من جديد عادت فينيسيا لتشغلَ الحيّز الأكبر في الفضاءات الإعلامية، لكن هذه المرّة ليس بفعل مهرجانها السينمائي الأعرق في العالم، وبينالاتها للفن التشكيلي والعمارة والمسرح والموسيقى، وليس أيضاً بسبب ارتفاع مياه المدّ البحري التي تهدد المدينة بالغرق لأكثر من مرّة في الخريف وفي الشتاء، بل جاء الانشغال الإعلامي هذه المرة بسبب حفل زفاف، وهو عُرسٌ من نوع خاص وبمستوى لا يحلم به إلاّ القليلون في العالم، أي تلك الثُّلة الصغيرة من أصحاب المليارات حول العالم، والعريس في هذا الحفل هو واحدٌ من هذه القلّة المرفّهة إلى ما فوق ما يمكن للعقل أن يتصوّره، ستيف بيزوس، مؤسس ومالك شركة “أمازون”.
واختار بيزوس فينيسيا موقعاً للزواج بخطيبته الإعلامية لورين سانشيز في الفترة من 26 إلى 28 يونيو، مناسبة تمتد لثلاثة أيام تتخلّلها مراسيم الزواج الكنسي في كنيسة سان جورجو ماجوري، المقابلة لساحة “سان ماركو” وبرجها المُشيّد بالآجُر الأحمر، كما تضمّن العُرسُ استقبالاً فخماً في موقع “الآرسينالي”، مصنع السفن العريق منذ عهد الدوقات، والمقرّ الرسمي لبينالي الفن التشكيلي والعمارة والمسرح، مصحوباً بعروض بحرية وسفرية عبر اليخت الشهير Koru .
ووصلت أكثر من 90 طائرة خاصة إلى مطار ماركو بولو، فيما كُرست 9 يخوت ضخمة لحضورها قنوات ومرافئ، إذ يتراوح عدد المدعوين ما بين 200 إلى 250 شخصاً من مشاهير العالم، بينهم كيم كارداشيان، وأوبرا وينفري، وإيفانكا ترمب، وميك جاجر.
وكان من المقرّر عقد الاحتفال الرئيسي في قاعة “سكولا جراندي ديلا ميزيريكورديا” بحيّ كاناريجّو الفينيسي العريق، إلاّ أنّه نُقل إلى الآرسينالي بأمر أمني، بعد تهديدات محتدمة من حركة احتجاجية تُعرف بـ“No Space for Bezos”، التي هددت حتى بإغلاق القنوات باستخدام تماثيل تمساح مطاطية.
احتجاج ومعارضة للأسلوب
وعلّق المحتجون على إقامة هذا الزفاف في فينيسيا لافتات على جسر ريالتو وساحة سان ماركو كُتبَ عليها: “إذا ما كان بإمكانك استئجار فينيسيا لحفل زفافك، فإنّه بإمكانك دفع ضرائب أعلى”، فيما دشّنت حركة No Space for Bezos مظاهرة رمزية شملت إطلاق تمثال بيزوس في قناة، إلى جانب رسومات جرافيتية في المدينة.
من جانبه اعتبر الناشط تومّاسو كاتشّاري، أحد أبرز وجوه هذه الحركة أنّ هذا الحدث يعد “رمزاً لاستغلال المدينة من قبل الأثرياء”، مؤكداً أن السكّان يرفضون تحوّل فينيسيا إلى “عِقار فخم”.
وقال في تصريحات إن بيزوس “ليس ممثلاً هوليوودياً، بل مليارديراً فائق الثراء يستخدم مكانته السياسية لتمرير نمط حياة استبدادي، ونحن نرفض استحواذه لمدينتنا”.
واعتبر كاتشاري نقل الحفل من قلب المدينة شبيهاً بقرار الفوز عقاباً “على الطاولة” في كرة القدم بثلاثة أهداف مقابل لا شيء، وأضاف “إنّ بإمكان بيروس أن يقول بأنه أقام حفل زفافه في فينيسيا، لكنّه اضطرّ على نقل الحفل الى جزءٍ قصيٍ من الأرسنال، وهو بذاك كمن يقول: (أريد أن أفعل شيئاً في ساحة إسبانيا بروما، غير أنّه يجد نفسه، بعد الاحتجاجات، خارج طريق الأوتوستراد الدائري المحيط بروما”.
وأضاف: “نحن راضون، راضون جداً، لكن أكثر ما نشعر بالرضا حياله هو أن بيزوس أراد المجيء إلى هنا لاستخدام مدينة فينيسيا كخلفية لصور زفافه، أما نحن، فقد استخدمنا جيف بيزوس لنُخبر العالم بأسره، بأننا نتحدث عن المشاكل الحقيقيّة التي تُعاني منها هذه المدينة”.
ومن بين المشاكل التي تعاني منها فينيسيا، التلوّث البيئي، الذي انتقدت حركة Greenpeace بسببه الحدث معتبرةً إيّاه “نفاقاً بيئيّاً”، وحذّرت من الآثار الكربونية الناجمة عن حركة الطائرات واليخوت التي حضرت إلى المدينة من أجل الحفل.
مؤيّدون يسلّطون الضوء على الفوائد
وكما يحدث في مباريات كرة القدم، في الرياضة وفي السياسة الإيطالية منذُ عقود، يتحول كلّ أمر إلى مفردةٍ للسجال ما بين المعارضة وأقطاب التحالف الحاكم، فقد انبرى عمدة فينيسيا لويجي برونيارو معتبراً بأنّ هذا الحدث يمثل “فرصة دعائية ضخمة للمدينة”، متوقعاً عوائد تتراوح بين 20 و30 مليون يورو على اقتصادات الفنادق وخدمات النقل المائي والمطاعم.
بدوره، قال رئيس إقليم فينيتو، لوكا زايا، إن هبوط 90 طائرة خاصة سيُحقّق دخلاً يربو على 48 مليون يورو لصالح مطارات في المنطقة.
ولمواجهة الاحتجاجات أُعلن بيزوس وزوجته تبرّعهما بمبلغ 3 ملايين يورو، لدعم مبادرات مثل مؤسّسات مثل “كورِيلا” لأبحاث البيئة والمياه، ولجامعة فينيسيا.
وعُلم أنّ ما يربو على 80% من خدمات الزفاف، بما في ذلك الحلويات من مخبز “روزا سالفا” وهدايا زجاج مورانو، تم توريدها محلياً، وأنّ تنظيم الحفل أُنيط إلى شركتي Lanza & Baucina.
ومن بين زخم الصخب الإعلامي يبرز صوت عمدة فينيسيا السابق (1993–2000) الفيلسوف ماسّيمو كاتشّاري، الذي أعاد التأكيد على ضرورة حماية المدينة من “التحوّل إلى موقعٍ لمهرجانات روّاد البذخ”، معبّراً عن استيائه من أن يتم استغلال الفضاء العام بهذا الشكل.
وقال في تصريح لشبكة BBC: “أنا لا أرى بيزوس مجرد زائر ثري، بل شخص يعكس نمطاً من الثراء ذي الخلفية السياسية، ويسعى إلى تحويل فينيسيا إلى منصة رمزية تُخفي التفاوتات العميقة في المدينة”.
نقاش برلماني قد يرفع الضرائب
ويبدو أن زفاف بيزوس يأتي كبداية لحوار برلماني قد يتجه نحو إصدار تشريعات تنظم إقامة حفلات فارهة في المدن التراثية، ومن بينها احتمال فرض ضرائب تصاعدية إضافية على الاحتفالات الفاخرة، وتحديد سقف استيعابي للفعاليات الرسمية في المواقع التاريخية، وإلزام المنظمين بإعادة توزيع عائدات اقتصادية ملموسة على السكان والمرافق العامة.
وليس زفاف جيف بيزوس ولورين سانشيز مجرد حفلٍ فخم، بل تحولٌ متواصل إلى منعرج حضاري وقانوني، أثار، وسيُثير، نقاشات حول علاقات المدن التاريخية بالطبقة الغنية، وإمكانات إيجاد توازن بين الاقتصاد المحلي والاستدامة البيئية والاجتماعية.
وفي حين تراقب فينيسيا الجدل حول مستقبلها، تظل التساؤلات مفتوحة حول من يمتلك الحق في استخدام “مدينة الفنون والتاريخ، وما إذا كانت الفوائد الاقتصادية قادرة على تعويض التكاليف الاجتماعية والبيئية، وما إذا كان التشريع عادل من إعادة المدينة إلى سكانها، بعيداً عن عروض الأثرياء الوقتية والزائلة
وفي نهاية المطاف، قد لا تُسجَّل نتائج هذا الجدل فوراً، لكن فينيسيا 2025 صنعت، رُغمَ كلّ شيء، منعطفاً سيراه العالم بأسره: هل يمكن للمدينة أن تُوازنَ ما بين الروح والمكسب و ما بين الهوية والبذخ؟ الوقت وحدُه كفيل بالإجابة.