ينذر موسم زراعي جديد في سوريا، بعودة منافسة مألوفة على القمح بين الحكومة والإدارة الذاتية للأكراد شمال وشرق البلاد، بعد أن تسبب شح الأمطار وزيادة الطلب المحلي في تفاوت تسعير المحصول، في بلد تصل حاجته السنوية من القمح إلى نحو 4 ملايين طن.
وظهرت بوادر هذه المنافسة من خلال تحديد الإدارة الذاتية لسعر الطن الواحد من القمح عند 420 دولاراً، لتسارع الحكومة السورية عبر وزارة الاقتصاد والصناعة إلى إصدار قرار بتحديد سعر الطن الواحد من القمح عند 320 دولاراً. وألحق القرار بمرسوم رئاسي أضاف 130 دولاراً للطن، كمكافأة تشجيعية للفلاح الذي يسلم محصوله إلى المؤسسة السورية العامة للحبوب.
وحتى الآن، لم يصدر أي قرار مماثل عن الإدارة الذاتية، لكن من المتوقع أن تتخذ تدابير لمنع تسليم القمح خارج مناطق سيطرتها، وحصر الاستلام في المراكز المخصصة لها، وذلك في إجراء سنوي بات معتاداً منذ عام 2018، في محاولة لتأمين حاجة منطقتها من القمح.
ومنذ بدء الانتفاضة ضد نظام بشار الأسد في عام 2011، عاشت سوريا تراجعاً حاداً في إنتاجها من القمح، وجلبت عقوبات دولية وحصاراً اقتصادياً، قيوداً شديدة على الاستيراد.
وتسبب عام جاف آخر في خروج المساحات التي تعتمد في ريها على مياه الأمطار من حسابات المزارعين في إنتاج القمح. ومن المنتظر أن يتسبب ذلك في لجوء السلطات الجديدة، التي خلفت نظام بشار الأسد في نهاية العام الماضي، إلى الاستيراد؛ لتعويض الفاقد بين الإنتاج والحاجة السنوية من المحصول.
تنتج سوريا القسم الأكبر من قمحها من محافظات الشمال الشرقي، وأبرزها الحسكة، بفضل خصوبة أراضيها والمساحات الواسعة الكبيرة المزروعة من المحصول الذي يشكل غالباً نحو نصف إنتاج البلاد، كما حصل العام الماضي حين أنتجت الحسكة أكثر من مليون طن.
وخلال السنوات الماضية، اعتادت الإدارة الذاتية للأكراد، الاحتفاظ بما تنتجه من قمح وعدم تسليمه للسلطات في دمشق.
منافسة رغم اتفاق “قسد” ودمشق
ثارت توقعات بتغير هذا الأمر بعد الاتفاق الذي وقعته حكومة الشرع مع الإدارة الذاتية الكردية في مارس الماضي، والذي نص على دمج جميع المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية في إطار الدولة السورية.
لكن موسم القمح ينذر بتجدد المنافسة الكامنة، في ظل حاجة سوريا، التي خرجت لتوها من طائلة العقوبات، للقمح الذي تنتجه مناطق الإدارة الذاتية.
وتبسط الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حكماً ذاتياً على مناطق من محافظات الحسكة والرقة وحلب ودير الزور. وتأسست هذه الإدارة في أوائل 2014.
وتسيطر عليها ميدانياً قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي شاركت في الحرب على تنظيم “داعش”. وتأسست قسد في 2015 وضمت تشكيلات مختلفة يغلب عليها المكون الكردي.
من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد
بفعل سنوات الحرب، تحولت سوريا إلى بلد مستورد للقمح، وهي التي ظلت لعقود تعيش اكتفاءً ذاتياً. كما أضافت العقوبات التي فرضها الغرب على نظام الأسد مزيداً من التعقيدات في عمليات الاستيراد، فانحصر اعتماد سوريا على روسيا كداعم أساسي.
هذا العام، وبعد أشهر من مع سقوط نظام الأسد وبدء رفع العقوبات الاقتصادية عن كاهل السوريين، من المتوقع أن تشهد عملية الاستيراد إجراءات أكثر سهولة في ظل انفتاح اقتصادي عالمي على سوريا.
ومع ذلك، تبدي الحكومة السورية حرصاً على استلام محصول القمح من المزارعين لتلبية ما أمكن من احتياجاتها محلياً، بالإضافة إلى سعيها لإعادة بناء قطاع الزراعة، ومحاولة دعم المزارعين، بعد عزوف العديد منهم عن الزراعة.
في مواسم ما قبل الحرب، كانت سوريا تنتج من القمح ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين طن، يخرج القسم الأكبر منها من المساحات التي تعتمد على مواسم الأمطار، مع توسع البلاد في مشاريع الري على نهر الفرات، وخطط مستقبلية لإدخال مساحات أخرى على نهر دجلة، في حال إعادة إحياء مشروع جر مياه دجلة إلى مدينة الحسكة وربطه بنهر الفرات بهدف التوسع في الزراعات المروية، بما يسهم في ضمان إنتاجية معقولة بعيداً عن ظروف الجفاف.
وتظهر بيانات للمكتب المركزي للإحصاء في سوريا، أن متوسط الاستهلاك المحلي من القمح قبل الحرب كان في حدود مليونين ونصف المليون طن، وهو أمر أتاح فائضاً سنوياً للتصدير يتفاوت بين مليون و200 ألف ومليون ونصف المليون طن.
لكن مساحات واسعة من الأراضي الزراعية تحولت إلى خطوط تماس بين الأطراف المتصارعة، مع اتساع رقعة الصراع المسلح واضطرار ملايين السوريين إلى النزوح بعائلاتهم من قراهم وبلداتهم، إضافة لخروج مساحات زراعية واسعة من المساحات المروية وتحولها الى بعلية (مطرية)، بسبب انقطاع الكهرباء وغلاء أسعار المحروقات.
تسبب هذا في خسائر متلاحقة للقطاع الزراعي حولته في أغلب الأحيان إلى قطاع خاسر، خاصة مع توقف القروض الزراعية والدعم الحكومي في تأمين البذور والأسمدة. وانخفضت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي من 33% قبل عام 2010 إلى 17% في ذلك العام، لتصل الآن إلى 12%.
وبينما كانت الزراعة توفر 30% من فرص العمل قبل 2011، فإن مساهمتها اليوم لا تزيد عن 15%.
تنافس سنوي
في سنوات الحرب، توزعت مناطق السيطرة بين عدة أطراف، لتستقر في السنوات السبع التي سبقت سقوط نظام الأسد على أربع مناطق رئيسية للسيطرة على النحو التالي: مناطق تحت سيطرة حكومة الأسد، ومناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي، ومناطق سيطرة لفصائل مسلحة قادتها في تلك الفترة هيئة تحرير الشام في كل من إدلب وريف حلب، وأخيراً مناطق سيطرة فصائل مدعومة من تركيا في كل من رأس العين وريفها بالحسكة وتل أبيض وريفها بالرقة وعفرين في ريف حلب الشمالي.
ولم تستطع الحكومة السورية آنذاك الوصول إلى إنتاج المناطق الخارجة عن سيطرتها، مع توجه الجهات المسيطرة على تلك المناطق الأخرى إلى تقديم أسعار منافسة للأسعار الحكومية، بسبب الحاجة للقمح لتأمين البذور وصناعة رغيف الخبز لمناطق سيطرتهم.
واعتادت هذه الجهات الأربع، التنافس على الحصول على أكبر كمية ممكنة من إنتاج البلاد من القمح، لتأمين الأمن الغذائي من جهة، وتصدير الكميات الزائدة إلى خارج البلاد، بسبب امتلاك منافذ حدودية مع تركيا والعراق.
ومع سقوط نظام الأسد وذوبان مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” تحت إدارة السلطة الجديدة، يبدو أن التنافس لا يزال مستمراً بين الحكومة و”قسد”، التي تعد مناطق سيطرتها الأوفر إنتاجاً لخصوبة أراضيها.
ولا يزال وجود “قسد” في منطقة عين العرب بريف حلب عائقاً أمام وصول الجهات الحكومية إلى منطقتي رأس العين وتل أبيض، والمعروفتين بمنطقة نبع السلام التي تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا، ما يجعل موسم التسويق بها غامضاً.
وقال الرئيس المشترك السابق لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية للأكراد، سلمان بارودو، إنه حتى الآن لا يوجد قرار رسمي بمنع تسويق محاصيل المزارعين إلى خارج مناطق شمال وشرق سوريا، لكنه أضاف في تصريحات لـ”الشرق”، أنه “من حق الإدارة الذاتية أن تستلم كامل محاصيل مزارعيها وذلك بسبب حاجتها الماسة إلى هذه المحاصيل وخاصة القمح لتأمين بذور للفلاحين للسنة المقبلة وتأمين الطحين للأفران، كون الإدارة قدمت للمزارعين المحروقات والبذور بأسعار مدعومة، لذلك الادارة الذاتية هي أولى باستلامها”.
وتابع “القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني أحد أهم القطاعات الرئيسية والمهمة في شمال وشرق سوريا، وذلك بسبب المساحات الزراعية والرعوية الشاسعة أولاً، والنسبة الكبيرة المساهمة في الناتج المحلي، ولما يوفره هذا القطاع من حاجة السوق المحلية للمنتجات الزراعية وخاصة المحاصيل الاستراتيجية (القمح والشعير والقطن) والمنتوجات الحيوانية، وبالتالي تشغل أيدي عاملة كثيرة، ومصدر رزق لنسبة كبيرة من سكان القرى ما يمنع من هجرتهم نحو المدن، ويوفر كل متطلبات الحياة من غذاء ودواء وملبس وغيرها”.
ووفقاً للرئيس المشترك السابق لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية، فإن توقعات هيئة الاقتصاد بمناطق الشمال والشرق لإنتاج القمح هذا العام تقف بين 350 و400 ألف طن، وهو مستوى يصفه بارودو بأنه “أدنى انتاج مقارنة بالمواسم السابقة”.
وأوضح أن تلك الكمية لا تكفي حاجة مناطق شمال وشرق سوريا، كون الاستهلاك السنوي لمناطق شمال وشرق سوريا يتجاوز 650 ألف طن.
موسم صفري
بعد موسم زراعي متوسط الإنتاج، العام الماضي، وصل فيه إنتاج عموم البلاد إلى نحو مليوني طن وفق تقارير منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، تراجع الإنتاج بشكل حاد مع توقعات بإنتاج بألا يزيد المحصول السوري من القمح هذا العام عن مليون طن. بل إن تقديرات متشائمة تشير لصعوبة الوصول إلى حاجز المليون طن، في ظل خروج جميع المساحات الزراعية البعلية من الخدمة في جميع المحافظات السورية، لأول مرة منذ عشرات السنوات.
وأشار تقرير للفاو في أبريل الماضي”، إلى توقعات بتراجع إنتاج سوريا هذا العام من الحبوب إلى أقل من متوسط إنتاجها في السنوات الماضية. كما أن الظروف الجوية الجافة والمخاوف الأمنية تعوق كذلك إنتاج الحبوب.
ويقول مدير الزراعة بالحسكة، عزالدين الحسو إن “موسم القمح هذا العام هو الأسوأ في المحافظة منذ عام 1983 نتيجة قلة هطول الامطار وحالة الجفاف العامة التي أدت لخروج جميع المساحات المزروعة بعلاً (بالأمطار) من الإنتاج بما فيها منطقة الاستقرار الأولى وهي حالة نادرة تحصل في المحافظة”.
وأضاف في تصريحات لـ”الشرق”، أن “الإنتاج المتوقع من حقول القمح المروية في محافظة الحسكة نحو 144 ألف طن من إجمالي المساحات المروية المزروعة والمقدرة 95600 هكتار مع خروج 367 ألف هكتار بعلية من الإنتاج بالكامل مع توقعات إنتاج صفرية”.
وكشف المسؤول السوري، أن أسباب تدني الإنتاج في المحصول المروي من القمح وخروج محصول البعل عن الإنتاج؛ تتمثل في شح الأمطار وحالة الجفاف العامة وعدم توفر مستلزمات الإنتاج من سماد وبذور محسنة وغلاء أسعارها، مع عدم توفر حوامل الطاقة كالمازوت والكهرباء.
وحذر الحسو، مما وصفها بـ”الخسائر المتكررة للمزارعين”، والتي قد تؤدي للعزوف عن الزراعة في السنوات القادمة وهو ما يؤثر على الأمن الغذائي في البلاد.
سدود تركيا
يشهد قطاع الزراعة في سوريا تقسيمات زراعية عديدية بسبب تفاوت خصوبة الأراضي الزراعية في كل محافظة، فتسمى المناطق الأكثر خصوبة وعرضة للأمطار أو وفرة بالمصادر المائية بمناطق الاستقرار الأولى، بينما تسمى المناطق التالية مناطق متوسطة الإنتاج. ويطلق على مناطق الاستقرار الثالثة اسم مناطق الخصوبة، فيما تعرف المناطق منخفضة الخصوبة والأقل عرضة لهطول الأمطار بمناطق الاستقرار الرابعة والخامسة.
وفي إدلب، يقول مدير الزراعة بالمحافظة، مصطفى الموحد، إن مساحات كبيرة من المساحات البعلية خرجت من الحصاد هذا العام، وهو أمر يحدث لأول مرة منذ عشرات الأعوام.
وأضاف المسؤول في تصريحات لـ”الشرق”، أنه “ربما منذ 60 أو 70 عاماً لم يتوقف الإنتاج البعلي، وخصوصاً في منطقة الاستقرار الأولى من الحصاد”، مشيراً إلى أن المحاصيل المروية أيضاً تأثرت بالجفاف وانخفض إنتاجها بشكل كبير. وأوضح أن إنتاج الأراضي المروية هذا العام “لا يتعدى 60 أو 70 % من انتاج في الأعوام السابقة”.
يضاف إلى عوامل الصراع المسلح وقلة الأمطار؛ إصرار تركيا على خفض مستوى جريان نهر الفرات الذي سجل تدفقه من 250 إلى 300 متر مكعب في الثانية، وهو ما يعادل نصف حصة البلاد المعتادة والتي تتجاوز 500 متر مكعب في الثانية.
وأدى بناء تركيا لعدد من السدود الكبيرة على نهر الفرات، إلى انخفاض مستويات مياه الآبار الجوفية في المناطق الحدودية، والتي تعتبر المناطق الأخصب زراعياً، والأكثر وفرة للإنتاج في مختلف المحاصيل الزراعية، وبينها القمح.
فتح باب الاستثمار
مع سقوط نظام الأسد، ورفع العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على سوريا، من المفترض أن يشهد قطاع الزراعة تعافياً تدريجياً كباقي القطاعات، في ظل توقعات باتساع فرص الاستثمار وزيادة المساحات المروية، بما يخفف من آثار الجفاف على المزارعين، ويؤدي إلى وقف نزيف العزوف عن الزراعة وخروج مساحات زراعية من الإنتاج.
ويعتقد الخبير الزراعي السوري، رجب السلامة، أن التعافي الزراعي يحتاج لعدة إجراءات، يعد بينها إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية، بما في ذلك تأهيل مشاريع السدود وقنوات الري الحكومية، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة وإجراء تحاليل لمعرفة واقع هذه الأراضي واعادة استصلاحها.
ويضيف السلامة إلى ذلك “دعم الفلاحين بقروض منخفضة الفائدة لتأمين كافة مستلزمات الزراعة وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار منخفضة نسبياً ودعم القطاع الخاص”.
وقال السلامة في تصريحات لـ”الشرق”، إن التعافي “يحتاج أيضاً إلى إدارة الموارد المائية ومراقبة استخدام المياه الجوفية والبحث العلمي والإرشاد الزراعي من حيث إعادة انتاج الأصناف المناسبة وإلحاق المهندسين الزراعيين بدورة تدريبة وتطوير محطات البحوث الزراعية ودعم التصنيع المحلي للمنتجات الزراعية”.
ودعا السلامة إلى محاولة الوصول إلى شراكات مع منظمات مثل الفاو وإيكاردا (المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة)، من خلال منحهم استثمارات زراعية، بغرض تحقيق الأمن الغذائي ومنع تهريب المحاصيل الاستراتيجية.
واقترح اختيار أصناف مقاومة للجفاف ومتأقلمة مع المنطقة مثل “شام 10″، وأصناف محسنة أنتجتها إيكاردا في المناطق الجافة، وذلك للحد من موجة الجفاف التي تضرب البلاد من حين لآخر.