قرر مهرجان فينيسيا السينمائي تكريم النجمة الأميركية كيم نوفاك بمنحها جائزة الأسد الذهبي عن مجمل مسيرتها الفنية، في دورته الـ82 والمقرر إقامتها في 27 أغسطس المقبل، وذلك تقديراً لإرثها الاستثنائي ومواقفها التمردية الهادئة في وجه التنميط الهوليوودي.
نوفاك، التي اشتهرت بدورها في فيلم Vertigo للمخرج ألفريد هيتشكوك، اختارت منذ بداياتها أن تكون امرأة بصوت وهوية مستقلة، رافضة الانصياع لصورة “النجمة الجاهزة”.
ففي زمنٍ كانت فيه هوليوود تصنع النجمات كما تُصنع الدمى، وتعيد تشكيل النساء وفق أهواء السوق الذكوري، خرجت امرأة قررت أن تقول: “لا”، لم يكن رفض كيم نوفاك صاخباً أو عنيفاً، بل جاء هادئاً، واعياً، ومتسقاً مع جوهرها الداخلي.
منذ اللحظة الأولى، رفضت أن تكون مجرد ظلّ لمارلين مونرو أو صورةً جميلة على ملصق فيلم، بل سعت لأن تكون امرأة بصوت، واختيار، وملامح لا تتكرر.
وُلدت نوفاك عام 1933 في شيكاغو لعائلة من أصول تشيكية–سلوفاكية، ودرست الفنون في معهد شيكاغو بعد حصولها على منحتين دراسيتين، دون أن يخطر في بالها أنها ستغدو أحد أشهر وجوه هوليوود. جاءتها فرصة التمثيل مصادفة، خلال عمل صيفي في حملة دعائية لشركة أجهزة كهربائية، حين اكتشفها كشاف مواهب من شركة “كولومبيا بيكتشرز”، فكان الدخول إلى السينما بداية لمسار غير تقليدي.
أول تمرّد: الاسم والهوية
كان أول صدام بينها وبين النظام السينمائي حول الاسم. طُلب منها التخلي عن اسمها الكامل “مارلين بولين نوفاك” تفادياً للخلط مع مارلين مونرو، فوافقت على إسقاط الاسم الأول فقط، وأصرت على الاحتفاظ بـ”نوفاك”، كعلامة تحدٍ، ومنذ تلك اللحظة، اختارت أدواراً تبتعد عن الصورة النمطية للمرأة المثيرة، مفضّلة أداء شخصيات معقدة ومضطربة تعكس هشاشتها الإنسانية.
وفي فيلم Vertigo لألفريد هيتشكوك، بلغت نوفاك ذروة تجلياتها الفنية. لم تكن مجرد ممثلة تؤدي دوراً مزدوجاً، بل كانت تجسّد، بحساسية فائقة، انقسام الذات بين ما نحن عليه وما يُراد لنا أن نكونه. جسّد الفيلم صراعها الداخلي كما هو، وصوّرها كنموذج للمرأة التي تتعرض للتشكيل من قبل الآخر، لكنها لا تنهار بل تخرج منتصرة بصمتها العميق.
استقلالية اقتصادية
في العام نفسه، أسست نوفاك شركتها الإنتاجية الخاصة، لتكون أول امرأة تتخذ هذه الخطوة الجريئة في هوليوود. وعندما علمت بأن أجرها يقل كثيراً عن زملائها الذكور، خاضت إضراباً صامتاً حتى عُدّل العقد. لم تكن تبحث عن صخب إعلامي، بل عن عدالة غائبة. أثبتت أن الجمال لا يناقض التفكير، وأن الأنوثة لا تتنافى مع الوعي والكرامة المهنية.
حين بدأت العروض الجيدة تتلاشى بعد وفاة المنتج هاري كوهن، شعرت نوفاك بالغربة، وقررت الابتعاد عن آلة الشهرة التي تسحق الأرواح. لم يكن انسحابها من السينما انكساراً، بل قراراً ذاتياً لحماية ذاتها. اختارت العيش في منزل يطل على المحيط ثم انتقلت لاحقاً إلى مزرعة في ولاية أوريغون، تمارس فيها الرسم وركوب الخيل، وتعيش حياة بعيدة عن الزيف.
من السينما إلى اللوحات
تحوّلت نوفاك إلى الرسم، وشاركت في معارض مرموقة، منها مراجعة شاملة في متحف باتلر للفن الأميركي. في لوحاتها، عبّرت عن وجع الطفولة وضغط النجومية وانتصارات الصمت، فرسمت وجوهاً حائرة ونساءً متأملات وخيولاً تهيم في الطبيعة.
في سنواتها الأخيرة، وبعد رحيل زوجها الطبيب البيطري، عادت نوفاك إلى الكلمات، تكتب الشعر عن الوحدة، والطفلة التي كانت، والمرأة التي أصبحت. كتبت عن عالم يخلط بين الأضواء والسعادة، وتحدثت عن خيولها وكلابها ومنزلها الذي اعتبرته ملاذاً داخلياً للمصالحة.
لم تكن كيم نوفاك صاخبة مثل غريتا غاربو، ولا مأساوية مثل مارلين مونرو، لكنها حفرت لنفسها مساراً خاصاً، قوامه الهدوء والكرامة والصدق. رفضت التنميط بهدوء، وتمردت دون ضجيج، وخرجت من معركة هوليوود الكبرى بذاتها سليمة.
واليوم، حين يقف لها مهرجان فينيسيا ويمنحها الأسد الذهبي عن مجمل مسيرتها، فهو لا يكرّم نجمة من الماضي فحسب، بل يحتفي بامرأة اختارت أن تكتب حكايتها بيديها.. ونجَت.