ازدواجية المعايير لم تعد كافية لوصف المشهد: نحن أمام واقع إمبريالي جديد (مفكر تركي)

اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والمفكر التركي سلجوق تورك يلماز، تحوّل السياسات الغربية تجاه القضية الفلسطينية، مسلطًا الضوء على القمع المتزايد لأنشطة الطلاب المؤيدين لفلسطين في الجامعات الأمريكية والأوروبية، خصوصًا في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.
وحلّل الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق هذا التحول بوصفه جزءًا من ديناميكية أعمق تعبّر عن انكشاف الوجه الإمبريالي للغرب، وتراجع الخطاب الليبرالي التقليدي لصالح نزعات صهيونية معلنة.
كما استعرض التقرير تصاعد الحركات الطلابية المناهضة للاستعمار والصهيونية، التي تستمدّ زخمها من المأساة المستمرة في غزة، وتضع النظام العالمي أمام مساءلة أخلاقية غير مسبوقة.
وفي المقابل، يدعو الكاتب إلى تحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية، مشيرًا إلى الدور الممكن لتركيا في قيادة هذا التحول الفكري والقانوني نحو محاسبة القوى المتورطة في جرائم الحرب، بعيدًا عن الخطابات التقليدية التي فقدت فعاليتها.
وفيما يلي نص التقرير:
إن حظر الأنشطة المؤيدة لفلسطين التي ينظّمها طلاب الجامعات في الولايات المتحدة يشير إلى وجود عملية ديناميكية للغاية. كما تتخذ بريطانيا وألمانيا مواقف قمعية صارمة تجاه أنشطة المؤيدين للقضية الفلسطينية. ويُعد انفتاح هذه الدول على نزعات عنصرية على عكس ممارساتها السابقة تحولاً جوهرياً يستدعي التأمل. غير أن تقييم هذه التطورات عبر الأطر التقليدية لن يُفضي إلى نتائج دقيقة. وفي هذا الإطار، قد تبرز مفاهيم مثل ازدواجية المعايير، انطلاقًا من تسخير نفس البلدان للمؤسسات والمنظمات تحت عنوان حقوق الإنسان والحريات لتحقيق أهداف إمبريالية. لكن هذه التوصيفات لم تعد كافية لفهم واقع اليوم. فمصطلح “المعايير المزدوجة” يعكس موقفاً سلبياً، في حين أن تطورات الراهنة تتوسع إلى درجة تتطلب مشاركة عامة الناس في العملية. ففي غزة يُقتل مئات الفلسطينيين يوميًّا، وتقوم القوى المهيمنة في النظام العالمي بدعم هذه الوحشية أو غض الطرف عنها. وهذا وحده كافٍ لتحمّل المسؤولية.
ومن بين التطورات الجديرة بالمتابعة الدقيقة، الانتشار المتزايد للأفكار المناهضة للصهيونية وإسرائيل بين أوساط طلاب الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا. لقد نشأت حركات الطلاب عام 1968 في فرنسا، وسرعان ما انتشرت في مدن أوروبا والولايات المتحدة، مدفوعة بأفكار مناهضة للاستعمار والإمبريالية في تلك الحقبة أيضًا. ومنذ عام 1968، لم تنجح أي حركة اجتماعية أو سياسية مناهضة للنظام في التأثير بنفس القوة التي نشهدها اليوم. والأدهى من ذلك، أن الأفكار المناهضة للإمبريالية اليوم تستمدّ غذاءها من مصدر “خطير للغاية” مثل فلسطين. إن صدى الأفكار القادمة من الشرق في أوروبا والولايات المتحدة يدلّ على أن العالم الذي اعتدنا عليه قد أصبح من الماضي. ولا بد من إدراك هذا الواقع الذي يقع خارج التصنيفات التقليدية. ففي تسعينيات القرن الماضي، تركت المنظمات غير الحكومية، المدعومة من أوروبا والولايات المتحدة، أثرًا عميقًا في عالمنا الفكري، لا سيما في بلدان مثل تركيا. وقد تمّ توظيف هذه المنظمات خلال العصر الذهبي للّيبرالية الأمريكية. غير أن الدول الإمبريالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت في تلك الفترة نفسها تدفع منطقتنا نحو التفكك، وتحرم ملايين الناس من حياتهم.
واليوم تواصل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا دعمها العلني لإسرائيل بما ينسجم مع الأيديولوجيا الصهيونية. وقد أعلن السياسيون البريطانيون، وعلى رأسهم رئيس الوزراء كير ستارمر،عن صهيونيتهم دون لبس، وأظهروا عزمهم الكامل على دعم إسرائيل من جميع النواحي. ورغم ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جماعية علنًا بعد السابع من أكتوبر، واصلت بريطانيا تزويدها بالسلاح والذخيرة. لقد قُتل الفلسطينيون بأسلحة بريطانية، وجُوعوا، وسُلبت ممتلكاتهم، وهُجّروا من ديارهم. أما ألمانيا فقد دعمت إسرائيل الصهيونية بوقاحة أكبر. حتى وُجهت إلى كلتا الدولتين اتهامات جدية بأنهما تستخدمان فلسطين كمختبر لتطوير تقنياتهما الحربية. أما الولايات المتحدة، فإنها تنظر إلى إسرائيل وكأنها إحدى ولاياتها. ويمكن تتبّع الأسلحة التي تمدّ بها إسرائيل حتى من خلال مصادر مفتوحة. وهنا، لا يمكن تبرير صمت منظمات المجتمع المدني تجاه هذا الواقع الجديد بأي ذريعة.
في تركيا، كان الأولى بالقانونيين أن يرفعوا صوتهم لإدانة الجرائم المرتكبة في غزة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن بعض المؤسسات والمنابر الإعلامية التي تأسست في تسعينيات القرن الماضي تحت شعار حقوق الإنسان والحريات ، كانت تتحرك ضمن أطر استشراقية، وتخدم الأهداف الإمبريالية. ولذلك، فإن مطالبة البعض بفتح تحقيق قانوني أو حتى محاكمة أخلاقية لألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة على ما ارتكبوه من جرائم الحرب في غزة، قد تُقابل باتهامات بالرغبة في “الانتقام”. ولكن هذا توصيف خاطئ. فتركيا، هي من الدول الرائدة عالميًا في مجال المساعدات الإنسانية، وهي قادرة على القيام بدور مماثل في المجال القانوني القائم على الحجج القانونية والأدلة القاطعة. وهذا يتطلب بالضرورة رؤية جديدة. فروح العصر تتغير، والتغيير الفكري ارتباطًا وثيقًا بتحمل المسؤولية. وعلى الأجيال الجديدة أن تتحمل المزيد من هذه المسؤولية.
لا شك أنه يجب علينا أن نرثي غزة. ونحن نؤمن أن وداع الشهداء إلى مثواهم الأبدي بصمت مهيب هو سلوك يليق بالكرامة. ولكننا مطالبون أيضاً بتحمل المسؤولية تجاه الأحياء. فمن هنا ينبع النضج الأخلاقي الحقيقي.