لماذا عبد الناصر.. الآن؟! | جريدة الرؤية العمانية

د. أحمد بن علي العمري
جمال عبد الناصر رحمه الله الرئيس المصري الأسبق، لم يكن زعيمًا لمصر فحسب؛ بل كان قائدًا عربيًا وإقليميًا ودوليًا. أحبه مؤيدوه واحترمه أعداؤه، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”، في حديثه عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن، لماذا يُنبش في ماضيه الآن، بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ ولماذا تخصص بعض القنوات برامج كاملة، تستضيف فيها محللين لمناقشة تسريب مشكوك في صحته؟ ولماذا يكثر التلميح والغمز والهمز بقصد الإساءة إليه؟ هل هذه التسريبات بريئة؟ أم أنها مفبركة باستخدام الذكاء الاصطناعي؟ ولماذا جاءت مجتزأة، أليس من غير المنصف أن نقرأ الآية: “ويل للمصلين” دون أن نكملها؟ من يقف وراء هذه الضجة؟ وما مصلحته؟ ولماذا اختير هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا نحاكم رجلاً بعد رحيله بخمسة وخمسين عامًا وننتقده بمعايير العصر الحالي؟
يقول البعض إن الهدف هو قطع آخر خيط للكرامة العربية، ومحو أي أثر للهوية التضامنية، وتشويش الفكر الداعي للحرية والإرادة المستقلة.
وُلد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918م في الإسكندرية لأسرة من صعيد مصر، وتخرج في الكلية الحربية عام 1938م، وشارك في حرب فلسطين عام 1948؛ حيث حُوصر مع رفاقه في الفالوجة، وربما تركت تلك التجربة أثرًا عميقًا في تفكيره السياسي.
قاد، مع مجموعة من الضباط الأحرار (بينهم محمد نجيب وأنور السادات)، الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملك فاروق، مؤسسًا النظام الجمهوري في 23 يوليو 1952م، وهو يوم ما زالت مصر تحتفل به حتى اليوم. أصبح رئيسًا للوزراء عام 1956م، ثم رئيسًا للجمهورية بعد استفتاء شعبي، ليصبح ثاني رئيس لمصر بعد إعلان الجمهورية، خلفًا لمحمد نجيب.
كان أحد أبرز القادة السياسيين في التاريخ العربي الحديث، وهو من أمّم قناة السويس عام 1956م، الأمر الذي أدى إلى العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر، لكنه نجح في التصدي له دبلوماسيًا بدعم أممي وسوفييتي، مما عزز مكانته كرمز للتحرر من الاستعمار.
سعى عبدالناصر لنشر الفكر القومي العربي عبر مشروعه الوحدوي، الذي تجسد في تأسيس الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا (19581961)، وظلت مصر تحتفظ بالاسم حتى عام 1971م.
كما أنشأ السد العالي لتوليد الكهرباء، في خطوة سبقت عصرها في المنطقة.
لكن عبد الناصر خسر حرب 1967م، حيث فقد العرب سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة بعد هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة، مما دفعه إلى إعلان تنحيه عن الحُكم وعن أي منصب رسمي، ثم عدل عن ذلك بناءً على رغبة الجماهير بعد مظاهرات شعبية ضخمة.
عقب ذلك، قاد عملية إعادة بناء الجيش، وشن حرب استنزاف ضد إسرائيل لاستعادة سيناء، وظل يقودها حتى رحيله عام 1970م.
توفي عبد الناصر إثر نوبة قلبية في سبتمبر 1970م، أثناء وساطته لإنهاء الخلاف الأردنيالفلسطيني المعروف بـ”أحداث أيلول الأسود”.
تبنى عبدالناصر إصلاحات زراعية وصناعية تحت شعار العدالة الاجتماعية، كما دعا إلى القومية والوحدة العربية، وكان أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز مع تيتو ونهرو لموازنة القوى العالمية خلال الحرب الباردة. غير أن معارضيه يرون أنه عزّز الحكم العسكري وقمع المعارضة، مثل حل جماعة الإخوان المسلمين (التي تم حلها لاحقًا مجددًا).
لكن، لماذا يُطرح ماضيه اليوم، بعد مرور كل هذه العقود؟! إذا نظرنا إلى تاريخ الشعوب الأخرى، هل نبشت الصين في ماضي ماو تسي تونغ؟ أو كوريا في ماضي بارك تشونج هي؟ هل فتحت روسيا سجلات جوزيف ستالين؟ أو باكستان ملف محمد علي جناح؟ هل أعادت الهند النظر في إرث غاندي؟ أو بريطانيا في ماضي الملكة فيكتوريا وتشرشل؟ هل شغلت فرنسا نفسها بنابليون بونابرت؟ أو تشيلي بأوغستو بينوشيه؟ حتى ألمانيا، هل نبشت في ماضي هتلر؟
فلماذا نحن دائمًا نسير في اتجاه معاكس؟ ولماذا نُسلّم السكين لعدونا ليطعننا بها؟
لقد قاد الرجل مرحلة انتقالية صعبة من الملكية إلى الجمهورية، وفي مثل هذه الظروف، تحدث بعض التجاوزات من قبل البعض من النافذين في السُلطة، وغالبًا ما تكون قرارات فردية. كانت البلاد طوال فترة حكمه في حالة حرب مستمرة، لكنه عمل بكل ما استطاع وفق الإمكانيات المتاحة حينها.
إن كل هذه التساؤلات في حد ذاتها تحمل الأجوبة؛ فالسؤال هو ذاته الجواب!
لنذكر محاسن موتانا، ولله في خلقه شؤون.