كيف دفع “الألم المشترك” أميركا والصين لتعليق حرب الرسوم؟

خلص خبراء صينيون تحدثت معهم “الشرق” إلى أن اتفاق الولايات المتحدة والصين بعد مفاوضاتهما الأخيرة في سويسرا، على خفض الرسوم الجمركية بشكل كبير لمدة 90 يوماً، هو نتيجة “الآثار الملموسة”، و”الألم الفوري” الذي تسبب به الرفع الكبير للرسوم، والإجراءات الانتقامية المتبادلة، وذلك في إطار الحرب التجارية التي خلفت ندوباً غائرة في الاقتصاد العالمي.
وقال مسؤول صيني لـ”الشرق”، إن مبادرة الولايات المتحدة التي أشعلت هذه الحرب من خلال رفع الرسوم على البضائع الصينية، نابعة من “قلقها الاستراتيجي بشأن صعود الصين”، و”تضييق الفجوة المتزايدة معها في التصنيع من خلال التدابير الاقتصادية”، وللحفاظ على موقعها “المهيمن” على الساحة الدولية.
وفي بيان مشترك، أعلن البلدان بعد المفاوضات التي استمرت يومين في جنيف، واختتمت الاثنين الماضي، الالتزام بتطبيق التعديلات الجديدة ابتداءً من 14 مايو الجاري، مع الاتفاق على مواصلة المباحثات واسعة النطاق بشأن القضايا الاقتصادية والتجارية عبر آلية جديدة.
كيف تحقق “التقدم الملموس”؟
وبموجب الاتفاق الجديد، ستلغي الولايات المتحدة رسوماً جمركية إضافية بنسبة 91% على المنتجات الصينية، فيما ستخفض بكين بدورها رسوماً إضافية بنسبة 91% على الواردات الأميركية، كما سيعلق البلدان الرسوم المتبادلة بنسبة 24%، وسيلتزمان بتطبيق هذه التعديلات الجمركية في 14 مايو.
وكانت الولايات المتحدة رفعت رسومها الجمركية على البضائع الصينية لتصل إلى 145%، فيما ردت بكين برفع رسومها على البضائع الأميركية لـ125%، وذلك قبل المفاوضات والاتفاق الأخير بين البلدين.
وقال نائب رئيس مجلس الدولة الصيني هي ليفنج، الممثل الرئيسي للصين في المحادثات، خلال مؤتمر صحافي عقب الاجتماع مع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، الممثل الأميركي في المحادثات، والممثل التجاري الأميركي جيميسون جرير، إن “تقدماً ملموساً وإجماعاً مهماً” تم التوصل إليه.
من جهته، أكد بيسنت هذا الانطباع، قائلاً إنه “سعيد” بالإعلان عن التقدم الكبير الذي تم إحرازه بين الولايات المتحدة والصين في المحادثات التجارية المهمة للغاية.
ويرى كوي فان، أستاذ التجارة الدولية والاقتصاد في جامعة الأعمال والاقتصاد الدولية (UIBE) ببكين، في حديث لـ”الشرق”، أن “العقلية الأميركية التي تقول إننا نستطيع فرض رسوم جمركية عليكم، ولكن لا يجب عليكم الرد، ولا سيما تكتيكاتها المتمثلة في تصعيد الإجراءات الانتقامية ضد الرسوم الجمركية المضادة التي تفرضها الصين، ولكن كل ذلك لم يعد موجوداً”.
ووفقاً للبيان المشترك للبلدين، سيتم إنشاء آلية رسمية للإشراف على المناقشات الاقتصادية الجارية. وسيقودها هي ليفينج عن الجانب الصيني، وبيسنت وجرير عن الجانب الأميركي. وذكر البيان، أن هذه المناقشات قد تجرى بالتناوب في الصين والولايات المتحدة، أو في دولة ثالثة بعد اتفاق الطرفين.
واعتبر جونج جونج، الأستاذ بجامعة UIBE في حديث لـ”الشرق”، أن الهدف الأساسي من هذا الاجتماع هو استعادة العمل بالتجارة الثنائية أولاً، ثم استكشاف القضايا الأوسع على هذا الأساس.
وذكر لي تشينج جانج الممثل التجاري الدولي لوزارة التجارة الصينية ونائب وزير التجارة المحادثات، في مؤتمر صحافي عقده الأحد الماضي، أن المفاوضات اتسمت “بالاحترام المتبادل والمساواة والمنفعة المتبادلة والاحترافية والكفاءة العالية”.
تقارب بعد ضغوط
وقال البروفيسور جيا تشينج قوه، عضو اللجنة الدائمة للمجلس الوطني الحادي عشر للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، وهو أعلى هيئة استشارية سياسية في البلاد، والعميد السابق لكلية الدراسات الدولية في جامعة بكين، لـ”الشرق”، إن “التقدم الجوهري الذي تم تحقيقه يعكس التقارب بين الضغوط قصيرة الأجل، والاعتبارات الاستراتيجية طويلة الأجل”.
ولفت لواه تشين شينج، الباحث المشارك في معهد الدراسات الأميركية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية CASS، لـ”الشرق”، إلى أن “الصين والولايات المتحدة شعرتا بالألم الفوري والآثار الملموسة لـ(رفع) الرسوم الجمركية المرتفعة، حيث صعدت الدولتان الرسوم بسرعة إلى مستويات باهظة بلغت 145% و125% على التوالي في أبريل، ما جعل التجارة مجمّدة تقريباً”، معتبراً أن “الاجتماع تمكن من تحقيق تقدم في مثل هذا الوقت القصير”.
وفي 9 مايو، أشارت شبكة CNN الأميركية، إلى مشهد “نادر” يتمثل بعدم مغادرة أي سفن شحن الصين باتجاه الساحل الغربي للولايات المتحدة خلال الـ12 ساعة من الرصد، وهو اضطراب نادر في سلاسل التوريد العالمية. وذكر لوه، أن “مثل هذا التوقف شبه الكامل في التجارة يؤكد مدى سرعة شعور كلا الاقتصادين بتأثير زيادة الرسوم الجمركية”.
الدروس المستفادة
ورأى صن تشين جهاو، رئيس برنامج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمركز الأمن والاستراتيجية الدولية بجامعة تسينجهوا CISS، لـ”الشرق”، أنه “يمكن مواجهة الأحادية الأميركية دون التصعيد إلى المواجهة”، مشيراً إلى أن هذه المحادثات أرسلت أيضاً هذه الإشارة إلى اقتصادات أخرى بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة وشركائها الذين يخوضون معاركهم الجمركية الخاصة مع واشنطن.
وأشار صن، إلى أن هناك إجماعاً واسع النطاق بين المثقفين الصينيين حول مصدر سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب “أميركا أولاً” و”القوة هي الحق”.
عضو المؤتمر الاستشاري الصيني، جيا تشينج قوه اعتبر، في حديثه لـ”الشرق”، أن “حرب الرسوم الجمركية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين تنبع من القلق الاستراتيجي بشأن صعود الصين”، مضيفاً أن واشنطن تهدف لتضييق الفجوة المتزايدة في التصنيع من خلال التدابير الاقتصادية، سعياً للحفاظ على موقعها المهيمن.
ونبّه جيا إلى أن “النطاق الهائل، والطبيعة التكاملية للتجارة بين الصين والولايات المتحدة يعني أن مثل هذه التدابير قد تؤدي إلى اضطرابات في سلسلة التوريد العالمية، وينتهي بسيناريو الخسارة للجميع مع آثار جانبية على الاقتصاد العالمي”.
وأردف: “يجب على الصين مقاومة الأحادية الأميركية لحماية المصالح الأساسية للبلاد على المدى القصير. وكما يتضح من إجراءاتها المضادة للرسوم الجمركية المتناسبة، فإن السلام على المدى الطويل يتطلب الحوار المستمر والرفض المشترك للأحادية”، لكنه حذر من أن “المخاطر كبيرة للغاية في حالة العودة إلى الصراع”.
وعندما سُئل عن المواضيع المستقبلية، وخاصة المناقشات والمفاوضات المتعلقة بالفنتانيل المخطط لها في المرحلة التالية من المحادثات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، قال المتحدث باسم وزير الخارجية الصيني لين جيان، الثلاثاء، إن هذه المشكلة قائمة، والمسؤولية عن حلها تقع على عاتق الولايات المتحدة نفسها.
وأضاف لين أن مثل هذه الإجراءات قوضت بشدة التعاون الثنائي في مكافحة المخدرات، وأضرت بالمصالح المشروعة للصين، معتبراً أنه “إذا كانت الولايات المتحدة صادقة حقاً في التعاون مع الصين، فعليها التوقف عن التشهير، وتبادل الاتهامات. يجب أن يقوم الحوار على الاحترام المتبادل والمساواة والمعاملة بالمثل”.
لماذا سويسرا؟
عملت سويسرا مرة أخرى كمضيف محايد للمحادثات الصينية الأميركية، كما فعلت في عام 2021، إذ عقدت حينها محادثات حول العلاقات الثنائية، والقضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك في مدينة زيورخ.
واعتبر تشينجهاو لـ”الشرق”، أن هذا الاختيار يعكس بوضوح رغبة الصين في إجراء حوار متساو مع الولايات المتحدة في مكان محايد نسبياً، وخال من الضغوط الجيوسياسية المفرطة. ومن ثم فإن دور سويسرا كمضيفة لم يكن مصادفة، بل كان خياراً محسوباً لضمان محادثات متكافئة.
واتفق مع هذه النقطة تشانج جيا دونج، الأستاذ في مركز الدراسات الأميركية بجامعة فودان، وقال لـ”الشرق”، إن المكان المحايد يتجنب رمزية “الفوز” أو “الخسارة” قبل بدء المحادثات حتى.