أميرة صليبيخ

دعونا نواجه الواقع، ونتوقف عن الكذب ولو مرة واحدة فقط. دعونا لا نُجمّل الحقائق ونسميها بمسميات زائفة. دعونا لا نقول عن غياب الأب أنه «تضحية من أجل الأسرة». دعونا لا نبرر له إهماله وتقصيره المتعمد، لأنه في الواقع لم يكن مشغولاً، بل كان هارباً من مسؤولياته نحو حياة أخرى أكثر تشويقاً وإثارة في الخارج، وإذا عاد للبيت، فهو مثل لاعب احتياط في مباراة لم تلعب قط!

أكتب هذا المقال؛ لأنني شاهدة على واقع مؤلم، رأيت فيه قصصاً كثيرة لأسر تحطّمت بسبب أبٍ غائب، لا يتواجد، لا يهتم، لا يسمع ولا يشعر. أبناء ضاعوا، انحرفوا، تشوّهوا من الداخل، وزوجات قمن بالخيانة أو طلبن الطلاق أو مِتن حرفياً من القهر والخذلان. والمؤلم أكثر أن هذه الأسر تُعيد إنتاج الألم. فالأب الذي فشل في ممارسة دور الأبوة تراه يُنتج جيلاً يكرر الأخطاء والعُقد ذاتها على أبنائه، في دائرة ملعونة ومستمرة من الاضطراب النفسي والاجتماعي.

ما يوجع الأبناء ليس موت الأب كما يظن البعض، بل حضوره الباهت المزيف الذي يترك في النفس أثراً لا يُشفى، لأنه يزرع فيهم قناعة بأنهم أشخاص بلا قيمة، ولا يستحقون أدنى اهتمام من أحد. هذا الأب لا يعرف كيف يشارك في تفاصيل حياة من يفترض أن يكونوا محور حياته. صمته السلبي أقسى من أي شتيمة، لأنه يحفر قلوب أبنائه دون رحمة، ويؤكد على دونيتهم في عينيه.

صادفتُ رجالاً ونساءً في الثلاثين والأربعين وحتى الخمسين، يخجلون من قول «أنا أحتاجك». وينهارون أمام جملة: «أنا فخور بك». ويلهثون طوال حياتهم بحثاً التقدير في عيون الآخرين، لأن عين الأب منذ البداية كانت موصدة عنهم. بداخلهم حفرة عميقة لا تمتلئ مهما حدث ولا يسدها أي شخص، يحملونها كعاهة مستديمة لا أحد يعرف عنها سواهم.

الآباء كثيرون، لكن الأبوة شيء نادر. لا نريد أباً خارقاً. نريد أباً حاضراً. يعرف أسماء أبنائه، عددهم، تخصصاتهم. يقدرهم، يحتضنهم، يقول لهم دون مناسبة: أنا أحبكم وفخور بكم. بهذا فقط ينشأ الجيل القادم سوياً، وينجو من هذه الدوامة البائسة.

شاركها.