ترامب والمرآة: حين يرى داعمو الإبادة فشلهم بأعينهم (مفكر تركي)

اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والمفكر التركي تحليلًا جذريًا للبنية الأيديولوجية والسياسية للصهيونية، من خلال تتبّع جذورها الفكرية في مدن أوروبية وغربية كبرى مثل فيينا، برلين، لندن، ونيويورك، وربطها بالسياقات الاستعمارية والاستشراقية التي مهّدت الطريق لظهور المشروع الصهيوني بصيغته السياسية.
وركز التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق على الدور المحوري الذي لعبته بريطانيا والولايات المتحدة في تحويل هذه الأيديولوجيا إلى واقع استعماري على الأرض الفلسطينية، بدءًا من نظام الانتداب البريطاني وصولًا إلى الدعم الأميركي المعاصر، كما يناقش كيف شكلت التصورات الاستشراقية عن “جمود” المجتمعات الإسلامية غطاءً أيديولوجيًا لتجريد الفلسطينيين من وطنهم.
ويفكك الكاتب الخطاب الاستعماري الذي اختزل الفلسطينيين في صورة “نصف متحضّرين”، ويبرز كيف تحوّلت المقاومة الفلسطينية إلى كابوس استراتيجي للمشروع الصهيوني، حتى في ظل أقسى أشكال الوحشية المعاصرة. وفيما يلي نص التقرير:
عند تحليل الوحشية التي تمارسها إسرائيل في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية التاريخية، والتي تجاوزت قرناً من الزمان، وبلغت من البربرية مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية، لا بدّ لنا من التوقّف ملياً عند الأيديولوجية الصهيونية. فحين نسعى للكشف عن الجذور الفكرية لهذه الأيديولوجية، نجد أنفسنا مضطرين إلى التوغّل في مدن مثل لندن ونيويورك، وهو أمر بالغ الأهمية عند البحث عن حلول جذرية. كما أنّ جذور الصهيونية تمتدّ أيضاً إلى برلين وباريس، وربما نكون قد نسينا الإمبراطورية النمساوية المجرية نظراً لمرور أكثر من قرن على زوالها، لكن لا بد من أخذ “فيينا” بعين الاعتبار عند تحليل عملية تشكل الأيديولوجية الصهيونية. إذ إن استيعاب نشأة هذه الأيديولوجية الصهيونية يقتضي عدم إغفال وسط أوروبا. غير أنّ مَن منح الصهيونية شكلها السياسي هم البريطانيون والأميركيون. ومن هنا، فإن الفصل بين الجذور الفكرية للأيديولوجية الصهيونية وبين مظهرها السياسي أمر ضروري. إنّ المدن التي تنتمي إليها هذه الجذور الفكرية تُشير إلى وجود بنية عابرة للقوميات، ولكن إذا أغفلنا مراكز القوة التي شكلت هذه الأيديولوجيا سياسياً أثناء تفسيرنا لهذه البنية فإن دور البريطانيين والأمريكيين لن يُفهم بشكل كامل.
لقد عمل البريطانيون والأمريكيون، الذين صاغوا الهوية السياسية للصهيونية، على مدى قرن كامل تقريباً على سواحل شرق البحر الأبيض المتوسط. فإذا حللنا الأحكام الاستشراقية للمبشرين الذين طافوا أرجاء الجغرافيا العثمانية على امتداد السواحل منذ مطلع القرن التاسع عشر، في إطار الأهداف السياسية، سنصل إلى نتائج مختلفة تماما. وأؤكد أننا بحاجة إلى هذه النتائج المختلفة. ومن الأهمية بمكان أن يتحرّر الجيل الجديد من العقلية التلقينية للطالب عند قراءته للمصادر الغربية. فقد تشكّلت أحكام المستشرقين على العالم الإسلامي في إطار ديناميكية الأهداف السياسية. فوصفهم الشرق والإسلام والمسلمين بالجمود والتحجر، يخدم الأهداف الاستعمارية بامتياز. بل ويمكن القول إن هذا التصور عن “الجمود” هو الذي وجّه الأيديولوجية الصهيونية نحو اتّخاذ شكلها السياسي.
إن عبارة “أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض” لا تعني قطعة أرض خالية من السكان. فعندما وصل أوائل المستوطنين الصهاينة إلى الأراضي الفلسطينية التاريخية، واجهوا بالفعل وجود الفلسطينيين، ولم يُبدوا استغراباً من ذلك، ما يدل على أنهم لم يكونوا يتوقعون أرضاً خالية من البشر. لذا، ينبغي تحليل هذه العبارة في إطارها الإيديولوجي السياسي، لا في معناها الحرفي. ويعد مفهوم “نصف متحضر” أيضاً بالغ الأهمية هنا، فقد كانوا مقتنعين بقدرتهم على السيطرة على مجتمعاتٍ اعتبروها جامدة وعاجزة عن تحقيق مفهوم الأمة. وكانوا يعتقدون أن بلوغ هدفهم الذي يطمحون إليه لن يكون أمرًا عسيرًا، وأن الوصول إلى الثروة الباهرة التي حلموا بها أمر يسير.
وكان أهم حدثٍ منح الصهيونية مصداقية سياسية هو إنشاء نظام الانتداب البريطاني في فلسطين. فقد كان هربرت صموئيل، أول مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين للانتداب البريطاني، أي الإدارة الاستعمارية الجديدة، رجلًا يحمل لقب “سير” (سيد) ومؤمنا بالأيديولوجية الصهيونية. وقد عهد البريطانيون بأهم المناصب في الإدارة الاستعمارية الجديدة إلى شخصيات تدين بالولاء للفكر الصهيوني. وبدأ البريطانيون والأمريكيون استعدادًا غير عادي لتجريد أرض فلسطين التاريخية من سكانها لإنشاء أوروبا جديدة في فلسطين. فشعبٌ جامد ونصف متحضرٍ وفاشلٌ في تشكيل أمة ـ بحسب زعمهم ـ لا يمكنه أن يقاوم الحضارة الغربية. ومن ثم لا ينبغي أن ننظر إلى الأحكام الاستشراقية حول العالم الإسلامي الشرقي في سياق الهيمنة فقط. فالاعتقاد بأن الفلسطينيين لن يقاوموا نشأ من افتراض مفاده أن الفلسطينيين ليس لديهم شعور بالانتماء إلى وطن أو أمة. لقد كانت الثروات التي حلم بها المستوطنون ماثلة أمام أعينهم.
أما محاولة الأمريكيين جرّ العالم الغربي لإعادة غزو العالم الإسلامي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فكانت تهدف إلى إتمام المشروع الصهيوني. ولكن من المضلل تفسير هذه العملية بجعل اليهود محوراً لها. صحيح أنه لا يمكن إنكار دور الصهاينة اليهود المستشرقين في تشكيل المرحلة الجديدة، إلا أن فهم الصورة الكبيرة يتطلب ـ كما في الماضي ـ العودة مجدّداً إلى بريطانيا والولايات المتحدة. فهم الذين كانوا يسعون إلى ثروات الشرق، والصهاينة اليهود اقتنعوا بالمشروع لأنهم اكتشفوا الإمكانيات التي أتاحتها الأهداف السياسية. ولكن عندما فشلوا في كسر مقاومة الفلسطينيين، أعادوا إحياء وحشية الحروب الصليبية التي لم تُنسَ منذ ألف عام. ولن ينسى العالم الإسلامي هذه الوحشية أيضاً لألف عام قادمة.
لقد فشلوا وخسروا. ولعل “ترامب” من أوائل من أدركوا هذا الفشل. ومن اللافت أن أكثر من قدّم الدعم للإبادة الجماعية هو من رأى هذا الفشل بعينه.