Cinema Paradiso، Malena، Everybody’s Fine، و The Legend of 1900، من بين أفلام أخرى للمخرج والمؤلف الإيطالي الكبير جوزيبي تورناتوري، أفلام يعرفها ويعشقها كثير من محبي السينما في كل مكان، يربط بينها ذلك الإيقاع الإيطالي الحميم والمشاعر الإنسانية الدافئة، وهذا المزيج الحلو المر النادر من الفكاهة والحزن.
شاب في السبعين
خلال مشاركتي في مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي الأخير (من 13 إلى 22 يونيو) كعضو لجنة تحكيم بمسابقة الفيلم القصير، أسعدني الحظ بلقاء تورناتوري (رئيس لجنة تحكيم الأفلام الروائية) أكثر من مرة.
وبالطبع لم يكن من الممكن أن أنسى مهنتي كصحفي، ولا أن أفوت الفرصة لإجراء حوار مع المخرج الذي أحبه، حول أعماله التي أحفظها عن ظهر قلب.
تورناتوري الذي يقترب من السبعين يبدو شاباً مفعماً بالدفء والحيوية كأفلامه، لا تفارق وجهه الابتسامة، ولا يفارق الحماس يديه وحركته المستمرة، وتكوين جسده الصقلي الصغير بتلك الانحناءة البسيطة، يضفي على تواضعه الأصيل مزيداً من البساطة والطيبة المتأصلة.
ما بين جدوله المزدحم بمشاهدة الأفلام، وارتباطات تم الاتفاق عليها مسبقاً، اقتطعنا ساعة صباحية قبيل بدء عرض الأفلام، جلست فيها إلى جوزيبي تورناتوري دافعاً إليه بعشرات الأسئلة التي لم نستطع أن نتحدث سوى عن القليل منها.
“إيماني لا يتزعزع بالسينما”
– في البداية أرغب في ربط حديثنا عن السينما بالأوضاع السياسية الحالية وما يمر به العالم من حروب وآلام، هل تعتقد أن للسينما دوراً يمكن أن تلعبه وسط هذا الجنون، وهل كان للسينما والفن عموما دوراً، أبداً، في جعل الناس أقرب إلى بعضهم البعض أو أكثر حكمة؟
= أنا أؤمن بشكل مطلق أن السينما هي أداة تستطيع أن تساهم في نشر السلام والعدالة والقيم، ومهما حدث لا شئ يمكن أن يجعلني أغير هذه القناعة، وعلى العكس أعتقد أنه في هذه اللحظات الصعبة تحديداً يمكن أن تلعب دوراً مهماً جداً في التقريب بين الناس، وأكثر ما يسعدني أن أرى السياسيين يتعلمون شيئاً من السينما.
– نأمل أن يكون من بينهم من يفعل ذلك (ضحك متبادل)، في فيلمك الأول “الأستاذ” Il Camorrista، حاولت أن تصنع عملاً، بحسب نص عناوين الشاشة التي تسبق الفيلم، “يبين ضرورة الدولة والقانون، باعتبارهما الحماية الوحيدة والحقيقية للحياة المدنية”، هل لا زلت تصدق هذا الشعارعن قدسية الدولة والقانون؟ وهل لا زلت تعتقد أن السينما بإمكانها حقا أن تجعل المجتمع أفضل؟
= الفيلم كان يتناول الجريمة المنظمة وما تفعله عصابات الـ”كامورا” من تخريب للمجتمع، لذلك فإن العبارة مرتبطة بموضوع الفيلم وزمن صنعه تحديداً، وكانت تهدف إلى تعزيز الإيمان بدور الدولة والقانون، وبالتأكيد دولة القانون هي الوحيدة التي يمكن أن تتصدى لهذه العصابات.
– في هذا الفيلم ناقشت موضوعات صعبة مثل الجريمة المنظمة والفساد السياسي، ولكنك انتقلت بعد ذلك إلى صنع أفلام تتراجع فيها السياسة والمشاكل الاجتماعية الكبرى إلى الخلفية، بدايةً بفيلمك الثاني Cinema Paradiso.
= أنا أميل إلى التغيير دائماً، عندما صنعت Cinema Paradiso لم أكن أرغب في فعل شئ فعلته من قبل، في فيلم لاحق مثل Baaria عادت السياسة إلى الصدارة، ولكن أيضاً بشكل مختلف، بعض الموضوعات والأفكار القديمة يمكن أن تعود إلى الظهور في أعمال لاحقة، ولكن من منظور مختلف، يعكس التطور والاختلاف الذي يحدث لي، ولكن دائماً ما أحب تغيير جلدي. على سبيل المثال أحب الأفلام التي تدور عن السينما، ولكنني لا أصنع كل أفلامي عن هذا الموضوع.
“ظاهرة Cinema Paradiso تحيرني”
– Cinema Paradiso حقق لك النجاح والشهرة خاصة بعد حصوله على الأوسكار، ولكن المدهش أن شعبية الفيلم تزداد بمرور الزمن، وهو الآن أكثر تأثيراً وقرباً للأجيال الجديدة، أكثر حتى مما كان عليه في وقت صدوره، كيف يمكن أن تفسر ذلك؟
= لا يمكنني تفسيره، ولا حتى فهمه، ويدهشني الأمر مثل أي شخص آخر، أنا سعيد للغاية بهذه الظاهرة، ولكن يصعب علي تفسيرها، دائماً ما أفاجأ بالأمر، ولا أعرف ما هو السر، وبشكل خاص يسعدني ويدهشني استقبال الشباب الصغار للفيلم، الذين يحيطون بي كثيراً ليحدثوني عن مدى إعجابهم به، لا بد أن هناك سر ما في هذا الفيلم ولكنني لم أكتشفه بعد.
– ربما يكون حالة الحنين التي يثيرها الفيلم، خاصة الآن مع التغير السريع الذي يشهده العالم، وتلاشي واختفاء العالم القديم بالتدريج، هناك حالة نوستالجيا إلى الماضي، خاصة لدى الصغار.
= ربما، بالتأكيد، لكن الأمر يظل مدهشاً، في كل مكان أذهب إليه ألتقي بشباب يخبرونني بأنهم يحبون Cinema Paradiso، خاصة هنا في الصين وجدت اهتماماً وإعجاباً استثنائيين بالفيلم، حتى أنهم يعرفونه باسمه الإيطالي الأصلي Nova Cinema Paradiso، وليس بالاسم الدولي Cinema Paradiso.
“أكثر من مخرج يعيش داخلي”
– بعد الشهرة التي حققتها بـ Cinema Paradiso، انتقلت في فيلمك التالي Pure Formality إلى نوع أفلام مختلف تماماً: إنتاج دولي وممثلين أجانب، منهم الفرنسي جيرار دي بارديو والمخرج البولندي رومان بولانسكي، كممثل، وهو فيلم بوليسي أقرب لنوع الـ”فيلم نوار”، تجربة جريئة تحمل قدراً من المخاطرة.
= كما ذكرت، دائماً ما تكون الرغبة في التغيير دافعي إلى صنع فيلم جديد، لذلك عندما ترى Il Camorrista أو Cinema Paradiso أو The Best Offer، تشعر وكأنها لمخرجين مختلفين وليست لنفس المخرج، دائماً أرغب في تغيير الموضوعات والأنواع الفنية، أو ربما أحب ذلك الوهم بأنني، في كل مرة، كما لو كنت أصنع فيلما لأول مرة، وفي كل الأحوال لا بد أن يكون هناك شئ غامض جديد عليَ يدفعني إلى صنع هذا الفيلم.
– مع أنك تحب التغيير والابتعاد عن منطقتك الأليفة الدافئة، إلا أنك تعود دائماً إلى هذه المنطقة وأقصد بها “الدراما التي تدور في الماضي” (Period Drama)، كما فعلت حين عدات بفيلم The Star Maker الذي، مثل Cinema Paradiso، يتناول موضوع حب السينما ويدور في فترة تاريخية قديمة.
= لا يحدث ذلك دائماً، أعود أحياناً إلى هذه المنطقة بالفعل، ولكن دائماً من منظور مختلف، The Star Maker يكاد يكون مناقضاً لـCinema Paradiso، الذي يعد مثل حلم جميل، رومانتيكي ورقيق، أما The Star Maker فهو عكس ذلك تماماً، صورة السينما في The Star Maker ليست رومانتيكية، ولكنها حلم بعيد المنال ولا يجلب سوى المتاعب.
– بالفعل سؤالي التالي هو عن هذه الثنائية أو الإزدواجية بين الواقع القاسي الذي تهرب منه الشخصيات دائماً، إلى حلم قد يتمثل في السينما أو الموسيقى أو المرأة الجميلة.
_ برجي هو الجوزاء، ولدي شخصيتان، قد يكون ذلك هو السبب، (يضحك) أحياناً أحدهما يعمل، وأحياناً يكون الشخص الآخر!
“شخصياتي تعيش خارج المكان”
– حبك للدراما التي تدور في الماضي لا يعادله سوى حبك للموسيقىK والإثنان موجودان في The Legend of 1900، وهو ينتمي أيضا للدراما التي تدور في حقبة تاريخية قديمة.
= نعم لكن القصة هنا مختلفة والمفهوم وحتى الزمن مختلفين، ما جذبني في القصة هو هذا الوجود للشخصية الرئيسية في اللا مكان، حيث لا هوية محددة، وأتحدث هنا عن المؤسسات، إنه يعيش ويموت في مكان خارج المؤسسات والحدود، طريقة حياته لا يمكن شرحها، ولكن الموسيقى هي ما تعبر عن هذه الحياة وتعطيها المعنى، إن الموسيقى تظل هي التعبير الأكثر غموضاً عن الحياة. لقد قضيت وقتاً طويلاً في البحر على متن السفينة لكي أصنع هذا الفيلم.
– في الوقت نفسه هناك هذه الثنائية بين الواقع القاسي والمكان الصغير الخاص الشبيه بالرحم، أو الحلم، الذي تفضل أن تعيش فيه الشخصيات، وقاعة العرض الصغيرة التي يعيش فيها بطل Cinema Paradiso تعادل السفينة التي يعيش على متنها “1900” (تيم روث).
= نعم، معك حق، لكل منهما مكانه الصغير المعزول عن الواقع، ومثلما يرفض ألفريدو (فيليب نواري)، رجل تشغيل العروض، في Cinema Paradiso الحياة خارج قاعة العرض، فإن “1900” يرفض أيضاً أن يعيش خارج السفينة، لكل منهما سفينته التي لا يريد أن يغادرها.
– في الفيلمين، بجانب The Star Maker وأعمال أخرى، هناك أيضا هذا المزج الفريد بين الكوميديا والحزن، أنت أستاذ في صنع هذا الخليط الذي تختلط فيه الضحكة بالدموع، كيف تستطيع تحقيق هذه المعادلة؟
= أشكرك على المجاملة، ليس لدي وصفة أو صيغة جاهزة لعمل ذلك، وعندما أكتب لا يكون هذا ببالي، أعتقد أنها طبيعة الحياة التي يختلط فيها الفرح بالحزن، وربما تكون أيضا طبيعتي الخاصة التي يمتزج فيها التناقض بين الميل للفرح والضحك والميل للحزن، لا أحب تصنيف فيلم من أعمالي بأنه كوميدي أو تراجيدي، لا أحب أن أغلق الباب أبداً.
Malena
– Malena نقلة مختلفة أخرى في مسيرتك الفنية، هو دراما مرحلة تاريخية أيضاً، ولكنه أول فيلم تكون بطلته امرأة (مونيكا بيلوتشي) وهو يشكل بداية مرحلة يكون فيها للنساء مركز الدراما.
_ نعم، إنه يمثل اختلافاً في المنظور، وهو يبين كيف أن النساء يعانين لإنهن نساء ولإنهن جميلات، إنها جميلة للغاية، ولكن هذا الجمال يتسبب لها في المتاعب، والحكاية تروى أيضاً من منظور ولد صغير، تمثل مالينا بالنسبة له حلم يعلو من خلاله فوق الواقع، البعض قارن بين شخصية مالينا وقاعة العرض في Cinema Paradiso.
– نعم، هذا الإفتتان بالجمال لدى الصبيين، الأول بالسينما والثاني بالمرأة الفاتنة، وهناك أيضا افتتان “1900” بالموسيقى.
= أوافقك الرأي
“النقاد هاجموا Cinema Paradiso و Malena ثم أحبوهما”
– Malena حقق نجاحاً تجارياً كبيراً، ولكن النقاد هاجموه بشدة. هل أزعجك هذا؟
= نعم وهو ما حدث مع Cinema Paradiso أيضاً في الشهور الأولى من عرضه، وقبل حصوله على الجولدن جلوب والأوسكار، لكن مع Malena كان النقاد أقسى بكثير، ومما قالوه مثلاً أن شخصية مالينا مجرد فرجة وأنها لا تكاد تتحدث في الفيلم، نعم هذا صحيح لإنني أصورها كما يتخيلها الصبي، مع بداية عرض الفيلم ضايقني بعض النقد، ولكن بمرور الوقت حقق الفيلم نجاحاً شعبياً كبيراً، وعندئذ لم يعد يزعجني ما يوجه إليه من نقد، الآن بعد هذه السنوات أصبح هناك الكثير من الأفلام الحديثة المصنوعة على طريقة Malena، وأصبح ذلك الأسلوب مقبولاً أكثر.
– هل تعلم أن هناك فيلما مصرياً “حلاوة روح” مقتبس بشكل مباشر عن Malena؟
= لا، هذه مفاجأة (يضحك)، أتمنى أن أشاهد هذا الفيلم.
– فيلمك التالي The Unknown Woman بطلته امرأة أيضاً، ولكنها مختلفة تماماً عن Malena، كما أن الفيلم ينتمي لنوع فني مختلف، جريمة وتشويق وممتلئ بالعنف.
= نعم، وكأن مخرجه شخص آخر (يضحك)، أحب هذا الشعور بأنني أصنع أفلاماً مختلفة، وأن لا يتعرف عليَ الناس في الأفلام، لقد أحب المشاهدون الفيلم، وهو يعرض من وجهة نظر المرأة نفسها على عكس Malena.
– أحدث أفلامك Ennio وثائقي يتناول حياة المؤلف الموسيقي الراحل إينيو موريكوني الذي رحل عن عالمنا في 2020، وكانت تربطك به وبموسيقاه علاقة خاصة جداً، ما الذي دفعك لصنع هذا الفيلم، بجانب حبك لموريكوني.
= علاقتي بإينيو امتدت على مدار 33 سنة منذ أن تعاونا لأول مرة في Cinema Paradiso، لم يكن مجرد مؤلف لموسيقي أفلامي، ولكن شريكاً في صنعها، بمجرد أن تولد الفكرة كنت أخبره بها، والفيلم هو محاولة لرصد قيمة هذا الفنان الكبير وما قدمه للموسيقى والسينما.
…الوقت ينفذ وحان وقت انصراف تورناتوري لمشاهدة الأفلام مع لجنة التحكيم، ولكن الحوار لم ينقطع على اتفاق باستكماله لاحقاً.
* ناقد فني