اخبار تركيا
تناول مقال تحليلي للكاتب والمفكّر التركي سلجوق تورك يلماز، تحوّلات السياسة الغربية في العالم الإسلامي منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، مسلطًا الضوء على أن الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق لم يكن مجرد حرب على الموارد الطبيعية، بل بداية مرحلة جديدة من الاستعمار المقنّع لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والثقافية للمنطقة.
ورأى تورك يلماز، في مقاله بصحيفة يني شفق، أن التحليلات التي سادت آنذاك ـ والتي اعتبرت ما يحدث “مسرحية” أو “توترًا مسيطرًا عليه” ـ لا تزال تُستخدم حتى اليوم في قراءة التوترات بين إيران وإسرائيل، مما يعكس غياب إطار مفاهيمي قادر على فهم الواقع وتفكيك عناصره بعمق.
وخلص إلى أن الأحداث الجارية، بما فيها العدوان الإسرائيلي على إيران، لا يمكن اختزالها في مفاهيم قديمة كـ”نهب الموارد”، بل ينبغي قراءتها ضمن مشروع استعماري أكبر يهدف إلى “إنتاج غرب جديد” على أرض المسلمين، على غرار التجربة الإسرائيلية في فلسطين.
وفيما يلي نص المقال:
مع اندلاع حرب الخليج الأولى عام 1991، دخل العالم الإسلامي مرحلة جديدة. فمع انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأ المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، وبدعم من ألمانيا وفرنسا، عصرًا جديدًا من الاحتلال في العالم الإسلامي. ومن المؤسف أنه قبل أسبوعين فقط من هذا الاحتلال الجديد كان الذين ساهموا في تشكيل حياتنا الفكرية يؤكدون أن قوات الاحتلال بقيادة أمريكا لن تهاجم العراق. كان المسرح قد أُعد، والمسرحية قد بدأت بالفعل، إلا أن البعض ظلّ يعتقد أن هذه الحرب لا تصب في مصلحة القوى الإمبريالية، وأنه لا حاجة فعلية لحرب جديدة، وأن هذه القوى تسعى فقط إلى إخافتنا بالموت حتى نقبل بالملاريا. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بات من الضروري إعادة تنظيمِ تقاسمِ الموارد. وكانت الأفكار التي تشكلت حول مفهوم الاستعمار الجديد تتوقع إعادة تنظيم لتقاسم الموارد، ووفقًا لمن تبنى هذه الأفكار، لم تكن هناك حاجة للحرب لإجراء هذا التنظيم الجديد، فالإمبرياليون سيحصلون على ما يريدونه على أي حال. وهكذا ساد الاعتقاد بأن ما يجري ليس إلا عرض مسرحي.
ومن ثم، فإن إعادة تحليل بعض المفاهيم التي شكّلت حياتنا الفكرية في سنوات حرب الخليج الأولى، باتت ضرورة لا مفر منها، على الأقل بالنسبة إلينا. فمن اللافت أنه بعد مرور خمسة وثلاثين عامًا ـ وهي فترة طويلة حقًا ـ تُناقش التوترات اليوم بين إسرائيل وإيران من خلال مفاهيم مثل “المسرحية” و”اللعبة”، وهذا ليس من قبيل المصادفة. ولن أخوض في ذكر المبررات، فنحن مضطرون لتجاوزها. صحيح أن هناك أسبابًا كثيرة تدفعنا إلى الغضب من صدام، لكن الغزو الأمريكي البريطاني تسبب خلال هذه العقود الثلاثة والنصف في دمار هائل للعالم الإسلامي. ومن المؤسف أن معظم الناس اليوم كانوا يستبعدون حدوث حرب جديدة قبل الهجمات الإسرائيلية على إيران. وقبل أيام قليلة فقط، كانت تحليلاتهم تشير إلى أن الطرفين يتبعان استراتيجية “توتر مضبوط” أو “مسيطر عليه”. فما الذي يجعلنا نُخطئ التقدير كل مرة؟ ما يزال هذا السؤال بلا إجابة.
أعتقد أننا نفتقر إلى نظرية وإطار مفاهيمي يساعداننا على فهم الأحداث. وكما تذكرون فإن محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها تنظيم “غولن” الإرهابي في 15 يوليو/تموز للاستيلاء على تركيا من الداخل لصالح أمريكا وبريطانيا، قد نوقشت أيضًا في إطار مفهوم “المسرحية”، ولا يزال الأمر كذلك بالنسبة لكثيرين. فليس لدينا إطار مفاهيمي يسمح لنا بتفكيك الأحداث إلى عناصرها، ولا نظرية تُقدم لنا منظورا محددًا. علينا أن نُدرك أننا بحاجة إلى تصنيفات واضحة كي نتمكّن من تفكيك العناصر وتحليلها تحليلاً ذا معنى، غير أن التصنيفات الجاهزة المطروحة أمامنا لا معنى لها على الإطلاق.
وأودُّ أن أستعرضَ بعضَ الفئات التي لا معنى لها. ويأتي في مقدمتها ما يتعلقُ بحربِ الخليج، حيثُ جرى اختزالُ الغزوِ الأولِ للولاياتِ المتحدةِ وبريطانيا في مسألة تقاسم الموارد الطبيعية السطحية والجوفية. وهذا ناتجٌ عن قراءة خاطئة لمفهوم “الاستعمارِ”. فحتى تنظيم “غولن” الإرهابي قبل 15 تموز، كان يدرج بكل أنشطته ضمن تصنيف “الجماعات الإسلامية”، وهو ما جعل تحليل الأحداث الجارية أمام أعيننا وفهم عناصرها بطريقة سليمة أمرًا مستحيلاً. والأمر نفسه ينطبق على التوتر القائم بين إسرائيل وإيران؛ إذ لم يكن من الممكن فصل عناصره بشكلٍ منطقيٍّ. فحتى وقتٍ قريب، كانَ التوسعُ الإسرائيليُّ يُفسَّرُ بمفاهيمَ لاهوتيةٍ يهودية، بينما خضعتْ إيرانُ لتقييمٍ مذهبيٍّ بحت، مما أدى إلى تصويرِ العداءِ بين البلدين كاستراتيجيةِ توترٍ مُتحكَّمٍ به، وهكذا تشكّل انطباع عام بوجود تعاونِ سريِّ بينهما. بل يمكن تحليل تصريحات الرئيسِ الأمريكي ضمن الإطار ذاته. ففي نهاية المطاف قامت الولايات المتحدة بضرب إيران.
إن اختزال محاولات الغزو الأمريكية والبريطانية، وحتى وجودَ إسرائيلَ نفسها، في نهبِ الثرواتِ الجوفية والسطحية هو إبعاد للأحداثِ عن سياقِها الحقيقيّ. فمستعمراتُ بريطانيا في أمريكا الشماليةَ ومستوطنوها مارسوا التطهير العرقي ضد الشعوب الأصلية، لأنها كانتْ تصنع “أوروبا جديدة” في أراضٍ بعيدة. وبالمثل فإن إسرائيلُ اليومَ تصنع بإرادةِ أمريكية وبريطانية “أوروبا جديدة” على أرضِ فلسطينَ التاريخية. وتكتسب تصريحات المستشار الألماني الأخيرة أهمية خاصة في هذا السياق؛ إذ إن استهداف مدينة تبريز والتحركات الجارية حول بحيرة أروميه برعاية أمريكية بريطانية يعكسان أبعادًا استراتيجية عميقة لا علاقة لها بما يُسمى بـ”استراتيجية التوتر المسيطر عليه”. فالتنظيمات الإرهابية التي خسرتْ مواقعَها في سوريا والعراقِ تسعى الآنَ لتعويضِ خسائرِها في أراضي الأتراكِ الأذربيجانيين. وفي هذا السياق، فإن اعتبار تركيا للهجمات الإسرائيلية ضد إيران تهديدًا مباشرًا هو موقف بالغ الأهمية، فلم يمض وقت طويل حتى انضمت الولايات المتحدة رسميًا إلى الهجوم.
ولذا لا يمكن اعتبار هذا المشهد المرعب مجردِ لعبةٍ سياسية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!