اخر الاخبار

تحويل بيت السياب إلى متحف عراقي.. محاولة أخيرة

من خلال باب خشبي صغير، لا يشبه أبواب البيوت الحديثة المجاورة، مزخرف يعلوه فانوس قديم، ويتوّجه طابوق مفخور، يدخل الزائر إلى البيت التراثي الكائن في قرية “بَقيع”، تصغير “بقعة”، أو “بِگيع”، كما يُلفظ عراقياً. 

هذه القرية الصغيرة هي جزء من جيكور، القرية الأكبر التابعة إدارياً لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة. في إحدى غرفه المتواضعة، ولد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926 – 1964).

بين هذا البيت، ونهر بويب المتدفّق قربه، وبساتين جيكور الظليلة، تفتّحت رؤية السياب الأولى للعالم، فحوّل المكان عبر شِعره إلى أسطورة حيّة، ورمز دائم يقترن باسمه أينما ذُكر. 

لم يعد البيت ونهر القرية مجرد معالم جغرافية، بل تحوّلا إلى قبلةٍ لعشّاق السياب، ومقصد للباحثين عن ينابيع إلهامه التي غذّت شعره ووجدانه.

تاريخ البيت

بُني البيت بحدود الربع الأول من القرن التاسع عشر، مستخدماً الطابوق المفخور لأساساته، والطين المخلوط بالقش، “اللبن” لبقية بنيته. بتصميمه الريفي التقليدي، تتوسّطه فسحة واسعة تحيط بها غرف مستطيلة، يتخللها الضوء والهواء، وكان يحيط بها سابقاً بساتين نخيل وفواكه تعود لآل السياب، قبل أن تحاصرها بيوت الزحف العمراني وتمحيها.

تقول ابنة الشاعر آلاء بدر السياب لـ”الشرق”: “في هذا البيت عاش الوالد سنوات طفولته في ظل أمه، وقضى فترات متقطّعة من شبابه الباكر بين جنباته، حيث انتقل إلى بيت جدته لأمه في منطقة “المناوي”، بعد أن أنهى مرحلة دراسته الابتدائية، وانتقل إلى الصف الأول في ثانوية البصرة للبنين، التي تُعرف حالياً بـالإعدادية المركزية، وكان يعود أثناء العطل المدرسية إلى داره في جيكور، وبقي هكذا حتى التحاقه بدار المعلمين العالية في بغداد مطلع عام 1943”.

تضيف: “من الأحداث المهمة التي وقعت له في هذا البيت، حدثان تركا أثراً بالغاً في نفس والدي وهما: وفاة والدته، ثم جدته لأبيه بعد سنوات قليلة، وهي التي تولّت رعايته بعد وفاة الوالدة. وكان لهذين الحدثين تأثير عميق، تجلى في العديد من قصائده”.

 غياب عائلة السياب

حتى ستينيات القرن الماضي، ظل البيت مأهولاً بثلاثة أجيال من آل السياب، قبل أن يبدأ خلوّه التدريجي بفعل وفاة الكبار وهجرة الأبناء نحو المدن.

مع هذا الغياب، بدأ البيت يتحوّل تدريجياً إلى أغراض أخرى؛ مرّة مخزناً لمحصول الطماطم الذي كان يزرعه عبد المجيد السيّاب، عمّ الشاعر، ثم مقراً لنادٍ رياضي صغير أسسه شباب العائلة، ثم ملعباً لكرة القدم والطائرة. 

في السبعينات، قرّرت وزارة الإعلام، تحويل البيت إلى متحف. تمّ شراء الدار فعلاً، غير أن هذا المشروع لم يتم.

جاءت الحرب العراقية الإيرانية لتُسدل فصلاً جديداً من الإهمال، وانشغال الجهات الثقافية عنه، وتحوّل إلى مأوى مؤقّت لعائلات فرّت من القصف. تضررت أجزاء كبيرة من بنائه، بما فيها بابه الخشبي وشبابيكه القديمة. 

غابت ملامح البيت التراثية، وصار أقرب إلى خربة، واستمر هذا الحال وخصوصاً بعد حرب 2003 وما تلاها من نهب ودمار.

محاولات متعثّرة 

مع كل هذا التحوّلات، ظلّ البيت محور اهتمام رسمي متعثّر، كلما هدأ غبار حرب أو تبدّل وزير. عام 2002، شرعت وزارة الثقافة بمحاولة لإعادة تأهيله، لكنها توقفت مع الغزو الأميركي في 2003.

 ثم عادت الوعود عام 2013، حين أعلنت محافظة البصرة عن مشروع لترميم المنزل بكلفة بلغت 360 مليون دينار، وتحويله إلى متحف شخصي ومنتدى ثقافي.

 المشروع كان مقرراً إنجازه في 240 يوماً، مع التزام قانوني بالحفاظ على شكل المبنى وفق قانون الآثار، لكنه لم يحقّق النتائج المطلوبة.

عام 2015، تمّ تخصيص ميزانية جديدة لإعمار الدار، واستُبدلت الأرضية الطينية بـ”سيراميك” حديث، وغابت النوافذ والأبواب الخشبية لصالح بدائل مستوردة، أفقدت المكان طابعه التاريخي.

 بدا أن الترميم قد تمّ إنجازه ظاهرياً، لكنه لم يُحافظ على الذاكرة. لم يكن ترميماً، بل تحديثاً هجّن المعمار القديم وطمس روح المكان.

 تذكر ابنة الشاعر السياب، “أن كل هذه المحاولات تمّت من دون الرجوع إلى العائلة والاستئناس برأيها، وأخذ المعلومات الصحيحة عن الدار وعن الطريقة الأصلية للبناء، لهذا كانت غير صحيحة ولم تنجح، ولأنها في ذات الوقت قامت على بقايا بدايات ترميم البيت للمرّة الأولى عام 1981”.

ثم عادت الحكومة المحلية في 2019 بمحاولة جديدة، وأوكلت الترميم لشركة محلية، تعهّدت باستخدام مواد بناء قديمة ونادرة. لكن المشروع كعادته، تعثّر في منتصف الطريق، وبقيت الشعارات من دون أثر ملموس.

عام 2023، تصدّرت صور جديدة لحالة الدار، أظهرت ما وصلت إليه سقوف بعض الغرف الداخلية من تهالك وإهمال. 

أثارت الصور استياء العديد من المثقفين العراقيين، الذين وجّهوا نداءً للجهات المعنية لإنقاذها. استجابت الحكومة، وأطلقت وزارة الثقافة بتوجيه من رئيس الوزراء، مبادرة لإعادة التأهيل. لكنها سرعان ما خبت، وعاد الإهمال، وعاد الانهيار عام 2024 ليكرّس من جديد المشكلة نفسها.

رمزية ثقافية

يُصنّف الدار، وفقاً لقانون الآثار العراقي، ضمن المباني التراثية التي تستوجب الحماية والصيانة المستمرة، بوصفها جزءاً من الذاكرة الثقافية والوطنية.

 وعلى الرغم مما عانته من إهمال وتراجع في أعمال الصيانة والتأهيل، إلا أنها احتضنت، على مرّ السنوات الماضية، عدداً من الفعاليات الثقافية المهمة، نظّمتها مؤسسات أدبية وثقافية، شملت مهرجانات شعرية وندوات فكرية مختلفة، أعادت للبيت شيئاً من روحه الأدبية ومكانته الرمزية. 

غير أن هذه الفعاليات وعلى الرغم من أهميتها، لم تدم طويلاً، وظلت متقطعة وعُرضة للتوقف، في ظل غياب الدعم المؤسسي والرؤية المستدامة لصون هذا المعلم الثقافي.

إعادة إعمار أخيرة

عاد بيت الشاعر إلى دائرة الاهتمام مجدداً، بعد الإعلان في 14 مايو 2025، عن انطلاق مشروع إعماره وتحويله إلى متحفٍ ثقافي. 

يأتي هذا المشروع ثمرة تعاون مشترك بين مؤسسة “رؤى البصرة الثقافية”، ومفتشية الآثار والتراث في البصرة، ومنظمة اليونسكو، بحضور نخبة من المثقفين والمهتمين، من بينهم السيدة آلاء السياب، ابنة الشاعر.

المشروع الذي دخل مراحله الأولى بالفعل، شهد الانتهاء من عملية المسح المعماري للبيت الطيني التاريخي، ويجري حالياً إعداد التصاميم النهائية التي يُنتظر أن تُستكمل بحلول نهاية يونيو. 

من المقرر أن تنطلق أعمال التنفيذ مطلع سبتمبر، على أن تستمر قرابة تسعة أشهر، تحت إشراف مهندس فرنسي بارز، مع التأكيد على الحفاظ على الطابع المعماري الأصيل للدار، من حيث الروح الشرقية والمواد التقليدية المستخدمة في البناء.

وأعربت السياب لـ”الشرق” عن أملها في أن “تكون الدار بعد إعمارها، تليق بصاحب الإرث الحضاري والثقافي، الذي يُعدّ أيقونة عراقية وعربية مهمة”.

وأشارت إلى أن “الدار ستتضمن بعض مقتنيات الشاعر التي لا زالت بحوزة العائلة، وسيتم عرضها ضمن ترتيب خاص بعد الانتهاء من عمليات التأهيل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *