في أحد صباحات طوكيو الباردة، كان الباحث أديتيا نايك (Aditya Naik) يتأمل شاشته المليئة بالبيانات، حينما ظهرت أمامه نتيجة مذهلة: البشر أصبحوا أكثر استعداداً للبوح بمشاعرهم… لكن ليس لأطباء نفسيين، بل لروبوتات محادثة!

قبل سنوات، كانت فكرة أن يثق شخص يعاني أزمة نفسية بذكاء اصطناعي بدلاً من مختص بشري تبدو أقرب إلى الخيال العلمي، لكن دراسة حديثة نشرها فريق جامعة طوكيو في مايو (أيار) 2025 كشفت عن واقع جديد تماماً.

دراسات علمية

• «التعاطف الاصطناعي». تحت عنوان: «التعاطف الاصطناعي: الصحة النفسية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي» (Artificial Empathy: AIbased Mental Health)، حلل الباحثون تجربة المستخدمين مع تطبيقات مثل «ووبوت» (Woebot) و«ويسا» (Wysa)، ووجدوا أن ملايين الأشخاص باتوا يلجأون لهذه الأدوات بحثاً عن الدعم النفسي، ليس فقط لمجرد الراحة، بل لأنهم يشعرون بأنها تستمع إليهم دون أحكام مسبقة، وتتيح لهم التعبير بحرية دون خوف من الوصمة الاجتماعية، أو الإحراج.

«الاستماع من دون إصدار أحكام هو السر»، يقول نايك، مشيراً إلى أن المستخدمين يفضلون الذكاء الاصطناعي في بعض الحالات، لأنه لا يُظهر ردود فعل بشرية، مثل الانزعاج، أو التقييم السلبي. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات جوهرية: هل يمكن لهذا النوع من الدعم أن يعوض غياب الطبيب البشري؟ وهل ستتمكن هذه الأنظمة يوماً ما من فهم المشاعر العميقة كما يفعل الإنسان؟

• الذكاء الاصطناعي يكشف الاكتئاب مبكراً. في الجهة الأخرى من آسيا، وتحديداً في جامعة شنغهاي، كان الباحثان تشينغوانغ تشونغ (Zhenguang Zhong) وجشيشوان وانغ (Zhixuan Wang) يقفان أمام تحدٍّ طموح: هل يمكن تدريب الذكاء الاصطناعي على قراءة مشاعر الإنسان ليس فقط من كلماته، ولكن من طريقة حديثه وأسلوب تواصله؟

كانت الفكرة تبدو في البداية وكأنها اقتباس من رواية خيال علمي، لكن سرعان ما تحوّلت إلى واقع ملموس في دراستهما التي نُشرت في أبريل (نيسان) 2025 بعنوان: «الوقاية الذكية من الاكتئاب عبر تحليل الحوارات باستخدام النماذج اللغوية الضخمة» (Intelligent Depression Prevention via LLMBased Dialogue Analysis).

النظام الذي طوره الباحثان لم يكن بحاجة إلى اعتراف مباشر مثل: «أنا مكتئب»، بل كان يستخلص الحالة النفسية بناءً على أنماط التواصل الدقيقة غير الملحوظة حتى لمقدمي الرعاية النفسية التقليديين.

تحليلات ذكية لرصد الاكتئاب

اعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل:

سرعة الحديث ووتيرته: الشخص الذي يتحدث ببطء شديد، أو يتوقف كثيراً خلال حديثه قد يكون في حالة نفسية مضطربة.

اختيار الكلمات: استخدام متكرر لعبارات ذات دلالات سلبية، مثل: «لا شيء يستحق»، أو «أنا متعب دائماً»، يشير إلى مشاعر الاكتئاب.

الضمائر الشخصية: تكرار كلمة «أنا» بشكل لافت قد يُعبّر عن عزلة داخلية، أو انشغال مفرط بالمشاعر الذاتية.

انخفاض التنوع اللغوي: عندما يميل الشخص إلى استخدام مفردات محدودة دون تلوين لغوي، فقد يكون ذلك علامة على تراجع الإدراك العاطفي.

النبرة الصوتية: انخفاض طاقة الصوت، أو الترددات الة بالحزن واللامبالاة، قد تكشف اضطرابات نفسية حتى في غياب التصريحات الصريحة.

كانت النتائج مذهلة بحق، حيث استطاع النظام التنبؤ بمؤشرات الاكتئاب بنسبة دقة 89 في المائة، متجاوزاً بذلك أدوات التشخيص التقليدية مثل استبانة PHQ9، التي أظهرت نسبة إيجابيات كاذبة بلغت 41 في المائة. وهذا التفوق ليس مجرد تحسين رقمي؛ إنه قفزة نوعية في كيفية فهم العقل البشري من خلال التكنولوجيا.

لكن، هل يعني ذلك أن الذكاء الاصطناعي قادر على تعويض الطبيب النفسي؟ هنا تكمن المفارقة. رغم القدرة العالية لهذه الأنظمة على الاكتشاف المبكر، فإن الباحثين يؤكدون أن دورها يجب أن يكون مكمّلاً، ولا يكون بديلاً للعلاج التقليدي. يمكن لهذه التقنيات أن تكون بمثابة خط دفاع أول، خاصة في المجتمعات التي تعاني نقصاً في الكوادر المتخصصة، أو تفتقر إلى بنية تحتية نفسية قوية.

في عالم يزداد تعقيداً وضغوطاً، ربما لا يكون الذكاء الاصطناعي هو الحل السحري، لكنه بالتأكيد يفتح هذه القدرة على الاكتشاف المبكر، والتي قد تُحدث ثورة في الطب النفسي الرقمي، خاصة في المناطق التي تعاني نقصاً في الأخصائيين النفسيين، أو تواجه تحديات اجتماعية تحول دون طلب المساعدة.

شراكة آلية في الطب النفسي

هل نحن أمام نهاية الطب النفسي التقليدي… أم ولادة شراكة جديدة؟ مع كل هذه القفزات التقنية المذهلة قد يبدو المشهد وكأننا نتجه نحو مستقبل يخلو من العيادات التقليدية، والمقابلات المباشرة. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً، إذ رغم ما تقدّمه أنظمة الذكاء الاصطناعي من أدوات تشخيص مبكر، واستجابة فورية، وتجربة خالية من الأحكام، يتّفق الخبراء على أن هذه الأنظمة يَجِبُ ألّا تحل محل العلاج الإنساني، بل أن تعمل باعتبار أنها مكمّل له، وخط دفاع أول يخفف حدة الأزمة، أو جسر مؤقت لحين الوصول إلى الدعم المتخصص.

وفي العالم العربي، حيث تقف خدمات الصحة النفسية في وجه تحديات مزمنة، مثل نقص الموارد البشرية، وضعف البنية التحتية، واستمرار الوصمة الاجتماعية الة بطلب العلاج النفسي، قد تمثّل هذه التقنيات فرصة ذهبية، فإن تم تبنّيها بعناية، فإنه يمكن أن تفتح الباب أمام نماذج رعاية أكثر شمولاً، وعدالة، وخصوصية، وتصل إلى فئات مهمّشة لطالما ظلت خارج نطاق الدعم.

لكن يبقى التحدي الأكبر سؤالاً مفتوحاً: هل سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تجاوز كونه مجرّد خوارزمية دقيقة، ليقترب من حكمة الطبيب، وحدس المعلّم، وتعاطف الإنسان؟ أم أن ما نعتبره «ثورة» سيظل أداة محدودة… لا أكثر من مرآة تعكس الألم، دون أن تلمسه حقاً؟

الجواب، على الأرجح، لن تحدّده التقنيات وحدها، بل الطريقة التي نختار بها كبشر أن نوجّه هذا الذكاء، وهل نستخدمه لتعزيز إنسانيتنا… أم لاستبدالها.

شاركها.