أضع نفسي أحياناً مكان صناع الأفلام هذه الأيام، وهم يبحثون عن فيلم مثالي تتوفر فيه شروط النجاح الجماهيري، وفي الوقت نفسه يرضي النقاد ووسائل الإعلام والرأي العام.
الخلطة التجارية معروفة: بعض الكوميديا، وبضعة استعراضات غنائية راقصة، وحفنة من النجوم ضيوف الشرف، ولكن حبذا لو أضفت إليها قضية مهمة، ووجهة نظر لا يختلف عليها أحد، مغلفة بسيناريو يحمل قصة توعوية مفيدة يشكرك عليها الناس، وتؤكد مكانتك كفنان ملتزم صاحب رسالة.
لن تجد بالطبع أفضل، ولا أسهل، من قضية هوس وبيزنس الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت شغلة من لا شغلة له، وشاغل من لا شاغل له، أي معظم الناس، والتي صارت الموضوع الرئيسي، أو الثانوي، المفضل، لكثير من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية في السنوات الأخيرة، وأحدثها فيلم “ريستارت”، المعروض حالياً ضمن موسم أفلام عيد الأضحى.
تكنولوجيا الرقص الخليع
تأثير تغلغل التكنولوجيا الحديثة والعالم الافتراضي في حياتنا، ليس بالتأكيد قاصراً على البنات اللواتي يرقصن أو يقمن ببعض النشاطات “الخليعة” من أجل حفنة دولارات، لكنه يمتد إلى كل شئ يتعلق بحياة البشر، من علاقاتهم الإنسانية وأعمالهم وعقولهم ونفوسهم ومشاعرهم، وهو تأثير يوشك على تغيير مستقبلهم تماماً، إما بنقلهم إلى مرحلة أرقى من الحضارة والتقدم، وإما التهديد بفنائهم أو تهميشهم وحلول عصر تحكمه برامج الذكاء الصناعي مع حفنة قليلة من المتحكمين فيها.
عادة، لا يشغل المغني والممثل تامر حسني باله بموضوع الفيلم، طالما أن القصة تحتوي على العناصر الجماهيرية المطلوبة من كوميديا ورومانسية وربما بعض الأكشن والمواقف الدرامية المؤثرة، وقبل كل ذلك ترسيخ حضوره كمغن من خلال عدد من الاستعراضات والأغاني اللطيفة، وحرص على مدار أفلامه على تحقيق هذه المعادلة بدرجات من النجاح، ربما كان أقلها فيلمه السابق “تاج” عام 2023، الذي استعار فيه “ثيمة” الشخص العادي الذي يتحول إلى بطل خارق.
في “ريستارت” قرر تامر حسني كعادته تقديم فيلماً كوميديا رومانسياً غنائياً، ولكن يعالج مشكلة اجتماعية، ومن ثم وقع اختياره على ظاهرة المؤثرين، الذين يتكسبون عيشهم، وأحياناً ملايينهم إذا “ضرب” حظهم، عن طريق مقاطع الفيديو التي تتضمن كل شئ وأي شئ، من الرقص إلى الطبخ ومن إلقاء النكات إلى مقالب الكاميرا الخفية، ومن النصائح الطبية إلى نقد الأفلام!
التهريج المعتاد
يبدأ الفيلم بذهاب بطلنا فني صيانة الهواتف المحمولة (المهندس) محمد، تامر حسني، وخطيبته عفاف، هنا الزاهد، إلى مسابقة للأفكار المبتكرة على الإنترنت، ويفوز مشروعان تافهان بالجوائز الأولى، بينما يحصل مشروع المهندس محمد الخيري والإنساني على مجرد شهادة تقدير وتمثال مصغر لمسلة.
مشروع محمد يقوم على فكرة تبرع كل مواطن بجنيه واحد لعلاج المحتاجين وحل مشاكل المتعثرين، وهي فكرة ساذجة سبق طرحها منذ سنوات بعيدة، ولم تسفر سوى عن ظهور مئات من النصابين، ولكن ليس هذا هو المهم، المهم هو الطريقة التي كتب ونفذ بها المشهد ليضحك جمهور العيد، فمحمد وعفاف يتبادلان الإيفيهات اللفظية “الجنسية” على كل شئ، من أول “خابور” المشروع الأول، لـ”فردة” صاحب المشروع الثاني، وحتى “المسلة” التي يحصل عليها محمد.
يبيع صناع الفيلم أي شئ للمشاهد في سبيل استدرار ضحكاته، ويعتمد الجانب الكوميدي في الفيلم على هذا النوع من “الإيفيهات” فقط، خاصة عندما يمتهن محمد وعائلته صنع المقاطع المصورة المضحكة والإباحية على مواقع التواصل، أو عندما يتزوج محمد عفاف، أو عندما يذهب إلى الملهى ليسكر وينسى ويغني مع الراقصة.
بجانب الكوميديا، يعتمد الفيلم على مشاهد الملهى والراقصات والأغاني الشعبية المعتادة لإثارة المرح والنشاط والمتعة البصرية الحسية بين مشاهديه، وكل ذلك معروف، ومألوف، وربما مقبول، في أفلام موسم العيد الموجهة لجمهور يسعى وراء ساعتين من الترفيه الخفيف والتسلية “الفارغة”، التي تناسب مزاج الأعياد.
ولكن مشكلة “ريستارت” تبدأ عندما ينتقل إلى إدانة ما يفعله الفيلم نفسه، من تهريج ورقص وتنطيط بهدف جلب المشاهدات والإيرادات، ويأخذ نفسه على محمل الجد، معتقداً، أو يحاول إقناعنا، بأنه، يناقش موضوعاً مهماً ومشكلة اجتماعية يريد أن يساعدنا على فهمها وحلها، وهي ظاهرة “المؤثرين” والـ”بلوجرز” والـ”يوتيوبرز” والـ”تيكتوكرز”.. إلى آخره.. والتي تتمثل في “مونولوج” تامر حسني الذي يخاطب به الإنترنت: “ضيعت ناس وهديت بيوت وعملت حاجات كتير وحشة”!
معالجة ساذجة
الظاهرة قد تكون مزعجة بالفعل، ولها جوانب سلبية أحياناً، ومأساوية أو كارثية أحياناً، وقد عولجت في أعمال كثيرة من قبل، منها مسلسل رمضاني كامل عرض منذ عامين بعنوان “أعلى نسبة مشاهدة”، كما شاهدناها في عشرات المسلسلات والأفلام الطويلة والقصيرة، لكن الشاغل الرئيسي لمعظم هذه الأعمال هو الجانب الجنسي الفضائحي المتمثل في المقاطع المصورة وصانعيها وعمليات الابتزاز التي يقومون بها ضد الضحايا أحياناً، رغم أن سلبيات الظاهرة تمتد إلى أشياء أخرى أكثر خطورة مثل الاحتيال والنصب وتدمير صحة الناس وربما التسبب في موتهم، بجانب التضليل وبث معلومات خاطئة واستهلاك وقت الناس في التفاهات.
هذه المعالجات التي تركز على الجانب الفضائحي تعكس نظرة عامة سائدة للتطور التكنولوجي، خاصة المتعلق بطوفان المعلومات والصور (في بلاد عملت دائما على التحكم في المعلومات والصور)، لا ترى في هذا التطور سوى جانبه “الإباحي”، ولا تهتم بالاستفادة من إيجابياته أو الحذر من سلبياته الأخرى الأكثر خطورة.
في “ريستارت” الذي كتبه أيمن بهجت قمر وأخرجته سارة وفيق، التي أخرجت فيلمي تامر حسني السابقين “مش أنا” و”تاج”، نجد المعالجة نفسها ووجهة النظر نفسها: لدينا عائلة كاملة تتكون من محمد وخطيبته، وأقاربهما، يقعون ضحية خداع شخص اسمه الجوكر، باسم سمرة، يعمل “وكيلاً رقميا” (هذا اسم المهنة!) يتعاقد معهم لعمل مقاطع مصورة كوميدية، تتصاعد حدتها تدريجياً، فمثلاً يساعد محمد وعفاف على الزواج، بشرط أن يرتدي محمد لباسه الداخلي فوق البنطال، ثم يطلب منهما أن ينهيا الزواج بطلاق يبث على الهواء، أما أغرب ما يفعله فهو إقناع شقيق محمد الكبير، علاء، محمد ثروت، بالتنكر كإمرأة والرقص بخلاعة.. وهو الموقف الذي يتكفل بإقناع محمد بترك العمل مع الجوكر مهما كانت الخسائر، خاصة عندما يعلم أيضاً أن الجوكر يحتفظ للأسرة ببعض المقاطع الشخصية التي تم تصويرها خلسة.
يقرر محمد أن يقوم بقطع الإنترنت عن البلد بأكملها، فيتحول وعفاف إلى غواصين في أعماق البحار يقومان بقطع توصيلات الإنترنت تحت البحر مستخدمين منشاراً بدائياً (هكذا، ببساطة، وسذاجة ما بعدها سذاجة).
التخريب.. أم التعايش؟
الحل الذي يلجأ إليه محمد، على غرابته ولا مصداقيته، يعري منطق الفيلم (والأعمال المماثلة) التي تتعامل مع التكنولوجيا (والتطور العلمي بشكل عام) باعتبارها الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ويدفعهم إلى الرذيلة، ولكن فيما تكتفي الأعمال السابقة بإدانة التكنولوجيا بدلاً من مستخدميها، يقوم محمد وخطيبته بعمل تخريبي وانتقامي من التكنولوجيا نفسها، لا يدركان تبعاته المدمرة إلا متأخراً، وذلك حين تتوقف الحياة تقريباً في البلد، فتتعطل المصارف والشركات، ويموت المرضى في المستشفيات، ويكتشف محمد وعفاف، وصناع الفيلم، وجمهوره، أنهم لا يستطيعون، عملياً، العيش دون الانترنت، وأن عليهم التعايش مع مشاكلهم التافهة (الصور الفاضحة وتفاهات السوشيال ميديا) ويتقبلوا الأعراض الجانبية السلبية للتقدم!
من دون أن يدري، يكشف الفيلم تهافت معالجته للظاهرة، إذ يتبين مع المشاهد الأخيرة أن ما فعله محمد لا يتناسب بالمرة مع المشكلة الصغيرة التي كان يعاني منها، وحتى ينتهي الفيلم بمحمد وعائلته والجوكر أصدقاء وأحباء من جديد، وكأن شيئا لم يكن، ومن الواضح أن سيناريو الفيلم قد تعرض لإضافات وتغييرات كثيرة، مرات لزيادة التوابل الكوميدية والاستعراضية، ومرات لإصلاح عيوب أو ملاحظات رقابية أو درامية في النص، ما أنتج في النهاية عملاً مفككاً، يكاد يكون سيريالياً ساخراً، لولا أنه يعتبر نفسه جاداً!
ممثلون يبحثون عن سيناريو
مشاكل السيناريو تمتد من الفكرة إلى الشخصيات: على الورق يخلو “ريستارت” من الكوميديا تقريباً، وهو ما يدفع الممثلين إلى افتعالها بإيفيهات لفظية ومبالغات حركية. وتقريباً، أيضاً، لا يوجد شخصية واحدة مكتوبة جيداً، الممثلون يصارعون لكي يجدوا لأنفسهم أدواراً.
ويعاني تامر حسني أكثر من الجميع لأن شخصيته يفترض أنها عاقلة نبيلة، وبالتالي لا يوجد له مساحة للعب دور الشقي خفيف الظل التي يبرع فيها، وفي كثير من المشاهد يبدو وكأنه، فعلياً، لا يعرف ما الذي يفعله، على العكس تطلق هنا الزاهد لجانبها الكوميدي العنان، وشخصيتها الحائرة بين عشق المال والاستعداد للتنازل من ناحية، وحب خطيبها المثالي من الناحية الثانية، بها مساحات أكبر للحركة.
ورغم وجود عدد كبير من الممثلين وضيوف الشرف في الفيلم، من إلهام شاهين وميمي جمال إلى محمد رجب وأحمد حسام (ميدو)، بالإضافة إلى باسم سمرة ومحمد ثروت، إلا أنه، عملياً، لا يوجد الكثير ليقدموه.
ويظهر ذلك بوضوح في الهدر الذي تعرضت له موهبة محمد ثروت، المتفجرة بالكوميديا عادة، والذي لا يجد شيئاً يفعله هنا سوى بعض المبالغات الزائدة عن الحد في اللعب بملامحه وجسده، وهو ما يسري أيضاً على شيماء سليم وعصام السقا وبقية الممثلين الذين يبدون تائهين بين جنبات الفيلم.
* ناقد فني