اتجهت أسر أخيراً إلى تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي لدعم أبنائها المكفوفين وتمكينهم من رؤية العالم عبر الصوت، بعدما أتاحت التطبيقات الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إمكانات وصف المشاهد والأشخاص والأماكن صوتياً، لتمنح المكفوفين استقلالية في التنقل والتفاعل مع محيطهم.
واعتبرت أن هذه الأدوات الرقمية باتت تلعب دوراً محورياً في تمكين أبنائها من فئة أصحاب الهمم من فهم بيئتهم، والتنقل داخلها بثقة، والتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية، من خلال تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتحليل المشهد وتقديمه صوتياً للمستخدم، ما يمنح المكفوف تجربة حسية متكاملة تُخفف التحديات اليومية التي تواجهه.
وروى والد الطفل محمد الحمادي (12 عاماً)، وهو طالب كفيف في الصف السادس، تجربته في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لدعم ابنه، قائلاً: «قررت الاشتراك له في نسخة مدفوعة من تطبيق (ChatGPT) بقيمة 800 درهم شهرياً، بعدما لاحظت مدى قدرته على تحويل الصورة والمكان إلى وصف سمعي فوري ودقيق، يساعده في تخيل ما يدور حوله، كأنه يراه بعينيه».
وأوضح أن التطبيق بالنسبة لابنه «نافذة صوتية مفتوحة على العالم، إذ يستخدمه في الأنشطة اليومية لمعرفة الأشخاص الموجودين حوله، من خلال توجيه كاميرا الجهاز نحوهم، والحصول على وصف آلي لأشكالهم وتعابير وجوههم، وحتى ألوان ملابسهم. كما يعتمد عليه عند التنقل أو الخروج من المنزل، حيث يساعده على إدراك المحيط، وتفادي الاصطدام أو الشعور بالضياع».
وأضاف الأب أن «التقنية جعلته أكثر ثقة بنفسه، وأقل اعتماداً على من حوله، لاسيما في التواصل مع الآخرين أثناء زياراتنا أو مشاركته في الفعاليات، إذ بات قادراً على التفاعل بناء على ما يسمعه من التطبيق».
وعلى الرغم من فاعلية التقنية، فإنه أكد أنه يضع قيوداً على استخدامها داخل المنزل، موضحاً أنه لا يسمح لابنه بتشغيل التطبيق في محيط العائلة، «حفاظاً على الخصوصية، نظراً لاعتماده على الكاميرا لتصوير البيئة المحيطة وترجمتها صوتياً».
ولفت إلى أن الاستثمار في هذه التقنية لم يكن خياراً ترفيهياً، بل ضرورة ملحة لتمكين ابنه من التكيف مع واقعه.
وتابع: «التقنية ساعدته على رؤية الحياة من زاوية جديدة لا تعتمد على العين، بل على الأذن والعقل. ومع ذلك، أحرص على تأكيد أهمية المهارات الحياتية، وأشركه في جلسات تدريب مع مختصين في العلاج الوظيفي لتطوير قدراته الشخصية».
من جانبه، قال عالم بيانات ومحاضر في كليات التقنية العليا، المهندس محمد الشحي، إن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة تمكين حقيقية للمكفوفين، ومن أبرز الإنجازات في خدمة الإنسانية، موضحاً أن «هذه التقنيات لم تعد مجرد وسيلة لتوفير المعلومة، بل باتت تقدم إحساساً إنسانياً يُمكّن المكفوف من التفاعل مع المحيط بثقة واستقلالية».
وأضاف: «لم تعد العتمة عائقاً أمام فهم المكفوفين للعالم، فقد أتاحت التطبيقات الحديثة شعوراً بالأمان والخصوصية والانتماء، فإسهام الذكاء الاصطناعي يتجلى في استخدام تطبيقات ونظارات ذكية تصف المحيط صوتياً، وتساعد في توفير الاستقلالية في تنفيذ المهام دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين، إلى جانب استعادة جزء من الخصوصية في المواقف اليومية».
وأوضح الشحي أن من أبرز الفوائد التي توفرها الأنظمة الذكية للمكفوفين، قراءة النصوص والمستندات بشكل فوري، ووصف المشاهد بدقة، والتعرّف إلى العناصر اليومية، مثل الألوان والعملات والطقس، وتسهيل التنقل وتجنب العقبات باستخدام الكاميرات والمستشعرات، والمساعدة في المهام المنزلية، مثل التسوق والطبخ عبر قراءة «الباركود».
وحول آلية عمل هذه الأنظمة، أشار إلى أنها تعتمد على تقنيات الرؤية الحاسوبية والذكاء الاصطناعي لتحليل الصور، وتوليد وصف صوتي بناء على المشهد، مع إمكان التكيف مع البيئة المحيطة، مثل رفع الصوت في الأماكن الصاخبة وخفضه في الأماكن الهادئة، وإعطاء الأولوية للأشياء الأقرب أو الأهم، باستخدام نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة مثل GPT4.
وأشار الشحي إلى وجود مخاوف تتعلق بالخصوصية، خصوصاً في بيئة المنزل، منها تصوير مشاهد خاصة أو ظهور أفراد العائلة دون إذن، أو مشاركة البيانات مع جهات خارجية أو متطوعين، مؤكداً أهمية تحقيق توازن بين الاستفادة من التقنية، والحفاظ على الخصوصية.
وأوضح أن بعض التطبيقات الذكية تعالج البيانات محلياً على الجهاز، فيما تستخدم أخرى الحوسبة السحابية مع أنظمة تشفير قوية، تشمل حذفاً فورياً للبيانات الحساسة. كما توفر هذه التطبيقات إشعارات تنبّه المستخدمين إلى سياسة الخصوصية، مع توجيهات واضحة حول كيفية استخدام الكاميرا داخل البيئات الشخصية.
وأكدت أخصائية علاج وظيفي، فريال عبدالستار خلفاوي، أن «تقنيات الذكاء الاصطناعي تؤدي دوراً محورياً في تسهيل حياة المكفوفين، وتقليل المخاطر اليومية التي يواجهونها، لاسيما في التنقل والتواصل»، مشيرة إلى أن «فقدان البصر يحرم الإنسان أول حاسة تمنحه معلومات دقيقة عن البيئة المحيطة، وهو ما ينعكس على أبسط تفاصيل حياته اليومية».
وأضافت: «من واقع تخصصي، أرى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي أسهمت بفاعلية في الحد من حوادث السقوط، لاسيما في البيئات غير المألوفة للمكفوفين والتي تمثل أحد أبرز التحديات التي قد تترتب عليها إصابات جسدية، مثل الكسور أو مضاعفات صحية، خصوصاً داخل المنزل أو أثناء التنقل».
واستدركت: «صحيح أن التقنية منحت جانباً من الأمان، خصوصاً عند ربطها بأحد الأقارب أو مقدمي الرعاية، لكنها تظل سلاحاً ذا حدين، فهي قد تسهل الحياة، لكنها في الوقت ذاته، لا تمتلك إحساساً أو مشاعر، وهو ما يميز البشر عن الآلة».
وتابعت: «في بعض الأحيان، قد تتعطل أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مفاجئ، أو ينقطع الاتصال بالإنترنت، أو يواجه المكفوف صعوبة في تحمل الكلفة العالية للأجهزة الذكية المتخصصة، ما قد يجعله في موقف حرج إذا كان يعتمد كلياً على هذه التقنيات، وهنا يتجلى جوهر دورنا كأخصائيي تأهيل، إذ نؤمن بأن الاستقلال لا يمنح تلقائياً، بل يُكتسب عبر التدريب المنهجي المتدرج»، مشيرة إلى أن التقنية لا ينبغي أن تكون بديلاً كاملاً عن المهارات الشخصية، بل هي داعم يكمل قدرة الفرد على إدارة حياته اليومية، ويعزز ثقته بنفسه وقدرته على التكيف مع تحديات الإعاقة.
وأوضحت خلفاوي أن دور الأخصائي الوظيفي لا يقتصر على تدريب المكفوف على المهارات الحياتية، بل يتكامل مع دور المهندس المعماري في تهيئة البيئة المحيطة، من خلال التعامل الدقيق مع التفاصيل المحيطة به مثل مساحة الغرف، وارتفاع الأسرّة، ونوعية الأرضيات، وامتداد الممرات، وحتى تصميم المطبخ، بما يضمن حرية الحركة الآمنة، مضيفة أنه يتم تحديد مسارات التنقل داخل المنزل، وزاوية استخدام العصا البيضاء، فهذه كلها عناصر تُبنى وفق معايير مدروسة يُراعى فيها استقلال المكفوف وسلامته، مع تأهيله لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي ضمن بيئة تُحاكي احتياجاته الفعلية.
وشددت على ضرورة أن «نعلم المكفوف كيف يتحكم في التقنية، لا أن تتحكم فيه، فالذكاء الاصطناعي أداة مهمة، لكن يجب أن تُستخدم كامتداد للتأهيل لا بديلاً عنه، حتى نحافظ على الحد الأدنى من الاعتماد على الذات، وهو ما نهدف إليه دائماً في برامج العلاج الوظيفي».
محمد الحمادي:
• التطبيق الذكي بالنسبة لابني نافذة صوتية مفتوحة على العالم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news