل يُلقي سلاحه؟ سيفر تحتاج إلى سبع قوى عظمى، وليس إلى “بي كي كي”. تنظيم لم يستطع تحقيق شيء وهو يحمل السلاح لمدة 50 عامًا، هل سيقسم البلاد بعد أن يسلم سلاحه؟”

لقد تمكنت تركيا، بفضل قدرتها على تجاوز الأفق الذي رسمته معاهدة لوزان، من بلوغ مستوى من الكفاءة لم يتيح لها حلّ قضاياها الداخلية فحسب، بل مكّنها أيضًا من التحوّل إلى فاعل دولي له اعتباره وتأثيره ووزنه في معادلات السياسة العالمية. ولو أردنا أن نقوم بجولة سريعة، تبدأ من سورية وفلسطين، وتمتد إلى قضايا النزاع بين أوكرانيا وروسيا، بل وحتى إلى ما بين الهند وباكستان، لوجدنا أن تركيا اليوم ليست هي تلك التي انحصرت داخل حدود أفق لوزان. بل إنها تجاوزته بمراحل. إن مجتمعاً مازال أسير هواجس سيفر وراضخا لعقدة لوزان لن يتمكن من حل مشاكله أو تحقيق أي طفرة حضارية.

وكما أكد الرئيس أردوغان، فإن إعلان تنظيم “بي كي كي” الإرهابي ليس نهاية المطاف بل مرحلة حاسمة في مسيرة “تركيا خالية من الإرهاب”. ومجرد وصولنا إلى هذه المرحلة يعد إنجازاً بحد ذاته. أما من يعتقد أن هذا المسار سيلقى نفس المصير الذي لاقته محاولات سابقة، فهؤلاء لا يقدّمون تحليلًا موضوعيًا، بل يعكسون مشاعرهم، ومخاوفهم، وانعدام الثقة لديهم. بينما الواقع الموضوعي يحمل مؤشرات كافية لدحض هذه المخاوف. أولا: إن طبيعة المرحلة تتطلب بالضرورة إعادة قراءة لمعاهدة لوزان، أو تاريخها الممتد على مدى قرن كامل. فقراءة تلك النصوص والأحداث في ضوء التحولات الجديدة في تركيا والعالم أصبحت ضرورة لا مفر منها.

ثانياً: لم يعد في سوريا نظام معادٍ لتركيا يقدم كل أنواع الدعم لتنظيم “بي كي كي” الإرهابي منذ تأسيسه. بل على العكس، فإن النظام القائم حاليًا في سورية يتخذ موقفًا وديًّا تجاه تركيا إلى أقصى حد، ولن يسمح بوجود تنظيم “بي كي كي” أو أي من امتداداته. فضلًا عن ذلك، فإن المستوى الجديد من المواطنة وفرص المشاركة التي سيقدمها النظام السوري الجديد للأكراد لا تقارن بما كان يقدمه النظام السابق. وبالتالي، يبدو أن السلام الداخلي لتركيا سيسير بالتوازي مع السلام الداخلي لسوريا وعملية الاندماج فيها. أما في العراق، فكل من الحكومة المركزية وإقليم شمال العراق يدعمان هذه العملية حتى النهاية. ومن ناحية أخرى، فإن الدعم الإسرائيلي الوحيد لتنظيم “بي كي كي” لن يكون له أي فائدة الآن. فإسرائيل منشغلة بأزماتها الداخلية، وكانت تعتمد كلياً على الدعم اللوجستي والمالي من الولايات المتحدة والنظام السوري، وقد فقدت كليهما الآن.

ثالثًا: وفي هذا السياق الدولي والإقليمي المستجد، استقبل الشعب الكردي هذه المرحلة الجديدة وتبناها بحماس كبير. ومن الآن فصاعدًا، أي محاولة لتعطيل هذا المسار أو تقويضه ستجد في وجهها، قبل أي طرف آخر، الرفض الحازم من الشعب الكردي ذاته.

إن منح تركيا الأكراد مزيدًا من الحقوق، واعترافها بهم بشكل أوسع، سيؤدي إلى توحدها واندماجها أكثر لا إلى تقسيمها. ذلك أن الوحدة والتضامن لا تُبنى على إنكار الفوارق أو تهميشها، بل على الاعتراف بها وقبولها والتعايش معها.

ملاحظة: في سلسلة “الوجه الحقيقي للتاريخ” التي نشرتها دار بيان مؤخرا، يقدّم الأستاذ الدكتور مصطفى آيدن في كتابه «لوزان.. نجاح أم تنازل؟» ملخصًا قيّمًا لما جنته تركيا وما خسرته في معاهدة لوزان. وهو كتاب جدير بالقراءة في هذا السياق بالذات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *