علي عيد

هل تبالغ الصحافة في توصيف دورها، وكأنها تريد أن تقول إنها تقوم بمهمة أشبه بالفضيلة تجاه المجتمع، أم أن عليها أن تلعب هذا الدور بالفعل عندما تكون مستقلة، وماذا يعني أن تكون الصحافة والصحفيون مستقلين، وهم في النهاية موظفون يريدون خبزهم وعيشهم، مثل الفلاح وعامل التنظيفات.

تلك الأسئلة وغيرها، أثارها في ذهني مقال لواحد من أهم صحفيي الاستقصاء والباحثين الأكاديميين في العالم، وهو مارك لي هنتر (Mark Lee Hunter)، حمل عنوان “من الجمهور إلى المجتمع: مستقبل بديل للصحافة الرقابية”.

يطرح هنتر، في المقال الذي نشر في 30 من كانون الثاني 2025، سؤالًا جوهريًا، “ما الذي يحتاج المجتمع إلى معرفته؟”، ثم يجيب: ليس “ما نعتقد أنهم يجب أن يعرفوه”، معتبرًا أن الجواب الأخير “كان لعقود، إما بدافع الغطرسة، أو باسم إعطاء صوت لمن لا صوت لهم (الضعفاء)”.

ويقترح هنتر إجابة أخرى يعتبرها أفضل، وهي: “يمكننا أن ننصت عن كثب إلى الأصوات التي يملكها الناس بالفعل”، فالمهمة ليست مجرد بناء جماهير، بل بناء مجتمعات حولنا ومعنا، كصحفيين وإعلام مستقل، ويقترح تسمية هذا النوع من الإعلام “الصحافة المُفعّلة من قِبل المجتمع”، وهو “الإعلام المُوجّه من قِبل أصحاب المصلحة”.

عملت صحفيًا لسنوات طويلة، وتنقلت بين الإعلام الخاص المملوك لرأس مال ثري، والحكومي الذي تديره السلطة، والمستقل الذي يدعي أنه يحمي الحقيقة، وفي جميع الحالات كنت وزملائي نحمل نفس المعاناة أو نتمتع بذات الميزات، لكننا كنا نقوم بذات الجهد في جميع الأوقات.

في إعلام الأثرياء الخاص، كنا نتمتع باستقرار وظيفي ونلعب دور “الماكينة” الماهرة لجذب المعلن، ونبتعد عن الاستفزاز لأن كل من يملك في جيبه قرشًا هو زبون محتمل للمستثمر في الإعلام، وفي إعلام السلطة كان علينا أن ننظر فقط في اللغة والعناوين وإدارة مساحة العمل، وكان كشف فساد السلطة ممنوعًا إلا عند الحاجة التي تراها هي أو عندما يخدم هذا الكشف توجهاتها كإبعاد أحد المتنفذين، وكانت إدارة العمل تفترض في الحالتين عدم العداء للسلطة.

النموذجان السابقان يدفعان إلى الحديث عن النموذج الثالث، وهو الإعلام المستقل، ففي بلد مثل سوريا، وخلال سنوات الحرب، انقسم الإعلاميون إلى كلاب سلطة وخارجين عليها، ولا حلّ بينهما.

أميز بين تعامل القانون مع الإعلام المستقل في دول تضمن تشريعاتها حرية الإعلام، بمستوى متفاوت، ودول أخرى لا مكان فيها لصوت عاقل أو مستقل أو مدافع عن رأي معارض، ولا أظلم صحفيًا لم تتح له الظروف أن يعيش في بلد يحمي قانونه حرية الصحافة، لكن ما يجب تأكيده أن انعدام حرية الصحافة يفرض على الصحفي أن يتمتع بالشجاعة ليقول لا عندما يتعلق الأمر بالانجراف لمصلحة المستبد ضد غالبية الناس.

وصلت إذًا إلى رأس الخيط الذي يقودني إلى معنى أن أكون صحفيًا مستقلًا في بلد مثل سوريا اليوم، وهذا يفتح أمامي الحديث عن أمرين في غاية الأهمية، الأول: ضمان عيشي كأي عامل، والثاني: خطتي كي أكون مستقلًا فاعلًا وأين أجد مجتمعي المعني بهذا النوع من الصحافة.

في بيئات اقتصادية مستقرة، نشأت صحافة لها مجتمعاتها، وقد تطورت أدواتها ومبررات بقائها، وهنا أعود إلى مقال مارك لي هنتر، عندما يقول: يريد المجتمع معلومات عملية تُسهم في تحسين الأمور، لهم ولمن يهتمون لأمرهم. لا يتوقعون منا أن نكون محايدين بشأن ما نؤمن به ونرغب فيه، بل يتوقعون منا أن نكون شفافين.

يسمي هنتر هذا النوع من الإعلام، بـ”إعلام أصحاب المصلحة”، فمن هم أصحاب المصلحة في سوريا مثلًا.

هل تتقاطع مصالح ممولي الإعلام المستقل، إن صح بعدها تسميته بالمستقل، مع مصالح أي مجتمع في سوريا، وهل تتقاطع مصالح السلطة مثلًا مع مصالح كل مكونات المجتمع أو أغلبيته أم أجزاء منه، وإن كان كذلك فنحن نعمل لمصلحة مَن الممولين أم السلطة أم المجتمع؟

إذا كنت، كصحفي، سأدعم استقرار السلطة في المرحلة الانتقالية، بسبب المخاطر من تفجّر الوضع الاجتماعي والضرر الكبير المحتمل، أو أسعى لدعم فكرة تقويض السلطة لأن جزءًا من المجتمع يرى ذلك، فهل أنا مستقل، ومن أمثل في الحالتين؟ وكيف تبحث الصحافة المستقلة عن مجتمعها، وتضمن استمرارها في هذه البيئة والمرحلة المعقدتين.

يقول هنتر: في جميع أشكال الصحافة، فإن هذه اللعبة الناشئة تدور حول السلطة. وكما هو الحال في الصحافة السائدة، فإن الصوت المنفرد يُفقد بسهولة أكبر. سواء رغبنا في الانحياز إلى أي طرف أم لا، فسنحتاج إلى من يقف إلى جانبنا.

أخلص إلى القول، دون شك، إن الصحافة المستقلة كما ينظّر لها الأكاديميون في الغرب، ليست هي تمامًا ما تعيشه مجتمعات تعاني عدم الاستقرار والقبضة الأمنية الشديدة وكذلك التدهور الاقتصادي.

من سيدفع من الجمهور في بلد مثل اليمن أو السودان أو سوريا أو حتى مصر ثمن المقال الذي يكتبه، حتى يصبح مستقلًا، ومتى يمكن أن يحصل ذلك؟ إلى ذلك الحين سأبقى متشككًا في كل النظريات، وسأكتفي بالقول إن أهم ما يمكننا فعله هو أن نحكم ضمير الصحفي في غياب الصحافة المستقلة.. وللحديث بقية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.