في ظل تسارع ملامح السينما الكوميدية السعودية واتساع رقعة حضورها، تبرز تجارب جديدة تسعى إلى تقديم الكوميديا من زوايا متعددة، سواء عبر كوميديا الموقف، أو النمط الثنائي المتناقض، أو المفارقة الاجتماعية.
ويأتي فيلم “إسعاف” كواحدة من تلك المحاولات الإنتاجية الجريئة، حيث يقدّم شكلاً مختلفاً من الكوميديا، ويُعد أول فيلم عربي يُعرض بتقنية IMAX في صالات السينما التجارية.
وبعد عرضه الأول والثاني ضمن مسابقة الأفلام الطويلة في مهرجان أفلام السعودية، الذي أُقيم بين 17 و23 أبريل الجاري، حظي الفيلم بإقبال واسع من مختلف الشرائح، وكانت وصفته السحرية ببساطة: “الضحك”.
الفيلم من إخراج البريطاني كولين تيج، ويقوم ببطولته النجم المحبوب إبراهيم الحجاج، الذي شارك أيضاً في كتابة السيناريو، إلى جانب محمد القحطاني.
ويضم الفيلم أيضاً حضوراً لافتاً لعدد من الأسماء السعودية البارزة، مثل فهد البتيري، وحسن عسيري، ونيرمين محسن، ولطيفة المقرن، إضافة إلى مشاركة شرفية من الممثل المصري أحمد فهمي.
تدور الأحداث حول شخصيتين تعملان في مجال الإسعاف: “عمر” (إبراهيم الحجاج) و”خالد” (محمد القحطاني)، يواجهان سلسلة من المواقف الطارئة والمفارقات الكوميدية أثناء تأديتهما لمهامهما في شوارع الرياض.
وتقوم العلاقة بينهما على التناقض الكلاسيكي: الصرامة مقابل العفوية، والنظام مقابل الفوضى، وهي تركيبة تُشكّل جوهر الفيلم الكوميدي.
على جهاز التنفس الصناعي
تبدأ مغامرة الحكاية بلقطة تلخّص العلاقة بين الشخصيتين أثناء قيادتهما سيارة الإسعاف، يصدمان رجلاً غامضاً يحمل حقيبة، يقف الصديق الجاد “خالد” مذهولاً، يصرّ على إبلاغ الشرطة وتسجيل البيانات، بينما يقف “عمر” أمام الموقف بردة فعل عاطفية وعشوائية، فيدفع بالأمر إلى مسار مختلف تماماً: تهريب المصاب إلى المستشفى دون إشعار رسمي، وإخفائه بين حالات الطوارئ كأنما هو تفصيل زائد في يوم عمل مضطرب.
تعكس هذه المقدّمة البنية الأخلاقية للفيلم وهي الرغبة في فعل الخير دون إدراك عواقبه، مقابل التمسك بالقانون في عالم لا يمنحك الوقت لتطبيقه، وتتصرف شخصية “عمر” من منطلق إنساني متسرّع، لا يرى الصورة كاملة، ولا يفهم أن خطأً بسيطاً في هذا النوع من المواقف يمكن أن يقود إلى سلسلة متصاعدة من الأزمات.. ومن هنا تبدأ الكوميديا.
الضحية المزيّفة والمنقذ الغافل
يعتمد أحد الخطوط الدرامية في “إسعاف” على بنية سردية معروفة في الكوميديا النفسية، تُسمّى بـ”الضحية المزيّفة والمنقذ الغافل” حيث تُقدَّم الشخصية الأنثوية الجميلة في صورة هشّة وملتبسة، تسمح بتوليد وهم البطولة لدى بطل لا يملك مؤهلاتها.
“لينا” والتي تقوم بدورها الممثلة الشابة بسمة داوود، فتاة جميلة تتبين البداية كضحية محتجزة داخل مخزن شركة، في مشهد لا يفتقر إلى القسوة. يُنقذها عمر بعشوائية طيبة، ويخفيها في منزل عائلته، تنشأ بينهما لحظات تقارب، تُبنى على الشكر والانبهار الظاهري، قبل أن تتضح الحقيقة: لينا ليست ضحية،إنما العقل المدبّر لخداعه واستدراجه.
إذن نحن أمام شخصية عمر بـ”البطل الساذج النبيل”، وهي شخصية تتكرر في الكوميديا السينمائية وتُبنى على الطيبة الزائدة والقرارات العشوائية المتخبطة وافتقار الشخصية أيضاً لمعايير الوسامة أو الذكاء و الحيلة، لكنها تجذب المشاهد بتلقائيتها وضعفها العاطفي، ما يجعلها عرضة للخذلان.
المفارقة أن هذه التركيبة، ورغم ما تحمله من إمكانيات درامية وكوميدية غنية، لم تُستثمر بصرياً أو زمنياً بما يكفي، فقد اكتفى الإخراج بالإشارة إلى هذا الخط، دون أن يُغذّيه بمواقف مكثفة تعزّز التصعيد أو تترك أثراً تراكمياً لدى المتلقي، فمنذ محاولة إنقاذه “لينا” تبين انجذابها السريع لعمر و شعورها بالأريحيه و واظهارها لمشاعر الود والامتنان، ثم انسياقها معه في مطاردة سريعة كان يمكن أن تستثمر بشكل مشوق ومطول، لكن بقيت العلاقة ضمن هذا السياق مجرد لحظات عابرة، سريعة الإيقاع، تمرّ دون أن تُمهّد لانكشاف واضح أو تنقّل شعوري مُقنِع، وكأنّ الحكاية التي كان يمكن أن تنمو داخلياً، اكتُفي بعرضها من الخارج.
ثنائية الأصدقاء: نظرية Buddy Duo
ما يميز الفيلم أيضاً هو اعتماده على واحدة من أقدم وأذكى البُنى الكوميدية في السينما، وهي ما يُعرف بـ Buddy Duo، أو ثنائية الشخصيتين المتناقضتين.
في “إسعاف”، نجد البنية الكلاسيكية المتمثلة في شخصية البطل السمين، العفوي، الأخرق، الاندفاعي في مقابل الصديق النحيل، الجاد، الحذر النظامي المراقب دوماً لتصرف رفيقه بقلق واضح، هذا النمط تحديداً يُعرف جماهيرياً بـ Laurel and Hardy Dynamic، نسبة إلى الثنائي الكلاسيكي الشهير “لورين وهاردي” حيث يُشكّل التباين في الطباع والمظهر والمواقف مصدراً ثابتاً للكوميديا، كما ينتمي أيضاً إلى بنية Clown/Straight Man Duo.
في “إسعاف”، تم توظيف “عمر” مولّداً للفوضى والضحك، و”خالد” هو المرآة التي تعكس سذاجته وتتذمر منها لبناء لحظات متكررة من الارتباك الكوميدي، و يظل التناقض قائماً حتى النهاية لترسيخ مفارقتها.
المحرك الخفي
الحقيبة التي تتنقل بين الشخصيات في “إسعاف” تُجسّد ما يُعرف في بناء الحبكات السينمائية بـ”الدافع المركزي الخفي”، وهو عنصر مادي يُحرّك كل الأحداث، لا لقيمته الفعلية بل لأنه يربط مصير الشخصيات ببعضها، دون أن يكون ظاهراً للجميع بالدرجة نفسها.
في هذا الفيلم، الحقيبة تُصبح نقطة تلاقي مصالح متضادة: يسعى إليها مدير العصابة، وخطيب الفتاة، وشريك مجهول يراقب عن بعد، بينما تظل الحقيبة في حوزة “عمر”، إذن البطل هنا لا يدرك حتى أنه محور الصراع، كما أنه لا يعرف محتوى الحقيبة، ولا أهميتها، ولا سبب تعقّد الأمور من حوله، ومع ذلك، ومن خلال عفويته وسذاجته، يُصبح الشخص الذي يعطّل كل الخطط، لا لأنه يقاومها، ولكن لأنه لا يرى أصلًا ما الذي يُحاك من خلفه.
هذا التباين بين ما يعرفه الجمهور، وما يجهله البطل، يصنع ما يُعرف بـ”المفارقة المعرفية” حيث تضحك لأنك ترى البطل يتصرف كما لو أن لا شيء يحدث، في حين أن كل شيء يتداعى من حوله.
بذكاء، يستخدم فيل “إسعاف” هذا النوع من البناء لخلق كوميديا ناعمة، تنبع من التخبط والارتباك أكثر مما تنبع من النكتة المباشرة.
المطاردة الخفيّة
تأتي المطاردة في “إسعاف” كظلّ متصاعد يلاحق البطلَين دون علمهما، فبينما يظنان أنهما يؤديان مهمات يومية، ويتنقّلان في شوارع الرياض كما يفعلان دوماً، تبدأ عناصر خارجية في تتبّع مسارهما بصمت، لا يطاردهما أحد علناً، لكن كل تحرّك لهما يُراقَب، ويُفسَّر، ويُوظَّف لصالح غايات لا يدركانها.
وهنا تُقدَّم مدينة الرياض كعنصر سردي: شوارع مزدحمة، طرقات متداخلة، وضواحي تتيح التخفي والتسلل والمراقبة دون أن يشعر بها أحد.
تتحول السيارة إلى مسرح لحركة لا يعلم سائقوها أنهم جزء من حبكة أكبر، تتعقّد المسارات، وتضيق الخيارات، وكل مشهد ظاهره عادي.. وباطنه مراقَب.
الحجاج يربح الجولة ولا يربح الحرب
لا يمكن إنكار أن إبراهيم الحجاج بات نجماً محبوباً في الوسط السعودي، وقدرته على خلق لحظة كوميدية من لا شيء تكاد تكون غريزية، في هذا الفيلم، يحاول أن يمزج العفوية بالحضور الجسدي، ويراهن على نبرة الصوت، تعابير الوجه، نظرات الارتباك، والإضافات الخاصة به وهي أدوات أتقن استخدامها.
في المقابل، يقدم محمد القحطاني دور الموظف الصارم الذي لا يستطيع السيطرة على الفوضى التي تحاصره الذي يبدو دوماً على حافة التوتر، حريصاً على صورة النظام، ومكبوتاً بين قلقه المهني وخوفه من زوجته.
جوهر البناء الكوميدي في الفيلم هي أن بقاء “عمر” عشوائياً حتى النهاية، وأن يظل “خالد” يزجره دون جدوى، الكوميديا هنا تبنى على ثبات الموقف وتكرار النمط، وليس على التطور النفسي، فكل مرة يتورط فيها “عمر”، يتكرر المشهد نفسه: اندهاش، زجر، تهرّب من المسؤولية، محاولة إصلاح، وفوضى أكبر.
الجانب العائلي في شخصية عمر تبرز في الأب (حسن عسيري) بشخصيته المتذمرة والهجومية يقوم بدور مرآة ناقدة، تقف على طرف النقيض من ابنه. وهو، بهذا الشكل، لا يُكتب ليؤدي وظيفة درامية تقليدية (الدعم أو التحوّل) سنرى هذه الثنائية الكوميدية بين الأب والإبن في العديد من الأفلام العربية أشهرها فيلم “أمير البحار” لمحمد هنيدي، فوجود الأب كناقد لاذع لا يهدف إلى إحداث أزمة وجودية، بل إلى تثبيت فكرة أن الابن لن يتغير، وأن الجمهور لا ينتظر منه أن ينضج، بقدر ما ينجو بفوضويته ذاتها.
إيقاع متسارع.. ومفارقة الهوية
تبدو البنية الإخراجية لفيلم “إسعاف” مشغولة أكثر بفكرة الترفيه السريع منها بهمّ التوليف بين الإيقاع الدرامي وروح الفكاهة المحلية، المخرج البريطاني كولين تيج، القادم من خلفية تلفزيونية بريطانية تعامل مع السيناريو كما لو أنه عرض منوّع، لا كعمل كوميدي يتطلب تدرّجاً في الإيقاع، ومسافة للتنفس بين الضحك و ما يليه.
ورغم خبرته التقنية الواضحة، فإن افتقاده الإحساس الداخلي بالإيقاع الثقافي المحلي جعل النكتة في كثير من الأحيان تظهر مبكراً أو متأخرة عن لحظتها الفعلية.
لا تتجذّر الدعابة في الموقف، لكنها تُفرض عليه، وكأن هناك ترجمة غير دقيقة للروح الساخرة السعودية، ترجمة تقف عند اللفظ وتغفل النبرة، عند الحدث وتغيب عن المزاج الجمعي الذي يصنع حس الفكاهة في هذا المكان.
ومن هنا، يبرز سؤال جاد لا يمكن تجاهله: ما الحاجة إلى الاستعانة بمخرج اجنبي في عملٍ تُبنى مفارقاته على طابع محلي خالص؟ وهل ظهور نجم مصري مثل أحمد فهمي في نهاية الفيلم في دور المدير الطبي البديل يضيف قيمة درامية؟ أم يفتح الباب أمام تساؤل آخر: هل نبحث عن شعبية إقليمية على حساب انسجام السياق الدرامي؟
بين الضحك والخديعة
في النهاية.. يُحسب لـ “إسعاف” أنه يحمل طموحاً تقنياً واضحاً، ويجرب أنماطاً درامية مألوفة ضمن الإطار الكوميدي المحلي، وقد تكرر ذلك في تجربة “سطار” لكنه في المقابل يُضيّع فرصاً غنية لتطوير الشخصيات وتثبيت هوية سينمائية أكثر عمقاً.
حافظ الفيلم على سرعة الإيقاع و تراكم المواقف، لكنه تعثر في بناء التناقضات الداخلية وتفصيل العلاقات بما يكفي لجعل الضحك ممتداً، لا مؤقتاً.
قد نضحك من ورطة البطل مع الفتاة التي خدعته، ومن تصرفاته العفوية، ومن صديقه الجاد الذي لا يكف عن التذمر.. لكن بعد الضحك، يبقى الانطباع أن الفيلم، رغم جاذبيته، مرّ بسرعة سيارة إسعاف، دون أن يتوقف طويلاً عند محطات كان يمكن أن تكون أكثر تأثيراً، وأكثر إقناعا أيضاً.